ثمانية أعوام من الحرب ألقت بظلالها على المشهد الثقافي اليمني، وبات المثقفون والكتاب على أرصفة البؤس والخذلان، يصارعون الفاقة وتبعات الحرب القاسية، في ظل غياب تام للمؤسسات الثقافية الرسمية، فلم يعد هنالك أي ملامح حقيقية لمشهد ثقافي في بلد أرهقته الحرب.
تقلصت الحركة الثقافية في اليمن بشكل كبير عما كانت عليه قبل اندلاع الحرب، وكادت أن تكون منعدمة، فيما ظل العديد من الكتاب المبدعين الذين تفتحت مواهبهم في فترة ما قبل الحرب يناضلون من أجل إبقاء شعلة الثقافة متوجهة.
لم تسلم المؤسسات الثقافية القليلة التي كانت متواجدة قبل الحرب، فلا صحف تصدر ولا مجلات ولا ملحقات ثقافية، فيما توقفت دور النشر والمكتبات العامة عن مزاولة نشاطها، وغابت العديد من الأسماء التي كانت في مراحلها الأولى للبروز تحت مظلة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
وغير بعيد من ذلك شهدت حركة النشر في اليمن نشاطًا كبيرًا في مطلع الألفية الثانية باسم الاتحاد الذي كان أمينه حينها الشاعر "محمد حسن هيثم" فقد أصدرت العديد من السلاسل المتخصصة في السرد والنقد وكتاب الشهر وكتاب الأسبوع، والكثير من المكتبات المتخصصة، إلى ذلك عملت وزارة الثقافة في عهد "خالد الرويشان" على اصدار مطبوعات عدة في الشعر والقصة والرواية والرسائل الأكاديمية.
مقاومة ثقافية
لا يمكن الحديث عن المشهد الثقافي في اليمن خلال الحرب الراهنة إلا باعتبار ما يبرز بين الحين والآخر كمقاومة ثقافية من قِبل المثقفين في محاولة لمنع تردي النشاط الثقافي الذي بات في أسوأ حالاته، وإنقاذ ما تبقى منه.
يقول الكاتب "محمد نجيب الحطوار" صاحب رواية "شبابة السبع" إن الحراك الثقافي خلال الحرب، باهت جدًا، وعدد الكُتب التي نُشرت قليلة مقارنة بتلك التي كانت ستُنشر لو لم يكن هنالك حرب.
وينوه "الحطوار" إلى أنه قبل "الانقلاب الحوثي"، كانت الحركة الأدبية في اليمن بدأت تستعيد عافيتها، وانفتح الشباب على القراءة والكتابة، فيما ابدى اتحاد الأدباء والكتاب استعداده لتأهيلهم ومنحهم العضوية، وتلك الفترة كانت ثورة للكُتاب الشباب.
في خضم الحرب والمعارك التي شهدتها البلاد ضاعت معالم الفعاليات الثقافية التي كانت تقام في مختلف المحافظات اليمنية بشكل مستمر، وهاجر العديد من المثقفين إلى خارج البلاد بحثًا عن مأوي آمن، فالثقافة والحرب نقضيان لا يجتمعان.
يضيف "الحطوار" في حديثه لـ "يمن فريدم" قوله: "لو قدمنا تقييمًا للحركة الأدبية خلال سنوات الحرب، الحركة الأدبية بمعناها الأكبر، المتمثل بظهور كُتاب جدد وعودة المؤسسات الأدبية لممارسة أنشطتها وظهور أخرى جديدة وتَوقْد الحركة النقدية بمدارسها، فسنقول إنها باهتة تكاد لا تُرى، أما ما نراه اليوم فليس سوى نتيجة لتلك المرحلة التي سبقت الحرب، وظهور الكتاب المبدعين، وهم أنفسهم الذين تتلمذوا في تلك المرحلة، كان استجابة للضغط النفسي الكبير، ومنَحَهم الإبداعَ امتلاكُهم للأدوات التي حصلوا عليها قبل الحرب".
في السياق ذاته يقول الشاعر "إبراهيم طلحة" صاحب عدة دواوين شعرية، في حديثه لـ" يمن فريدم" إن المشهد الثقافي قبل الحرب كان أفضل من حيث كم الفعاليات التي أقيمت، ومن حيث تعددها، ومن حيث كمية الإصدارات الأدبية، والسبب أن مصالح الحياة تتوقف أثناء الحروب، ولكن بعد الحرب نشأ نشاط ثقافي من نوع آخر، فيه شغف التحدي والحضور، وعندما أتيحت فرص طباعة في دور نشر بالخارج طبع كثير من الشباب اليمني.
خلال الحرب باتت مواقع التواصل الاجتماعي متنفسًا للمثقفين والكتاب المبدعين الذين بروزا لنشر ابداعاتهم في شتى المجالات الأدبية، والتعبير عن آرائهم، والسبب في ذلك يعود إلى انعدام المؤسسات الثقافية في البلاد سواء الحكومة أو الأهلية.
الكاتب الصحفي "محمد المياحي" صاحب رواية "الفيلسوف الصغير" يقول: " في الواقع المشهد الثقافي تأثر بالحرب كثيرا وهناك حالات إبداعية كثيرة أسهمت الحرب في استنزافها في المواضيع اللحظية والقضايا العابرة، وهناك أيضًا حالات ظهرت في الحرب وهي طبيعية جدا لأنها استطاعت ان تقاوم، في المقابل هناك موهوبين تضيع مواهبهم لأن الحياة تخنقهم والحرب تلتهم كل طاقاتهم الإبداعية وبالتالي الحرب أثرت على الابداع، ولو لم تكن الحرب موجودة لكان هناك اهتمام ونشاط مؤسسي ولكانت الحالة الثقافية تعززت وتوسعت بشكل أكبر".
اغتراب ثقافي
على الرغم من فترة الاستقرار التي عاشتها البلاد قبل الحرب، إلا أن الساحة الأدبية والثقافية لم تكن نشطة مقارنة بالنشاط الثقافي في الدول العربية، وذلك نتيجة لغياب المؤسسات الإعلامية والمنصات التسويقية، إضافة إلى غياب اهتمام ودعم الجهات الرسمية، لتشجيع ابداعات الشباب وطباعة مؤلفاتهم، فالجهات الحكومية غابت عن المشهد قبل الحرب، وتركت الساحة الثقافة وحدها تواجه مصيرها خلال الحرب من أجل البقاء.
ومن وجهة نظر أكاديمية يقول أستاذ الأدب والنقد بجامعة تعز "فتحي الشرماني" إن قبل الحرب كان هناك استقرار في اليمن ولكن لم تكن اليمن تعمل بكل مقوماتها الثقافية والمعرفية على الرغم من وجود أكثر من مؤسسة ثقافية، لم يكن هناك حركة في صناعة المعرفة أو استثمار معرفي كما يجري في بعض البلدان العربية، إضافة إلى أن المنافسة المعرفية في حركة النشر لكل ما هو ثقافي ومعرفي يزيد من الرصيد المعرفي للوطن، في اليمن كان هناك جهد متواضع قياسا على بعض الدول المجاورة.
ويضيف "الشرماني" في تصريحه لـ"يمن فريدم" قوله: "مع دخول الأزمة السياسية في اليمن كان هناك تقلص للجانب الثقافي وحركة النشر والتأليف الذي يقوم به المثقفين وبدأ هناك نوع من الركود الذي جاءت الحرب لتقضي فيه على المشهد الثقافي إلى الحد الذي لم يعد فيه أي تفاعل ثقافي".
ممثل وحيد
افتقر اليمن خلال سنوات الحرب إلى وجود مكونات خارجية تمثل الثقافة والحضور الثقافي في المحافل والمعارض العربية والدولية، وبقيت اليمن بدون ممثل خارجي حتى تأسست دار "عناوين بوكس" لتصبح بذلك ممثل وحيد لليمن في الخارج.
ولم يجد المثقفون والكتاب اليمنيين سواء الذين كان لهم حضور قبل الحرب أو المبدعين الذين برزوا خلال الحرب من يهتم بطباعة ونشر مؤلفاتهم الفكرية والأدبية في الداخل اليمني، الأمر الذي جعلهم يلجأون إلى دور النشر العربية لنشر أعمالهم.
"أحمد عباس" مدير العلاقات والنشر بدار "عناوين بوكس" للنشر، يقول إن هناك فجوة بين صناعة النشر في اليمن مقارنة بالدول العربية وذلك لأن اتحاد الناشرين في اليمن تأسس في العام 2007، فيما اتحاد الناشرين العرب كان قد تأسس في العام 1962م.
يضيف "أحمد" في تصريحه لـ"يمن فريدم" قوله: " حتى قبل الحرب كان معظم الكتاب اليمنيين يتجهون للطباعة في دور النشر البيروتية، المصرية، الأردنية وغيرها، وكان مركز عبادي للدراسات والنشر هو النشط في فترة التسعينيات وبداية الألفية، وكانت وزارة الثقافة تتبنى بعض الإصدارات بشكل موسمي ومناسباتي".
يقول "أحمد عباس" بأنه في ظل هذه الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد تم تأسيس دار "عناوين بوكس" في العام 2020، وتم طباعة أكثر من 200 عنوان معظمها لكتاب وكاتبات من اليمن، بالإضافة إلى أنه تم تمثيل اليمن في أكثر من 15 معرضا دوليا للكتاب، وفي معظمها كانت الدار هي الممثل الوحيد لليمن.
بالمحصلة تعيش الساحة الأدبية حالة من الركود الكبير وخاصة في الداخل اليمني فمعارض الكتاب لا تكاد تذكر في مناطق سيطرة الشرعية عدا محافظتي تعز ومأرب اللتان أقيم فيها معارض للكتاب خلال السنتين الماضيتين، أما بالنسبة لمناطق الحوثي فالحركة الثقافية معدومة بشكل كامل، وحال الفعاليات الثقافية والأدبية لا حراك فيه أيضا، وما تزال النخب السياسية والجهات المسؤولة تغض الطرف عن احياء المشهد الثقافي اليمني.