تحف من المرمر والذهب والبرونز، وأشكال مختلفة تصور ملوكا قدامى، ومنحوتات حجرية مختلفة الأشكال والأحجام.. تحف أثرية لا تقدر بثمن، ليست معروضة بمتحف باليمن وإنما على رفوف منزل مواطن يهوى جمع الآثار ويشتريها بمبالغ زهيدة من البدو المقيمين قرب مناطق تحوي الكثير من الكنوز التاريخية.
ومن داخل متحفه الخاص في منزله الطيني على أطراف قريته الواقعة بالقرب من مدينة مأرب القديمة، حيث قصور مملكة سبأ وعرش ملوكها، يقول سالم (56 عاما) إن مخزونه كان عامرا بالكثير، ولم يبق منه سوى أقل من النصف، فجزء منه قد سُرق، وجزء أُهدي أو بيع.
الآثار التي يقتنيها سالم لم تكن من معالم مأرب وآثارها وحسب، بل من محافظات مختلفة كما تشير الكتابات على أطرافها الصدئة والمرقمة بحروف غير مرتبة. قال "فحصها باحث أجنبي وأرجع كل تحفة إلى منطقتها، ومقابل ذلك أهديته ساق خيل من البرونز".
وبينما تخلو محافظة مأرب بوسط اليمن والمشهورة بمعالمها الأثرية والتاريخية من متحف واحد لحفظ الآثار وعرضها، توجد في منازل المواطنين عشرات المتاحف الخاصة وفي بيوت شخصيات قبلية ومشايخ وقيادات عسكرية حازتها منذ زمن، وما زالت تجمع ما استطاعت الوصول إليه عن طريق التنقيب العشوائي أو الشراء من السكان بمبالغ زهيدة.
وسالم واحد من مئات اليمنيين الذين يجمعون الآثار في منازلهم، لكنها لا تبقى كثيرا على الأرفف، بل تغادرها نحو طريق تجارة الآثار التي راجت بقوة خلال سنوات الحرب، بحسب الباحث اليمني رياض الزواحي الذي يتتبع المتاحف الخاصة.
وقال الزواحي لوكالة أنباء العالم العربي (AWP) إن جامعي الآثار وتجارها موجودون في مختلف المحافظات اليمنية، إلا أن صنعاء ومأرب والجوف على وجه الخصوص تنتشر فيها المتاحف الخاصة".
وأكد أن الكثير من القطع الأثرية المعروضة في مزادات العالم أخذت طريقها من تلك "المتاحف الخاصة" إلى الخارج وإلى المزادات عبر التهريب والمتاجرة غير المشروعة.
مهنة ومصدر للكسب
يقول محمد باعليان، أستاذ آثار وحضارة اليمن القديمة في جامعة عدن، في تصريحات لوكالة أنباء العالم العربي "في اليمن يختلف موضوع المجموعات الخاصة عن بقية العالم. فمالكو القطع الأثرية يقتنون مجموعاتهم بطرق غير شريفة، من خلال نبش المواقع الأثرية عبر سماسرة الآثار".
وتابع أن ظاهرة جمع الآثار أصبحت "مهنة ومصدر تكسب" حيث تكدست بيوت أو قصور بعض جامعي الآثار، ولا سيما في صنعاء، بآلاف القطع الأثرية التي لم تكن خاضعة لإشراف هيئة الآثار والمتاحف.
وأضاف "جامعو الآثار الكبار هم قلة يتمتعون بنفوذ سياسي وعسكري وقبلي شكّل نفوذهم حماية لهم من القانون".
واستطرد "وصل نفوذ جامعي الآثار في مرحلة سابقة حد التدخل في صياغة قانون الآثار اليمني لعام 1995 وجعلوه قانونا هلاميا مسخا حتى لا تطبق مواده العقابية عليهم، بل واستغل تجار الآثار ذلك القانون لنبش المواقع بحجة جلب القطع الأثرية لهيئة الآثار".
وقال "الحقيقة أن القانون لا يجبر مالك القطع الأثرية على تسليمها للجهات المعنية".
وطالب أستاذ الآثار بإصدار قانون آثار صارم "يحد من السرقة والاتجار بالآثار ويلاحق أصحاب المجموعات الخاصة الذين تكدست منازلهم بالآثار بطرق مخالفة للقانون ويحاسبهم على كل ما خرج عن حدود البلاد من آثار".
ولا يستطيع باعليان تأكيد أن أصحاب المجموعات الخاصة هم المسؤولون عن تهريب الآثار للخارج، لكنه يستدرك "ولكن ربما لهم دور معين إذا كان المقصود من الجمع هو المتاجرة بالآثار".
وأرجع السبب الرئيسي وراء اتساع نشاط تهريب الآثار إلى "انهيار مؤسسات الدولة وغياب دورها بسبب ضعفها في مختلف القطاعات بما فيه قطاع الآثار". وأضاف "الحرب جعلت المواقع الأثرية مباحة لسرقة الآثار والاتجار فيها".
وحول إمكانية استعادة التحف والآثار اليمنية من مختلف متاحف دول العالم، قال إن الدولة ليست قادرة على استرجاع أغلب تلك الآثار لأنها غير مسجلة رسميا في سجلات الهيئة العامة للآثار، "وحتى تلك المسجلة تجد الدولة صعوبة في استرجاعها وخاصة في ظل الوضع الراهن".
الهيئة العامة للآثار
يقر وكيل الهيئة العامة للآثار محمد السقاف باستشراء تهريب الآثار، ويقول إنها قضية تحمل أبعادا عدة وتُعبر عن ضعف توعوي مجتمعي بأهمية الحفاظ على الآثار.
وتابع في تصريحات لوكالة أنباء العالم العربي "في ظل الظروف التي تمر بها البلاد ظهرت تداعيات كثيرة من بينها تهريب الآثار والنبش الممنهج للمواقع الأثرية في ظل انعدام الرقابة الأمنية وضعف أداء أجهزة الدولة وخفر السواحل وضعف التنسيق الأمني بين القطاعات الأمنية في الدولة".
وبالنسبة لدور الهيئة العامة للآثار إزاء هذه القضية قال "هو أداء لا يرتقي إلى المستوى المطلوب كجهة معنية بحماية الآثار، ولكن هناك أسبابا عديدة حدّت من الوصول إلى المستوى المناط بها".
وعدد بعض هذه الأسباب ومنها "غياب الدعم الحكومي للهيئة العامة للآثار، حيث أن الهيئة لم تتسلم ميزانيتها التشغيلية من قبل الحكومة كما أن منظومة الدولة لم تساهم في توفير الكثير من المستلزمات".
وأضاف "لا يتوفر للهيئة أي وسيلة مواصلات، إضافة إلى أن الهيئة العامة للآثار تباشر عملها في مكتب محافظة عدن للآثار، حيث لا يوجد مقر حكومي مخصص للهيئة التي سيطرت جماعة الحوثي على مقرها الرئيسي في صنعاء".
وأشار إلى أن الأمر يتطلب تعزيز الرقابة على 24 منفذا رسميا في البلاد برا وبحرا وجوّا لرصد أي عملية تهريب للآثار، وذلك بخلاف المنافذ غير الرسمية التي يستخدمها الصيادون مثلا.
قال "الوضع العام في البلاد لا يساعد حاليا على العمل للحد من ظاهرة تهريب الآثار".
وأضاف أنه خلال سنوات الحرب "تشكلت عصابات منظمة للاتجار بالآثار، إضافة إلى دخول الكثير من العناصر والجماعات المتطرفة في عملية الاتجار بالآثار مستغلة الوضع الذي تمر به البلاد وضعف دور مؤسسات الدولة".
محاولات الحل
نشر المجلس الدولي للمتاحف (الإيكوم) قائمة طوارئ حمراء للممتلكات الثقافية اليمنية المهددة بالخطر وتضم 46 قطعة أثرية كنماذج لشكل ونوعية الآثار اليمنية، وذلك للتعريف بها والحد من الاتجار غير المشروع بها.
وبحسب المجلس الدولي المدعوم من وزارة الخارجية الأميركية، فإن انعدام الاستقرار الناجم عن الحرب ألحق أضرارا جسيمة بالإرث الثقافي اليمني. وأضاف أن عددا كبيرا من المواقع والمتاحف اليمنية تأثر بالمعارك كما أن عددا كبيرا من القطع الأثرية تم التنقيب عنها بطريقة غير شرعية، رغم أن الإرث الثقافي اليمني محمي بالقوانين المحلية والدولية.
لكن رغم كل المعوقات وقلة الإمكانيات، يقول السقاف إن الهيئة العامة للآثار تعمل على التنسيق مع المنظمات المحلية والدولية ودفع الحكومة للتوقيع على الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالاتجار بالآثار والتي لم يصادق عليها اليمن حتى الآن.
أما عن أولويات هيئة الآثار حاليا فقال إنها تتمثل في العمل على تثبيت الإطار القانوني للحد من المتاجرة بالآثار وتهريبها للخارج، وملاحقة الآثار اليمنية المعروفة في دول العالم وفي المزادات والمتاحف العالمية.
لكنه يشير إلى أن ذلك يسير بخطى بطيئة "لا ترتقي إلى ما تطمح إليه هيئة حماية الآثار بحكم الإمكانيات وقدرات طاقم العمل في الهيئة".
ويرى السقاف أن اليمن بحاجة إلى إنشاء رقابة رقمية على المواقع الأثرية لكشف ما تتعرض له من عمليات نبش وتخريب، لافتا إلى صعوبة استرداد القطع الأثرية بعد تهريبها للخارج لأن استخراجها من خلال نبش المواقع الأثرية يعني أنها غير مسجلة مسبقا لدى الهيئة العامة للآثار.
وطالب السقاف بتشديد بنود القانون اليمني وتغليظ العقوبات الخاصة بتجارة الآثار.