تصدّر الذكاء الاصطناعي ساحة الاهتمام في 2023 ليشهد إقبالاً استثنائي النتائج في وقت مبكر من العام، إذ وصل برنامج الدردشة الآلي "تشات جي بي تي" إلى ما يقارب مئة مليون مستخدم بحلول فبراير/شباط.
وخلال الأشهر الماضية انتقل هذا الاهتمام من غاية الاستكشاف والترفيه إلى طلب المساعدة والدمج في الحياة اليومية بصورة تفوق الوصف، فتغيرت استخداماته ووظائفه حتى وصلنا حالياً إلى مكان أصبح فيه الذكاء الاصطناعي المساعد الأول في الدراسات والبحث وتجميع المعلومات والحصول على الاستشارات، إضافة إلى مجالات مثل البرمجة وإنشاء الصور والفيديوهات والصوت والموسيقى.
عام التحولات
تغلغل الذكاء الاصطناعي اليوم في نسيج حياتنا، ليشكل خياراتنا التكنولوجية ويؤثر بصورة عميقة في ثقافتنا وفنوننا، وانعكست تأثيراته على القوانين والحوكمة وعالم الأعمال ككل، إذ تظهر أحدث الإحصاءات أن أربعة من كل خمسة مراهقين في المملكة المتحدة يستعملون أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي ونحو ثلث الموظفين في أستراليا يستخدمونه في العمل.
الحقيقة أنه لم تعُد حال مجالات التكنولوجيا بعد عام 2023 كما قبله، لذا يمكن عنونته بأنه عام التحولات الكبرى في مجال الرقمنة، بدءاً من الظهور الأول لنماذج اللغات الكبيرة المتطورة (LLMs) ووصولاً إلى إبداعات وابتكارات غير مسبوقة غيرت وجه عدد من حقول التكنولوجيا.
وقدمت تلك الابتكارات تسهيلات كبرى في إمكان الوصول إلى المحتوى والخدمات الرقمية من خلال الصوت واللمس وحتى الإيماءات، إذ شهد هذا العام ظهور نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي المتقدمة التي أحدثت ثورة في معالجة اللغة الطبيعية وتوليد المحتوى الإبداعي.
وتطور الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر إلى مستويات غير مسبوقة، مما أدى إلى إعادة تشكيل إطار عمله، ومكن ظهور عدد كبير من النماذج المجتمع التكنولوجي من التعامل مع كم ضخم من البيانات النصية، وأعاد نموذج "جي بي تي 4" تعريف قدرات الذكاء الاصطناعي بسبب تميزه في التطبيقات المستندة إلى النصوص، مما أظهر كفاءة ملحوظة في الكتابة الإبداعية والترميز وحل المشكلات المعقدة.
قطاع الأعمال والتوظيف
انعكس تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على عالم الأعمال بصورة كبيرة وغيّر كفة الطلب على الوظائف لمصلحة مهارات محددة شكلت آفاقاً جديدة للعمل في المستقبل، مما أدى إلى تراجع وظائف معينة وظهور فرص جديدة، فتزايد الطلب على تلك المتعلقة بالتعلم الآلي والاستدامة وتحليل البيانات وهندسة الروبوتات والحماية.
من جهة أخرى، أثار انتشاره الواسع مخاوف تتعلق بنواحي التوظيف على المدى البعيد، إذ أنتج التفاعل بين الذكاء الاصطناعي ومجال التوظيف تغييرات جوهرية تميزت بنمو الأتمتة والتحولات في ديناميات سوق العمل، وأحرز استخدام الذكاء الاصطناعي في أتمتة المهمات الروتينية المتعلقة بالصناعات مكاسب عالية من جهة الفاعلية، لكنه أثار في الوقت ذاته مخاوف حيال الاستغناء عن العنصر البشري في الوظائف، لا سيما في الأدوار التي تنطوي على مهمات روتينية متكررة.
أما الشركات والحكومات، فاستجابت لهذه التغيرات من خلال إطلاق برامج تحسين المهارات وإعادة تأهيلها لتزويد القوى العاملة بالمهارات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، ومن جهة أخرى أثار استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة مكان العمل وتقييم الأداء، المخاوف في شأن حقوق العمال وخصوصيتهم، وأضاء على مواضيع متعلقة بالاعتبارات الأخلاقية.
وفي ما يخص الناحية الاقتصادية، أصبح ينظر إلى الذكاء الاصطناعي اليوم على أنه محرك للنمو لدوره الفاعل في خلق صناعات جديدة، لذا من المتوقع أن يتغير المشهد الوظيفي المستقبلي، مع التركيز على التعاون بين الإنسان والنماذج الذكية.
تأثيره في الصناعات
بحسب مقالة تفصيلية نشرت على منصة تكنولوجيا الأعمال "زدنت" ((ZDNET، قامت أيضاً المؤسسات التعليمية بتكييف مناهجها لتشمل دورات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات، وإعداد الأجيال المستقبلية لسوق العمل المتأثر بالذكاء الاصطناعي.
وفي السياق ذاته، قامت منصات للتعليم المفتوح مثل "كورسيرا" (Coursera) وإيديكس (edX) بتسخير الذكاء الاصطناعي للتوصية بالدورات التدريبية وتكييف المحتوى مع المتعلمين الأفراد، مما عزز تجربة التعلم عبر الإنترنت، إضافة إلى ذلك طورت أدوات التقييم المعتمدة على الذكاء الاصطناعي للتشديد على النزاهة الأكاديمية للاختبارات عبر الإنترنت.
وكذلك واصل القطاع المالي عملية التحول القائم على الذكاء الاصطناعي، وتبنت شركات التداول خوارزميات الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات تداول أكثر دقة، وعززت في الوقت نفسه حلول الكشف عن الاحتيال المدعومة بالذكاء الاصطناعي قدرة المؤسسات المالية على مكافحة التعاملات الاحتيالية.
أما في مجال المركبات ذاتية القيادة، فاحتلت شركات مثل "تيسلا" (Tesla) و"وايمو" (Waymo) مركز الصدارة من خلال تطوير المركبات ذاتية القيادة، فتلقى نظام القيادة الذاتية الكاملة (FSD) من "تيسلا" تحديثات محورية، مما جعله أقرب إلى قدرات القيادة الذاتية، وفي الوقت ذاته وسعت "وايمو" نطاق خدمة نقل الركاب ذاتية القيادة إلى مدن إضافية، مما وسع حدود تكنولوجيا القيادة الذاتية.
وشهد هذا العام أيضاً تقدماً كبيراً في مجال الرعاية الصحية، فأدى الذكاء الاصطناعي إلى تحسينات في التشخيص واكتشاف الأدوية، وحسنت أدوات التشخيص المدعومة بالذكاء الاصطناعي مثل نظام "باث يه أي" (PathAI)، معدلات الكشف عن السرطان بصورة كبيرة وحققت إمكان الوصول إلى تشخيصات دقيقة وعلاجات فاعلة، وإضافة إلى ذلك أسهمت منصات اكتشاف الأدوية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي مثل "آتوموايس" (Atomwise) في تسريع عملية تحديد العلاجات المحتملة.
كما كان للذكاء الاصطناعي دور محوري في التصدي لتغير المناخ خلال العام، إذ استثمرت أدواته لتحسين التنبؤات المناخية والمساعدة في جهود التخفيف من تغير المناخ.
وكذلك اكتسبت حلول الأمن السيبراني المعتمدة على الذكاء الاصطناعي أهمية كبيرة، فقدمت بعض المنصات المعتمدة على الذكاء الاصطناعي اكتشافاً للتهديدات والاستجابة لها في الوقت الفعلي، مما أدى إلى تعزيز وضع الأمن السيبراني، وساعدت أدوات فحص الثغرات الأمنية المدعومة بالذكاء الاصطناعي المؤسسات في تحديد الثغرات الأمنية وتصحيحها بصورة استباقية.
واكتسبت الفنون المعتمدة على الذكاء الاصطناعي اهتماماً واسع النطاق، فاستنسخ بعض الموسيقيين الأصوات لإنشاء موسيقى اصطناعية تشبه أصوات فنانين مشهورين، وأحدثت NFTs (الرموز غير القابلة للاستبدال) التي أنشأها الذكاء الاصطناعي ثورة في عالم الفن، مما دفع إلى التفكير في إعادة تعريف الفن والتأليف الإبداعي.
تغييرات إضافية
وحققت المؤسسات والمنظمات البحثية اختراقات كبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي عام 2023، وكان الهدف الأساس من الاستثمار في أبحاثه جعل أنظمته أكثر قابلية للفهم وإكسابها بعضاً من الشفافية وتعزيز الثقة والمساءلة.
وبحسب موقع "ذا كونفرسيشن" للتحليلات الإخبارية، من المرجح أن نشهد مزيداً من التغييرات خلال العام المقبل وما بعده، أهمها زيادة استثمار وظائف وخدمات الذكاء الاصطناعي التوليدي من قبل الشركات وجعلها أكثر سهولة في الوصول وتزايد الدعوات إلى الشفافية وتطوير معايير صناعة الإعلام وتوسيع قدرة الذكاء الاصطناعي في مجال القدرات السيادية من خلال زيادة تمويل البحث والتطوير وبرامج التدريب وغيرها من الاستثمارات.
وبينما نتطلع إلى المستقبل، فإن التحدي الأساسي الذي يواجهنا يكمن في الاستفادة من الفرص الواسعة التي توفرها هذه التكنولوجيا وتسخير قوة الذكاء الاصطناعي بصورة مسؤولة والاستثمار في دفع آليات الابتكار بطريقة تعود بالنفع على البشرية جمعاء.