في واحد من أبشع تداعيات الصراع الدامي في اليمن تكشف بيانات ميدانية حديثة عن تفاقم غير مسبوق في حالات الانتحار في مؤشر جديد إلى حجم الانهيار النفسي والإنساني الذي يعصف بالبلاد وسط غياب أي أفق للانفراج.
وقالت رئيسة مؤسسة تمكين المرأة اليمنية (YWEF) المحامية زعفران زايد إن التقرير الصادر من المؤسسة "لم يكن مجرد أرقام عن الانتحار في اليمن، بل صرخة ألم لضحايا القهر والخذلان في وطن أنهكته الحرب وأضاع بوصلته الإنسانية"، مؤكدة أن الظاهرة باتت "مؤشراً مقلقاً يعكس انهيار منظومة الدعم النفسي والاجتماعي في البلاد".
مناطق جماعة الحوثي
كشفت زعفران زايد في حديثها إلى "اندبندنت عربية" عن "تصاعد هذه الظاهرة بمؤشر مروع"، مشيرة إلى أن البيانات الميدانية "أظهرت أن أكثر من 78% من حالات الانتحار سجلت في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين"، وهو ما يعكس، على حد وصفها، "عمق الانهيار النفسي والاجتماعي الذي يعيشه اليمنيون، ولا سيما النساء والفتيات اللاتي يدفعن ثمن الابتزاز والعنف والحرمان وغياب الرعاية في المناطق الخاضعة للجماعة المصنفة على لوائح الإرهاب".
وأوضحت زايد أن تفشي معظم حالات الانتحار في مناطق سيطرة الحوثيين، كما ورد في التقرير استناداً إلى فرق الرصد الميدانية، يعود إلى جملة من الأسباب أبرزها "تدهور الأوضاع المعيشية والمجاعة التي تضرب تلك المناطق نتيجة انقطاع الرواتب من قبل الجماعة الحوثية مقابل ارتفاع مهول في معدلات الفقر والبطالة وتفاقم آثار الجفاف الزراعي والهجرة وغيرها من العوامل". وأضافت أن من بين الأسباب أيضاً "انتشار ظاهرة الابتزاز الإلكتروني وغياب العدالة حتى للأطفال الذين يواجهون تعبئة طائفية يومية تغذي عقول النشء على حب الموت وكراهية الحياة والبقاء".
وأشارت إلى حالات "اليأس وانسداد الأفق لدى الشباب بسبب الأعباء الأسرية والديون والتراكمات الاجتماعية والنفسية".
وأوضحت زايد أن بعض المنتحرين "أقدموا على قتل أفراد من أقاربهم قبل الانتحار في سلوك يعكس مستوى مقلقاً من انعدام السلام الأهلي والنفسي لدى شرائح اجتماعية واسعة في المجتمع".
في الصدارة
تكشف الإحصائية الميدانية التي أعدتها مؤسسة تمكين المرأة اليمنية (YWEF)، وحصلت "اندبندنت عربية" على نسخة منها، عن توثيق 200 حالة انتحار بالأسماء والتفاصيل في 18 محافظة يمنية، غالبيتها في مناطق خاضعة لسيطرة الحوثيين، من بينها 34 حالة لأطفال، و32 لنساء، و64 لمعلمين وموظفين حكوميين.
ويشير التقرير إلى أن 78% من إجمال الحالات سجلت في مناطق سيطرة الجماعة الحوثية، في حين شكل الابتزاز الإلكتروني والعاطفي سبباً مباشراً في ما لا يقل عن 22% من حالات الانتحار بين النساء والفتيات.
وتصدرت محافظات إب وتعز (جنوب غربي البلاد)، وصنعاء وذمار (شمالاً) معدلات حالات الانتحار، وفقاً للبيانات الميدانية التي رصدتها فرق المؤسسة.
60 طبيباً
في مؤشر يعكس قسوة الواقع الصحي في البلاد رصد التقرير انهياراً شبه كامل في منظومة الرعاية النفسية، إذ لا يتجاوز عدد الأطباء النفسيين في اليمن 60 طبيباً فحسب، مع إغلاق نحو 80 في المئة من المراكز والعيادات النفسية وانعدام أي برامج وقائية أو خطوط طوارئ مخصصة للصحة النفسية.
وأكد التقرير أن "الانتحار في اليمن لم يعد قراراً فردياً بقدر ما هو نتيجة تراكمات قهرية تواطأت فيها الحرب والفقر والعزلة وانعدام العدالة".
قرار وطني
ضمن الرؤية التي تسعى إلى وضع حد لتنامي الظاهرة تقول زعفران زايد إنه "حان الوقت لاتخاذ قرارات رسمية للتعامل مع قضية الانتحار بوصفها قضية وطنية وإنسانية عاجلة على أن تبادر الجهات الرسمية والمنظمات الأممية إلى تبني برنامج وطني شامل للدعم النفسي والاجتماعي والمعيشي لأن الصمت عن هذه المأساة يعد مشاركة غير مباشرة في الجريمة".
ويأتي تقرير مؤسسة تمكين المرأة اليمنية (YWEF) بعنوان "بين القهر والخذلان" تزامناً مع اليوم العالمي للصحة النفسية الموافق الـ10 من أكتوبر، حيث وثق حالات الانتحار استناداً إلى بيانات ميدانية ومصادر أممية وإعلامية ليشكل أول محاولة وطنية شاملة لرصد الظاهرة بالأرقام والقصص الإنسانية.
13 ألف ضحية وانهيار
وفقاً للتقرير تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى أن اليمن يسجل أكثر من 1660 حالة انتحار سنوياً، أي بمعدل 5.2 حالة لكل 100 ألف نسمة، فيما يقدر العدد الإجمالي خلال الفترة 2015 - 2025 بما يراوح ما بين 13 ألفاً و16 ألف حالة انتحار.
ويؤكد التقرير أن "الحرب في اليمن لم تكتفِ بقتل المدنيين بالقذائف، بل دفعت الآلاف إلى قتل أنفسهم تحت وطأة الفقر والخذلان واليأس".
قصص الأسى
يتضمن التقرير ملحقاً ميدانياً بعنوان "شهادات من الميدان" يوثق نماذج إنسانية مؤلمة من بينها قصة الطفل أحمد الحسيني (12 سنة) الذي أنهى حياته شنقاً بعد حرمانه من المدرسة بسبب الفقر، والطالبة مثنى (22 سنة) التي وضعت حداً لحياتها بعد ابتزازها إلكترونياً في غياب أي حماية قانونية، والمعلم ياسر جنيد (45 سنة) الذي انتحر بعد عامين من انقطاع راتبه واعتقاله، والمخترع عبدالمجيد علوس (32 سنة) الذي أقدم على الانتحار عقب التضييق عليه ومصادرة اختراعاته.
وتؤكد المؤسسة أن هذه الحالات تمثل "قمة جبل الجليد لظاهرة أعمق تتنامى بصمت في ظل الخوف والوصم الاجتماعي".
(اندبندنت عربية)