في وقت يعتبر محللون أن تدهور الصحة النفسية من النتائج غير المرئية للحرب في اليمن، يعيش الصحافي الثلاثيني فخر العزب في حال اكتئاب شديد منذ ثلاث سنوات، وما زال يخضع لعلاج، لكنه لا يخفي معاناته، ويستمر في سرد تفاصيل حالته في مواقع التواصل الاجتماعي، ويرى أنه يخوض معركة يتحتم أن يعرف أساليب مواجهتها.
يسكن العزب في مدينة تعز، الأكثر كثافة بالسكان في اليمن، وشهدت أحداثاً دموية خلال سنوات الحرب، وما زالت ترزح تحت الحصار. ويقول لـ"العربي الجديد": "تسببت عوامل عدة في إصابتي باكتئاب، أهمها النزوح ومشاهدة وصول حوادث الحرب إلى منطقتي، حيث فقدت الكثير من الأصدقاء والأقارب، كما أن عملي صحافياً ساهم في معايشتي هذه الحال، إذ أوجب انشغالي بمتابعة أخبار الحرب في تعز خلال أكثر من 8 سنوات".
يضيف: "أصابتني أحداث الحرب وتراكماتها باكتئاب تسبب لي في مشكلات كثيرة جعلتني عاجزاً عن إنجاز عملي، وأصابني بخمول فانطفأت شعلة الشغف بممارسة المهنة التي أحبها، في ظل عيشي وسط خوف وقلق.
وقررت منذ الأيام الأولى التي شعرت فيها بأعراض اكتئاب مواجهة هذا المرض عبر الاعتراف به أولاً، ثم الذهاب إلى الطبيب النفسي والالتزام بالعلاجات التي قررها، وكذلك بجلسات لدى أخصائية للإرشاد النفسي، وقرأت كثيراً حول الاكتئاب وأسبابه وسبل علاجه، ما ساعدني كثيراً في كيفية التعامل معه".
ويخبر العزب أن مرض الاكتئاب حوّله إلى صحافي عاطل عن العمل فتدهور وضعه المادي، وبات يعيش على الديون، ووجد صعوبة في توفير المبالغ المطلوبة للعلاج، لكنه استمر في تأمينها بكل الوسائل المتاحة بأمل التعافي للعودة إلى ممارسة عمله.
قلة وعي ووصمة
وعموماً، لا يعي غالبية اليمنيين بشكل كافٍ بالأمراض والاضطرابات النفسية، كما يخشون الوصمة المجتمعية المرتبطة بحالاتها، والتي تصف المريض بأنه "مجنون"، ويعانون أيضاً من غياب دعم المؤسسات الصحية الحكومية، ما قد يقود حالاتهم إلى مراحل سيئة، فيما يصرّ آخرون على "المعاناة بصمت".
وفي صنعاء، يعيش محمد (اسم مستعار) في مأساة إصابته باضطراب نفسي شديد أدى إلى تفكك أسرته، بعد طلاقه من زوجته، وإغلاقه المتجر الذي يملكه بسبب الإفلاس. وهو يعاني من خوف وقلق، وتراوده شكوك كبيرة بمحيطه، ما يجعل تصرفاته عنيفة.
ويقول أحد أقربائه لـ"العربي الجديد": "ذهب محمد في بداية مرضه إلى رجال دين في مناطق كثيرة، وكان مقتنعاً بفوائد العلاج، من خلال تلاوة الشيوخ آيات قرآنية، لكن حالته ظلت سيئة ولم تتغير، وزادت أوهامه”.
يتابع: "حاولنا إقناع أسرته باللجوء إلى جلسات علاج نفسي لدى طبيب متخصص يمكن أن يساعد حالته، لكنهم لم يقتنعوا بالاقتراح، وقال لي أحدهم: ليس الطبيب أفضل من القرآن. وحالياً تسوء حالته يومياً، علماً أن ظروفه المادية كانت جيدة قبل مرضه".
وفيما لا يعترف عدد كبير من اليمنيين بالأمراض النفسية وطرق علاجها يواجهون التأثيرات السلبية للحرب على حياتهم بقلة وعي وشعور بوصمة عار.
وفي العادة لا يمكن معرفة إصابة شخص بمرض نفسي إلا عندما تصبح ممارساته عدوانية مع محيطه. وحينها يتمثل الحل بالنسبة إلى البعض في تقييد هذا الشخص وعزلة، أو هربه من عائلته للعيش في الشارع.
ويتحدث ناشطون في منظمة "أطباء بلا حدود" التي تتعاون مع مستشفى في حجة (شمال غرب)، لـ"العربي الجديد" عن استقبال أشخاص يعانون من قلق وأرق، وآخرين تعتبر أمراضهم النفسية خطيرة، مثل الذهان، والاكتئاب، والاضطراب ثنائي القطب، واضطراب ما بعد الصدمة، وبينهم أيضاً أشخاص حاولوا الانتحار لأسباب مختلفة.
وتقول أنطونيلا بوتزي، مديرة أنشطة الصحة النفسية في المنظمة، لـ"العربي الجديد": "من الضروري مساعدة الناس على فهم الاضطرابات النفسية، وتحديدها، ما يسمح للمرضى نفسهم وعائلاتهم بالتعامل مع الحالات الشديدة، علماً أن غالبية العائلات تتعامل مع أعراض الانفعال الشديدة بتقييد المرضى”.
لا اهتمام منذ ما قبل الحرب
ومن المعلوم أن الصحة النفسية لم تلقَ اهتماماً كافياً في اليمن قبل الحرب. وأحصى تقرير خاص بالاستراتيجية الوطنية للصحة النفسية صدر عام 2010 وجود 46 طبيباً للعلاج النفسي، أي طبيب واحد لكل 600 ألف شخص تقريباً، و130 أخصائياً.
ويرى خالد عبد الغني الذي يعمل في قطاع الصحة الحكومي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "كارثة الصحة النفسية في اليمن ستظهر أكثر بعد الحرب، وسيكون تأثيرها أسوأ في المدى البعيد، لأن شباناً كثيرين أمضوا نصف أعمارهم في الحرب والمأساة، ما يكشف بوضوح الحجم الكبير للمعاناة".
يضيف: "حتى لو انتهت الحرب اليوم ستستمر تداعيات الأمراض النفسية لسنوات، من هنا يجب فعل شيء فاستمرار تفشي هذه الأمراض سيفكك نسيج المجتمع الذي يعاني بشكل مهول في مواجهة أسوأ الكوارث والمحن".
ويشير إلى أن "الدعم الذي تقدمه المنظمات الدولية في اليمن من خلال برامج ما زال محدوداً جداً، في حين تحتاج الكارثة إلى خطة وطنية شاملة لمعالجة الأزمة المتفاقمة، وضمان مستقبل بأقل خسائر للصحة النفسية".
يذكر أن آلافاً من اليمنيين واجهوا صدمات ومحن مختلفة بسبب النزوح والخوف والقلق والغارات الجوية العنيفة والقصف المدفعي الذي استهدف مساكن، كما تعرض آخرون إلى عمليات خطف وإخفاء قسري واعتقال ما أفقد أطفال آباءهم. وفي نهاية عام 2021 قدرت الأمم المتحدة مقتل 377 ألف يمني في الحرب.
ولا إحصاءات دقيقة عن حجم الأمراض النفسية أو عن القدرات المتوفرة للقطاع الصحي الذي تدعمه المنظمات. وفي عام 2020، كشفت دراسات وجود سرير نفسي واحد لكل 200 ألف يمني، وطبيب نفسي واحد لكل 500 ألف شخص.
وأوردت دراسة أجرتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري غير الحكومية حول تقدير انتشار الاضطرابات النفسية أن "الشبان من الفئة العمرية بين 16 و30 سنة يشكلون نسبة 80% من إجمالي الحالات التي تعاني من أمراض عقلية ونفسية”.
وفي عام 2019، أجرت منظمة إنقاذ الطفولة دراسة استهدفت فهم مدى تأثير الحرب في اليمن على الصحة العقلية للأطفال، وأفادت بأن "اليمن يضم طبيبين نفسيين اثنين فقط لعلاج الأطفال، وهناك ممرضة واحدة متاحة للصحة النفسية لكل 300 ألف شخص".
وأظهرت الدراسة أيضاً أن 52% من أطفال اليمن لا يشعرون بأمان أبداً عندما يكونون بعيدين عن والديهم.
وفي تعز التي سجلت أعلى نسبة من ضغوط ما بعد الصدمة، أفاد الآباء بأن أطفالهم يشعرون بحزن واكتئاب في شكل دائم.
تفاقم الاضطرابات النفسية
وأورد تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في أغسطس/ آب 2022 أن "واحداً من كل أربعة أشخاص في اليمن يعانون من مشاكل عقلية ونفسية واجتماعية بسبب النزاع المسلح والنزوح القسري والبطالة ونقص الغذاء، وغيرها من الظروف القاسية".
وأعلنت المنظمة ذاتها في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 إطلاق استراتيجية وطنية للصحة النفسية في اليمن "تهدف إلى الحدّ من العبء المتزايد من تفاقم الاضطرابات النفسية، مع استمرار الحرب منذ ثماني سنوات والاقتصاد المنهار اللذين تسببا في شل المرافق الصحية، وتفاقم الأمراض النفسية التي تؤثر في كل فئات المجتمع. وأغلق الصراع في اليمن غالبية مستشفيات الأمراض النفسية التابعة للدولة".
إلى ذلك وضع تقرير نشرته منظمة "سابين لابس" الأميركية التي تجري بحوثاً حول الصحة العقلية عبر الإنترنت في مارس/ آذار الماضي، اليمن في المرتبة 46 بين 57 دولة في مؤشر الصحة العقلية. وأورد التقرير أن 24.4%من اليمنيين الذين شملهم البحث يعانون من صعوبات في التعامل مع ضغوط الحياة اليومية.
وتجعل نحو تسع سنوات من الحرب في اليمن أكثر من ثُلثَي سكانه الـ 21.6 مليوناً يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، وأدى التفشي المتكرر للأمراض إلى انهيار النظام الصحي في أنحاء البلاد. وتشير تقديرات أممية إلى أن 46% من إجمالي المرافق الصحية تعمل جزئياً، أو قد تكون خارج الخدمة كلياً بسبب نقص الموظفين والموارد المالية والكهرباء والأدوية والإمدادات والمعدات".
(صحيفة العربي الجديد)