تعيش أسر سودانية عدة معاناة نفسية يصعب وصفها بسبب اختفاء أبنائها في ظروف غامضة منذ سيطرة قوات "الدعم السريع" على الفاشر في الـ26 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، إذ لا يزال مصير الآلاف مجهولاً، بخاصة في ظل ارتكاب هذه القوات انتهاكات واسعة ضد المدنيين وتنفيذ تصفيات ميدانية وحشية، وحدوث مئات الوفيات.
وبحسب جهات حقوقية فإن عدد المفقودين بلغ نحو 20 ألف شخص، وتتهم "الدعم السريع" بالتورط في عمليات احتجاز واعتقال غير قانونية في حق العالقين داخل الفاشر، في وقت لم يفقد ذووهم الأمل بالوصول إليهم من خلال البحث بجميع الطرق والوسائل المتاحة.
خوف وقلق
تروي مريم جادين التي فقدت ابنها حسين منذ أكثر من 15 يوماً، "كان ابني خارج المنزل عندما اقتحم ’الدعم السريع‘ الفاشر، وفي لحظات الكر والفر للنجاة ومغادرة المدينة، لم يصل إلينا، حاولنا الاتصال به فوجدنا هاتفه مغلقاً، ووضعنا احتمال أن يكون فقد الشحن أو بسبب عطل في شبكات الاتصالات التي تتأثر في كل فترة".
وأوضحت جادين "بدأ القلق يساورنا مع مرور الوقت حتى دخل الليل، ليصبح الأمر بالنسبة إلينا غير عادي، ولم أستطع النوم طوال تلك الليلة، في الصباح الباكر تحركنا من دونه إلى منطقة طويلة، ومنذ ذلك اليوم بدأنا في البحث عنه بين الآتين إلى مناطق تجمعات النازحين من دون أن نجد أي خيط يوصلنا إليه حتى هذه اللحظة".
وأردفت "قلبي يتمزق من شدة الخوف والقلق على مصير، ابني بخاصة بعد عدم ظهوره في الفيديوهات المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي التي توثق لعمليات اختطاف مقابل فدية".
مصير مجهول
أشار الزبير هاشم الذي وصل محلية مليط إلى أن "أسرته فقدت الاتصال بشقيقه منذ 21 يوماً، ولم يصل مع الفارين من الفاشر إلى مناطق تجمعات النازحين حتى الآن، ونعاني آثاراً نفسية صعبة للغاية بسبب الانشغال بمصيره المجهول، إذا كان حياً أم ميتاً".
ولفت إلى "تزايد قلق النازحين على أفراد عائلاتهم الذين بقوا في الفاشر أو لم يتمكنوا من مغادرتها، ففي ظل انقطاع الاتصالات، بات من الصعب معرفة مصير عشرات الآلاف ممن يعتبرونهم ممنوعين من مغادرة المدينة".
ونوه هاشم بأن "هناك من تعرف إلى أقربائه عبر مقاطع الفيديو أثناء الاستجواب من قوات ’الدعم السريع‘، وبدت كثير من وجوه الضحايا واضحة بدرجة تكفي لأن يتعرف إليها أهلهم وذووهم بسهولة، لكن مصيرهم مجهول حتى الآن".
قضية مصيرية
في السياق، يقول المحامي والمستشار القانوني أحمد موسى إن "ملف المفقودين في الفاشر يعتبر من القضايا المصيرية المرتبطة بالنزاعات والحروب، ونظمها اتفاق جنيف في عام 1947، وبروتوكولات لاحقة لها في 1977، وفرض بحسب نص الاتفاق التزام أطراف النزاع البحث بجدية عن المفقودين وإعداد تقارير عنهم، وتقديمها إلى المنظمات العاملة في المجال".
وأضاف "تظل أعداد المفقودين دوماً غير معلومة بسبب توزع النازحين على معسكرات عدة، إضافة إلى صعوبة إيجاد وسائل تواصل بينهم نتيجة انشغال أطراف النزاع بالحرب".
وبين موسى أن "اتفاق حماية حقوق المفقودين تختلف عن اتفاق الاختفاء القسري لعام 2002، التي دوماً تلتزم بها الدول، وهو مرتبطة بالعمل السياسي، وبعد دخول الميليشيات مدينة الفاشر، وبحسب تقارير موثقة ظهرت أعداد كبيرة من المفقودين، بالتالي يجب العمل مع الأجهزة الرسمية والمنظمات الإقليمية والدولية لإعداد تقارير عن الضحايا والضغط على الميليشيات لإطلاق سراحهم، وكذلك تفعيل القوانين والمواثيق لحماية المفقودين".
اعتقالات تعسفية
بدورها، دانت مجموعة "محامو الطوارئ" الحقوقية الاعتقالات التعسفية التي نفذتها "الدعم السريع" في حق مئات المدنيين في الفاشر عقب سيطرتها على المدينة، مشيرة إلى أن المعتقلين نقلوا إلى معتقلات مكتظة بالمحتجزين ضمن ظروف صحية وإنسانية متدهورة، أدت إلى وفاة بعضهم بسبب الجوع وسوء المعاملة ونقص الرعاية الطبية، في انتهاك للقانون الدولي وقواعد العدالة الجنائية.
وطالب بيان للمجموعة بإطلاق سراح المدنيين فوراً ومشاركة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في زيارة المعتقلات للتحقق من سلامة المحتجزين وتقديم الدعم القانوني والإنساني.
وشددت "محامو الطوارئ" على ضرورة حماية النساء والأطفال والمحتجزين القصر وفتح تحقيق مستقل ومحايد في حالات الوفاة أو سوء المعاملة ومحاسبة المسؤولين عنها، والامتناع عن الاعتقالات التعسفية المستقبلية والالتزام الكامل بالقانون الدولي الإنساني واتفاقات جنيف.
غياب الإحصاءات
على الصعيد نفسه، أوضح رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف الصادق علي حسن أنه "لا توجد إحصاءات دقيقة بعدد المفقودين في الفاشر منذ سيطرة الدعم السريع على المدينة بسبب انقطاع شبكات الاتصالات"، ونوه بأنه "من خلال المتابعة اتضح وجود آلاف يحتاجون إلى معاملة تراعي حقوقهم الإنسانية والقانونية".
وتابع حسن "خلال الأسبوع الماضي وصلت أكثر من 6 آلاف أسرة من الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور والمناطق المجاورة إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية، بالتالي فإن أعداد العالقين في الفاشر تصل إلى نحو 300 ألف شخص وكثير منهم لا يعرف مصيرهم".
بحث وتنسيق
وسط هذه الأجواء، أشارت المنسقية العامة للنازحين بدارفور إلى أن هناك من لا يزال يبحث عن أقربائه وأسرهم حتى في مقاطع الفيديو التي تتضمن استجوابات وإطلاق رصاص وتصفيات، وهناك من نجح في التواصل مع أسرته داخل المدينة بعد اعتقاله والإفراج عنه لاحقاً.
وأوضح المتحدث باسم المنسقية آدم رجال أن المنسقية تعمل على التواصل مع بعض أسر الفارين ممن وصلوا إلى طويلة وتنسق مع مسؤولي المعسكر في شأن المفقودين عبر منصات غرف الطوارئ بمنطقة طويلة ضمن مساعي لم شمل الأسر التي افترقت وتقطعت السبل ببعض أفرادها.
يشير رجال إلى أن "هناك أطفالاً تائهين، بعضهم أحضرتهم المنظمات من منطقة (كاس) وهم الآن موجودون ضمن الضحايا ونحاول إلحاقهم بأهلهم، وهناك أطفال فروا من دون أسرهم إلى نيالا وأحضرتهم المنظمات ونعمل على إلحاقهم بأسرهم في منطقة طويلة".
آلاف المفقودين
إلى ذلك، قالت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إن "عشرات الآلاف من الأشخاص الذين فروا من مدينة الفاشر السودانية لا يزالون في عداد المفقودين، مما أثار مخاوف في شأن سلامتهم بعد ورود تقارير عن حالات اغتصاب وقتل وانتهاكات أخرى من جانب الفارين.
وقال فارون من المدينة إن مدنيين أطلق عليهم الرصاص في الشوارع وتعرضوا لهجمات بطائرات مسيرة، وتشير تقارير ميدانية من دارفور إلى أن نساء وصل بهن الأمر إلى حد البحث عن أوراق الشجر البرية والتوت لغليها لصنع حساء.
وقالت رئيسة المكتب الفرعي للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين جاكلين ويلما بارليفليت، من بورتسودان، إنه في حين سجلت المفوضية فرار ما يقارب 100 ألف شخص من المدينة منذ الاستيلاء عليها، فإن نحو 10 آلاف شخص فقط تسنى إحصاؤهم في مراكز وصول مثل مدينة طويلة.
وذكرت أن "هناك عدداً كبيراً من الأشخاص الذين تقطعت بهم السبل في مكان ما ولا يستطيعون التحرك أكثر من ذلك، بسبب الخطر أو خشية إعادتهم للفاشر أو وجود أشخاص ضعفاء للغاية بينهم".
وأضافت أن رحلاتهم أصبحت أطول وأكثر خطورة، إذ يبتعد الناس بصورة متزايدة عن الطرق المعروفة لتجنب نقاط التفتيش التابعة للمسلحين. وقطع بعضهم مسافات وصلت إلى ألف كيلومتر للوصول إلى مدينة الدبة، في الولاية الشمالية.
ولا يزال عدد من تبقى في الفاشر غير معلوم، وذكرت مصادر محلية للمفوضية أن آلافاً إما يمنعون من المغادرة أو لا يملكون القدرة أو الوسائل اللازمة للفرار.
(اندبندنت عربية)