ضمن سلسلة نزف الأرواح البشرية المتواصل منذ أسابيع من دون توقف، عاشت مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور أمس السبت، يوماً دامياً بوقوع مجزرة جديدة لقي فيها ما يقارب 60 مواطناً حتفهم في قصف مسير لقوات "الدعم السريع"، استهدف مركز إيواء دار الأرقم وجامعة أم درمان الإسلامية بالمدينة، الذي يضم عشرات الأسر النازحة، في وقت تواصلت فيه الاشتباكات في المحور الشمالي للمدينة بعد تصدي الجيش وحلفائه لهجوم جديد عليها.
وفق مصادر ميدانية فإن نحو ثمانية صواريخ حارقة سقطت مباشرة على مباني المركز الواقع شرق المدينة، مما أدى إلى انهيار أجزاء واسعة من المبنى، وتحول المكان إلى ساحة مأسوية وسط صرخات واستغاثات المدنيين.
وقدرت شبكة أطباء السودان عدد القتلى بنحو 57 قتيلاً، بينهم 17 طفلاً ثلاثة منهم رضع، إلى جانب 22 امرأة و17 من كبار السن، كما أصيب 21 آخرون بجراح خطرة، بينهم خمسة أطفال وسبع سيدات، لكن تنسيقية لجان مقاومة الفاشر أكدت أمس مقتل أكثر من 60 شخصاً.
ودانت الشبكة في بيان لها ما وصفته بـ"المجزرة الوحشية المروعة" التي ارتكبتها "الدعم السريع" أمس ضد المدنيين العزل داخل دار الأرقم بمدينة الفاشر.
فاق الكارثة
وقالت تنسيقية لجان مقاومة الفاشر إن الوضع الإنساني داخل المدينة فاق حد الكارثة والإبادة الجماعية، بينما الجميع يموت ونفقد يومياً عشرات الأرواح البريئة، مرجحة أن يكون هناك جثث مزيد من الضحايا الآخرين لا تزال تحت أنقاض المباني التي هدمها القصف، بعدما احترق بعضهم داخل (كرفانات) المركز.
أضاف بيان للتنسيقية، بأن مسيرة استراتيجية ألقت ليومين متتاليين أكثر من ثمانية صواريخ حارقة، على مركز الإيواء أدت إلى تناثر جثث الضحايا المدنيين الذين جاؤوا يبحثون عن الأمان فوجدوا الموت حرقاً، في مشهد مأسوي يفوق كل وصف.
وأشار البيان إلى أن المدينة باتت تفقد يومياً أكثر من 30 من الأرواح البشرية البريئة بسبب القصف المتواصل بالمدفعية والمسيرات فضلاً عن الموت بالجوع والمرض، في ظل صمت المجتمع الدولي وتدهور الأوضاع الصحية والإنسانية.
وقال المتحدث باسم معسكر زمزم للنازحين بالفاشر، محمد خميس دودة، إن النيران اشتعلت في مركز دار الأرقم بالفاشر الذي كان يؤوي عشرات المدنيين الفارين من هجمات "الدعم السريع" على معسكر أبو شوك ولم ينج منهم أحد.
وتصاعد في الآونة الأخيرة قصف وهجمات "الدعم السريع" المسيرة على الأحياء السكنية ودور الإيواء والمرافق المدنية بما فيها المستشفيات والمساجد بالفاشر، في وقت يعاني فيه السكان العالقون في المدينة الحصار الخانق المضروب عليها من قبل قوات "الدعم السريع" منذ ما يقارب عامين.
إدانة رسمية
تعد مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور ذات الأهمية الاستراتيجية والعسكرية التي تحادد دولتي تشاد وليبيا، آخر عواصم الإقليم الخمس التي ما زال يسيطر عليها الجيش، بينما تسيطر قوات "الدعم السريع" على عواصم الولايات الأربع الأخرى (جنوب ووسط وشرق وغرب) دارفور.
ودانت الخارجية السودانية مجزرة مركز إيواء دار الأرقم بالفاشر، في ظل التجاهل الدولي لجريمة الإبادة الجماعية المستمرة ضد بعض المجتمعات في مناطق مختلفة في السودان.
ودعت الحكومة مجلس الأمن بالأمم المتحدة للاضطلاع بمسؤولياته في التصدي لهذه الميليشيات الإرهابية ورعاتها وإنفاذ قراره 2736 (24) الذي يطالب منها رفع الحصار عن الفاشر والتوقف عن مهاجمتها فوراً.
ضربات للجيش
في المقابل استهدفت غارات الجيش الجوية أمس تجمعات لقوات "الدعم السريع" في مدينة الكومة شمال الفاشر، أسفرت عن تدمير مخزن للأسلحة ومعسكر للتدريب، ومقتل العشرات من المستنفرين الذين كانوا في طريقهم إلى الفاشر، وفق مصادر ميدانية.
غير أن قوات "الدعم السريع" اتهمت الجيش بارتكاب مجزرة بشعة عبر قصف جوي لسوق مدينة الكومة بولاية شمال دارفور أودى بحياة عشرات المدنيين ما بين قتيل وجريح، ووصفتها بأنها امتداد لسياسة الأرض المحروقة والإبادة الجماعية والتهجير القسري للسكان واستمرار لنهج النظام البائد في التطهير العرقي.
ودانت وزارة الشؤون الداخلية بحكومة (تأسيس) الموازية استهداف طيران الجيش المدنيين في ما سمته بـ"المجزرة" بشمال دارفور.
كما استنكر مجلس أعيان قبيلة الزيادية استهداف الجيش مدينة الكومة، بصورة ممنهجة تعكس استخفافاً بأرواح المدنيين وخرقاً صارخاً لكل القيم والأعراف الإنسانية.
قصف مدفعي ومسير
في جنوب كردفان شنت قوات "الدعم السريع" والحركة الشعبية/ شمال بقيادة عبدالعزيز الحلو المتحالفة معها، أمس هجوماً عنيفاً بالمدفعية الثقيلة على مدينة الدلنج بولاية جنوب كردفان، مما أدى إلى تدمير عدد من المنازل، قبل أن تتدخل قوات اللواء 54 التابعة للجيش وتتصدى بالرد على الهجوم المدفعي.
ومنذ أشهر تواصل قوات "الدعم السريع"، بمشاركة قوات الحركة الشعبية، هجومها على مدينة الدلنج في محاولة للسيطرة على المدينة وعزلها عن عاصمة الولاية كادوقلي.
إسقاط جوي بالدلنج
وأوضحت شبكة أطباء السودان أن القصف المدفعي على مدينة الدلنج تسبب في إصابة 11 شخصاً بينهم ثلاثة في حال حرجة، جرى إسعافهم لتلقي العلاج بمستشفيات المدينة.
في الولاية نفسها قالت مصادر ولائية إن قوات "الدعم السريع" والحركة الشعبية هاجمت أيضاً مدينة (دلامي) بالمسيرات، واستهدفت تجمعاً للقوات المشتركة في جامعة شرق كردفان بمنطقة (أبي جبيهة) بجنوب كردفان.
وأكدت المصادر أن طيران الجيش نفذ عملية إسقاط ناجحة لقوات اللواء 54 بمدينة الدلنج، شمل تعيينات من العتاد العسكري والمؤن الغذائية والصحية.
وتعاني مدينة الدلنج الحصار منذ الأشهر الأولى لاندلاع الحرب بقطع الطريق بينها وبين مدينتي الأبيض عاصمة شمال كردفان وكادوقلي جنوباً.
غارات متواصلة
في غرب كردفان تابع الطيران الحربي أمس السبت غاراته الجوية على مواقع "الدعم السريع" في مدينتي الخوي والنهود، دمرت خلالها آليات ومخازن للذخيرة ونقاط ارتكاز تابعة للميليشيات، تمهيداً لعمليات برية واسعة منتظرة من قبل الجيش تستهدف تحرير المدينة بالكامل.
وفي السياق أكد قائد فيلق البراء بن مالك المتحالف مع الجيش، المصباح طلحة، عبر صفحته الرسمية على "فيسبوك"، أن مدينة النهود تشهد الآن ما وصفه بـ"عمليات تليين وتمهيد للاكتساح الكامل".
أشباح النهود
في هذا الوقت تشهد مدينة النهود كبرى مدن غرب كردفان انفلاتاً أمنياً وعمليات سلب ونهب لما تبقى من المواطنين والتجار، مما تسبب في موجة نزوح جديدة نتيجة التدهور الأمني والمعيشي، بينما تواصل قوات "الدعم السريع" التي تسيطر على المدينة منذ أشهر عدة إغلاق السوق لليوم السابع على التوالي.
وتداول ناشطون مقطع فيديو حديثاً يظهر المدينة التي تمثل العاصمة التجارية لغرب كردفان وأكبر مركز لبيع المحاصيل، كمدينة أشباح غابت الحياة عن شوارعها ومتاجرها بعدما هجرها معظم سكانها وتعرضت معظم مراكزها التجارية والخدمية للتدمير.
وسيطرت قوات "الدعم السريع" على مدينة النهود، ذات الموقع الحيوي كملتقى للطرق التي تربط بين إقليمي كردفان ودارفور، في الثاني من مايو/ أيار الماضي، نتيجة تراجع قوات الجيش وانسحابها نحو مدينة الخوي ثم إلى الأبيض عاصمة شمال كردفان.
بعبع جديد
في الخرطوم ومع إعلان السلطات الصحية انحسار حميات الملاريا والضنك يتصاعد القلق في ولاية الخرطوم من عودة مرض (الدفتيريا) بعد عقود من اختفائه من البلاد، عقب تسجيل 15 إصابة مؤكدة بالمرض في منطقة الجريف شرق بالخرطوم، بينها ثلاث حالات وفاة خلال ثلاثة أيام فحسب، بحسب اللجنة التمهيدية لنقابة أطباء السودان.
وقالت عضو اللجنة، أديبة إبراهيم، إن الأوضاع الصحية تنذر بانتشار وبائي وشيك بمنطقة شرق النيل ما لم تتخذ إجراءات عاجلة واستجابة فورية من وزارة الصحة والجهات المتخصصة.
وكانت وزارة الصحة بولاية الخرطوم قد أكدت حدوث انخفاض كبير في أعداد البعوض الناقل للملاريا وحمى الضنك، نتيجة للحملة القومية لمكافحة النواقل التي تنفذها وزارة الصحة الاتحادية بالتعاون مع حكومة الولاية.
وأوضح مدير إدارة مكافحة نواقل الأمراض بالوزارة، حمزة الجاك، أن المسوحات الحشرية أظهرت تراجعاً كبيراً في كثافة البعوض، بينما تواصل فرق التفتيش الميداني عملها ضمن المرحلة الثانية من العمليات.
صمت دولي
إلى ذلك ندد المندوب السوداني الدائم في جنيف، السفير حسن حامد، خلال جلسة الإحاطة المشتركة التي نظمها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) بمقر الأمم المتحدة بجنيف، بصمت المجتمع الدولي تجاه فظائع الميليشيات وجرائمها بما في ذلك استخدام الحصار والتجويع كسلاح لقتل المدنيين أو تهجيرهم في تحد صارخ للنداءات الدولية وقرار مجلس الأمن رقم 2736.
واستعرض حامد، في اللقاء الذي شاركت فيه المفوضية السامية للاجئين، ومنظمتي الهجرة الدولية وأطباء بلا حدود، الأوضاع الإنسانية والصحية في البلاد بالتركيز على مدن الفاشر والدلنج وكادوقلي المحاصرة.
كشف المندوب عن أن معدلات العودة الطوعية للنازحين واللاجئين تجاوزت مليوني عائد خلال سبتمبر/ أيلول الماضي، مؤكداً أن الحكومة تبذل جهوداً كبيرة لتوفير الخدمات والحاجات الآنية للعائدين.
تنسيق أمريكي أوروبي
دولياً أعلن مستشار الرئيس الأمريكي، ومساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مسعد بولس، أن واشنطن وبروكسل اتفقتا على أهمية استمرار التنسيق والمساعي المشتركة إلى إيجاد حلول سلمية ومستدامة تعزز الاستقرار في شمال وشرق أفريقيا، ومعالجة الأوضاع السياسية والإنسانية في كل من ليبيا والسودان والمغرب ومنطقة البحيرات العظمى، بما فيها ملف الصحراء الغربية الذي لا يزال يشكل نقطة حساسة في العلاقات الإقليمية.
وأكد بولس، في تصريحات صحافية، التزام كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع القارة الإفريقية، مشيراً إلى توافق كامل في المواقف في شأن القضايا الإقليمية ذات الأولوية.
وكان المستشار الأمريكي قد بحث مع رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، في بروكسل، ملفات ترتبط بقضايا تلك الدول إلى جانب التعاون في مجالات الأمن الإقليمي والتنمية الاقتصادية.
تصويت أممي
أممياً من المنتظر أن يصوت مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الأسبوع المقبل، على مشروع قرار يدعو إلى وقف فوري كامل وغير مشروط لإطلاق النار، مع إنشاء آلية رقابة دولية مستقلة لمتابعة تنفيذ القرار، وإعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية، والتوصل إلى حل تفاوضي وسلمي للصراع، وإطلاق عملية انتقال سياسي موثوقة وشاملة بقيادة مدنية.
وتشير مسودة القرار بحسب مصادر دبلوماسية إلى أن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت ضد المدنيين في السودان خلال الحرب المستمرة، منها جرائم حرب وضد الإنسانية تستدعي الإحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية، مشددة على ضرورة محاسبة المسؤولين عنها.
(اندبندنت عربية)