في مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد، تتداخل فيه الملفات الأمنية بالاستراتيجية، والاقتصادية بالسياسية، تعكف إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، منذ عودتها إلى البيت الأبيض في يناير/ كانون الثاني 2025، على إعادة رسم مقاربتها للملف السوري.
فبعد سنوات من سياسات أمريكية اتسمت بالتردد وتضارب الأجندات، ولا سيما خلال حقبتي باراك أوباما وجو بايدن، تتجه واشنطن اليوم بخطى ثابتة نحو سياسة أكثر مباشرة و"براغماتية"، عنوانها الأبرز تحقيق النتائج على الأرض وضبط التوازنات الدقيقة، بعيداً عن الاعتبارات الآيديولوجية أو الرهانات الطويلة الأمد.
وتأتي هذه المقاربة المستجدة استجابة لمتغيرات جوهرية طرأت على الساحة السورية، يتصدرها سقوط النظام السابق، وصعود حكومة جديدة تسعى بدأب لتثبيت شرعيتها الداخلية وانتزاع اعتراف دولي، بالتوازي مع استمرار المخاطر التي يمثلها تنظيم "داعش"، وتراجع النفوذ الإيراني، وتنامي الأدوار الإقليمية الفاعلة لكل من السعودية وتركيا وقطر.
وضمن هذا المشهد، تعيد واشنطن تموضعها بما ينسجم مع "عقيدة ترمب" للشرق الأوسط، القائمة على فرض الاستقرار، وتقليص تكلفة الانخراط العسكري المباشر، وفتح الأبواب أمام مشاريع التنمية والاستثمار.
المصالح قبل الآيديولوجيا
في قراءة لهذا التحول، يرى فراس فحام، الباحث في "مركز أبعاد للدراسات"، أن سياسة الرئيس ترمب تجاه سوريا يمكن توصيفها بأنها "سياسة براغماتية بامتياز"، تركز في جوهرها على المصالح الدولية والاقتصادية، متجاوزة الخلفيات الفكرية أو الآيديولوجية للحكومة السورية الجديدة.
ويشير فحام إلى أن نقطة الارتكاز في التقاطع المستجد بين واشنطن ودمشق تتمثل في "منع عودة النفوذ الإيراني إلى سوريا"، وهو هدف يحتل الصدارة في حسابات الإدارة الأمريكية الحالية.
ويضيف الباحث أن هذه المقاربة لا يمكن فصلها عن مواقف الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، التي أبدت دعماً صريحاً للحكومة السورية الجديدة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، تليها تركيا وقطر، لافتاً إلى أن إدارة ترمب أبدت "استعداداً للاستجابة لهذه المواقف" بعدّها ركيزة أساسية في عملية إعادة بناء منظومة التحالفات الإقليمية.
ولدى عقد مقارنة مع الإدارات السابقة، يعدّ فحام أن نهج أوباما وبايدن كان أقرب إلى "إطلاق يد إيران في المنطقة"، ودعم نفوذ الأقليات، ولا سيما من خلال التحالف الوثيق مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، ما أسهم في تعقيد المشهد وإضعاف فرص قيام دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن ومنع عودة التنظيمات المتطرفة.
من الرياض إلى واشنطن.. محطات تحول
يرصد فحام المحطات المفصلية في مسار سياسة ترمب الجديدة، مشيراً إلى أن نقطة البداية كانت في اللقاءات التي شهدتها الرياض في يونيو/ حزيران الماضي، حين أعلن الرئيس الأمريكي، بطلب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، رفع العقوبات عن سوريا، في خطوة قُرئت بوصفها "أول رسالة إيجابية من واشنطن تجاه دمشق".
وقد تبع ذلك لقاء ثلاثي جمع ترمب بولي العهد السعودي والرئيس السوري أحمد الشرع، تخللته إشادة لافتة من الرئيس الأمريكي بنظيره السوري، عكست رغبة واشنطن في الانفتاح السياسي.
غير أن المحطة الأهم، وفقاً لفحام، تمثلت في "قمة واشنطن" التي عقدت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حيث استقبل ترمب الرئيس الشرع في البيت الأبيض، في لقاء وصفه الباحث بأنه "نقطة تحول مفصلية".
فعقب هذا اللقاء، بدأت الإدارة الأمريكية حراكاً فعلياً للضغط على الكونغرس لإبطال قانون "قيصر"، بالتزامن مع الإعلان عن ضم سوريا إلى التحالف الدولي ضد "داعش"، ما نقل العلاقة بين الجانبين من التنسيق المحدود إلى ما يشبه "علاقة التحالف".
"قسد" ومستقبل شرق الفرات
وحول ملف "قوات سوريا الديمقراطية"، يوضح فحام أن إدارة ترمب تتعاطى مع هذا الملف من زاوية عملية بحتة، توازن بين مصالحها مع الحكومة السورية الجديدة - وهو ما انعكس في تراجع الدعم لـ"قسد" مقارنة بعهد بايدن - ومصالح الحليف التركي.
وباتت واشنطن تنظر إلى دمشق بوصفها "الطرف الأكثر فاعلية" في الحرب على تنظيم "داعش".
وتستند هذه الرؤية إلى توصيات مراكز أبحاث أميركية أكدت أن الاعتماد الأحادي السابق على المكون الكردي، وما رافقه من ممارسات في شرق سوريا، خلقا "حالة من المظلومية" استثمرها التنظيم المتطرف في التجنيد.
وعليه، اقتنعت الإدارة بأن التعاون مع دمشق أكثر جدوى، مع السعي لدمج "قسد" ضمن الدولة السورية وترتيب وضعها أمنياً، لا التخلي عنها في المطلق.
وفي سياق متصل، وحول التوغلات الإسرائيلية جنوب سوريا، يؤكد فحام أن واشنطن تنظر «بعدم رضا» لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، عادّة أنها تقوض الاستقرار الإقليمي وتعارض رؤية ترمب للتنمية.
كما تتخوف الولايات المتحدة من أن إضعاف الحكومة السورية قد يفتح الباب مجدداً لعودة النفوذ الإيراني ونشاط "داعش".
أما فيما يخص محافظة السويداء، فيشير فحام إلى تبني الإدارة الأمريكية ضرورة إدماج المحافظة في الدولة، مستشهداً بتصريحات للمبعوث الأمريكي توم برّاك، الذي عدّ "اللامركزية فشلت في الشرق الأوسط"، ما يعكس توجهاً لدعم سوريا موحدة.
المؤسسة العسكرية.. قراءة موازية
من زاوية أخرى، يقدم الباحث في الجماعات المسلحة، رائد الحامد، قراءة مكملة للموقف الأمريكي، مشيراً إلى أنه على الرغم من توجه ترمب في ولايته الأولى لسحب القوات وفض الشراكة مع "قسد"، فإن تحذيرات كبار القادة العسكريين من عودة "داعش" بعد معارك الباغوز مارس/ آذار 2019 دفعته للإبقاء على نحو 2000 جندي.
ويذكّر الحامد بأن الشراكة مع "قسد" تعود لمعارك كوباني 2015، حيث اعتمدت عليها واشنطن بوصفها قوة برية.
لكن الحامد يلفت إلى أن "السياسة الجديدة" لما بعد سقوط نظام بشار الأسد، وبعد انضمام سوريا للتحالف الدولي، باتت تقوم على عدم الاعتراف بأي كيان مستقل شرق الفرات، ورفض الصيغ الفيدرالية المشابهة لإقليم كردستان العراق.
ويختم الحامد بأن هذه السياسة الجديدة "لا تتضمن ضمانات أمريكية حقيقية لقسد في مواجهة تركيا"، وتتقاطع مع ضغوط لدمجها في المؤسستين العسكرية والأمنية السورية وفق رؤية الحكومة السورية التي ترفض أي وجود مسلح خارج إطار الدولة، وهو ما ترفضه "قسد" حتى الآن مع اقتراب نهاية السقف الزمني لتنفيذ اتفاقية مارس مع الحكومة في دمشق المقرر لها نهاية هذا العام، وفق الحامد.
وعلى ما يبدو فإن المشهد السوري قد دخل مرحلة مفصلية تتجاوز معادلات الصراع التقليدية، لتؤسس لواقع جديد تحكمه لغة المصالح والترتيبات الأمنية المتبادلة.
وإذ تراهن واشنطن وحلفاؤها الإقليميون، وتحديداً الرياض وأنقرة، على قدرة القيادة الجديدة في دمشق على فرض الاستقرار وإنهاء حقبة الفوضى، فإن نجاح هذا المسار يبقى، وفقاً للمراقبين، رهناً باختبارات الميدان خلال الأشهر المقبلة.
وستكون قدرة "الجمهورية الجديدة" على الموازنة بين متطلبات المصالحة الداخلية واشتراطات التحالفات الخارجية، هي المعيار الحاسم لتحديد ما إذا كانت هذه الانعطافة تمثل بالفعل الفصل الأول الذي سيضع حداً لسنوات من التردد الأمريكي في المنطقة.