انطلقت الطائرات المقاتلة الرمادية من طراز "F/A-18" واحدة تلو الأخرى من سطح حاملة الطائرات الأميركية "يو إس إس دوايت دي أيزنهاور" في صباح شديد الحرارة في البحر الأحمر، لمواجهة طائرة هجومية مسيرة أطلقها الحوثيون.
كانت المقاتلات، التي تبلغ تكلفة الواحدة منها 56 مليون دولار، جزءاً من عملية للتحالف التي أحبطت الهجوم، وعادت بعد ساعات كما كانت تفعل بشكل شبه يومي خلال الأشهر العديدة الماضية.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل المعدات المكلفة التي ألقت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها في مواجهة الجماعة في شمال غرب اليمن، فإنها لم تستطع وقف الهجمات على سفن الشحن المدنية وكذلك الحربية. ونتيجة لذلك، لم تزل كبرى شركات الشحن البحري في العالم تتجنب إلى حد كبير ذلك الطريق الذي كان ينقل 15% من التجارة العالمية.
إن نجاح الجماعة المتمردة المدعومة من إيران في إعاقة أكثر الجيوش تطوراً في العالم يمثل أحدث انتكاسة لجهود واشنطن للحد من توسع الحرب الإسرائيلية على غزة إلى صراع إقليمي.
كما أن حملة الحوثيين، التي تسببت في غرق أول سفينة مدنية في أوائل مارس وسجلت أولى ضحاياها بعدها بفترة قصيرة، تشكل تهديداً متزايداً للاقتصاد العالمي. فقد انخفض عدد السفن التي تعبر البحر الأحمر بحوالي 70% مقارنة ببداية شهر ديسمبر. وتراجعت حركة نقل الحاويات بنحو 90%، كما توقفت ناقلات الغاز عن العبور.
ارتفاع تكاليف الطرق البديلة
يضيف الدوران حول جنوب أفريقيا حوالي أسبوعين إلى زمن الرحلة البحرية. ونتيجة لذلك، ترتفع تكلفة إرسال حاوية من شنغهاي إلى روتردام إلى حوالي ضعف ما كانت عليه قبل عام، وفقاً لشركة "دروري شيبينغ" للشحن.
بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على بدء عملية تأمين بحرية كبيرة، يعترف الأدميرال مارك ميغيز، قائد الأسطول الصغير، بأن أمام الولايات المتحدة وحلفائها الكثير مما يتعين عليهم القيام به.
وقال وهو يقف في قمرة القيادة بالسفينة أيزنهاور: "نحن نعلم أننا قلصنا بعضاً من قدراتهم". ولكن مع استمرار داعمي الحوثيين في إيران في إرسال الأموال والأسلحة والمعلومات الاستخباراتية -بما في ذلك من سفينة تجسس تبحر على بعد مئات الأميال من أيزنهاور خارج البحر الأحمر- فإنه لا يتوقع موعداً محدداً لإنجاز هذه المهمة.
وأشار ميغيز إلى تباطؤ هجمات الحوثيين والتحول من الهجمات بصواريخ كروز إلى الطائرات المسيرة الأقل خطورة كدليل على أن العملية (العسكرية الأمريكية البريطانية) تنهك الجماعة. لكن ذلك لم يطمئن شركات الشحن.
الأثر المالي على نتائج الشركات
قال رولف هابن يانسن، الرئيس التنفيذي لـ"هاباغ لويد"، في مؤتمر هاتفي حول أرباح الشركة هذا الشهر: "لا يوجد احتمال ثالث هنا. فإما أن يكون الوضع آمناً لموظفينا أو لا. وطالما أن الوضع غير آمن، فلن نرسل موظفينا عبر البحر الأحمر".
وقال إنه يأمل في أن تخف حدة الاضطرابات في الأشهر القليلة المقبلة أو نحو ذلك، لكنه أقر بأن آخرين في هذا القطاع يخشون أن تستمر حتى عام 2025.
وقد تخلت شركة "أبركرومبي آند فيتش" لتجارة الملابس بالتجزئة مؤخراً عن توقعاتها بانخفاض تكاليف النقل البحري هذا العام، مستشهدةً بالاضطرابات في البحر الأحمر.
الحوثيون يطمئنون الصين وروسيا
وفي الوقت نفسه، أخبر الحوثيون الصين وروسيا أن سفنهما تستطيع الإبحار عبر البحر الأحمر دون خوف من التعرض لهجوم. ومع ذلك، فقد أصاب الحوثيون ناقلة نفط صينية بصاروخ يوم السبت الماضي، وهو هجوم ربما نجم عن خطأ في تحديد هوية السفينة، ما يشير إلى أنه لا توجد سفن آمنة تماماً.
وقال أحد المسؤولين الغربيين إن الحوثيين على الأرجح لديهم القدرة على الاستمرار في شن هجمات على سفن أخرى بوتيرة قريبة من وتيرتها الحالية لعدة أشهر قادمة.
واعترف ميغيز بأن عدد الصواريخ التي كانت لدى الحوثيين في ترسانتهم في بداية الصراع كان "شبيهاً بثقب أسود بالنسبة للولايات المتحدة من الناحية الاستخباراتية".
في الوقت نفسه، يعترف المسؤولون الأمريكيون بأنه لا يوجد ما يشير إلى أن إيران، التي بدونها لا يمكن للحوثيين الاستمرار في الهجمات لفترة طويلة، ترى أي سبب للتوقف. فصادرات البلاد من النفط لا تتأثر لأنها في الغالب تستخدم طريقاً آخر. كما أن التحذيرات الأمريكية لطهران حتى الآن لا تجدي نفعاً.
وتحدث الجنرال مايكل كوريلا، من القيادة المركزية الأمريكية، بصراحة في جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 7 مارس، قائلاً: "إيران لا تتوانى عن دعم الحوثيين. ويجب أن تتحمل تكلفة هذا الموقف".
آمر الحوثيين الإيراني
تصل الإمدادات الإيرانية عبر مزيج من الشحنات البرية وعشرات المراكب الشراعية الصغيرة التي تجوب البحار في المنطقة.
كذلك أرسلت إيران مستشارين، ومن بينهم متخصصون في زرع الألغام في البحر، وفقاً لأشخاص مطلعين على الوضع.
يقول كوريلا: إن الحوثيين يجمعون كل ذلك ويجهزونه. إنهم لا يصنعون أنظمة ملاحة. ولا يصنعون محركات الصواريخ الباليستية متوسطة المدى. ولا الفواصل ذات الدور المرحلي على هذه الصواريخ الباليستية أو صواريخ كروز المضادة للسفن.
قام قيادي إيراني بارز هو عبد الرضا شهلاي بإدارة أولى هجمات الحوثيين من داخل اليمن في أكتوبر، وذلك وفقاً لعدة أشخاص لديهم معلومات استخباراتية مباشرة من أرض الواقع.
وتعرض الولايات المتحدة 15 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات عن شهلاي، المتهم بتدبير هجمات مميتة على الأمريكيين في المنطقة. وهو أيضاً القائد الفعلي لقوات الطائرات بدون طيار والصواريخ لدى الحوثيين، وله خط اتصال مباشر مع زعيم الجماعة، وفقاً لأشخاص على معرفة بهذه الجماعة.
يقول جويل رايبورن، وهو ضابط سابق في الجيش الأميركي ودبلوماسي عمل على مواجهة إيران: "بالنسبة للمصلحة الإيرانية، فقد أنجز شهلاي مهمة مذهلة، حيث بنى الحوثيين حتى أصبحوا بهذه القوة".
الحذر في مواجهة إيران
كانت الولايات المتحدة حذرة بشأن مهاجمة خطوط الإمداد الإيرانية مباشرةً، خشية أن يؤدي ذلك إلى تصعيد الوضع غير المستقر أصلاً في المنطقة.
وذكرت شبكة "إن بي سي" أن سفينة الاستخبارات الإيرانية استُهدفت بهجوم سيبراني أمريكي بسبب تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الحوثيين.
وقال الأدميرال ميغيز إن سفينتين إيرانيتين تنشطان حالياً في المنطقة، إحداهما سفينة استخبارات تعمل قبالة سواحل جيبوتي منذ سنوات، والأخرى سفينة دعم.
وقال جون ميلر، القائد السابق للأسطول الخامس الأميركي: "نحن في نقطة تمارس إيران نفوذاً عليها، إن لم يكن سيطرة استراتيجية. وهي تضم ثلاثاً من ست نقاط اختناق اقتصادية رئيسية في العالم"، في إشارة إلى قناة السويس في شمال البحر الأحمر، ومضيق باب المندب في الجنوب، ومضيق هرمز.
تعترف إيران بدعمها للحوثيين، لكنها لا تعترف بتسليحهم، وتقول إنهم يتخذون قراراتهم بأنفسهم.
إيران نفسها هددت واستخدمت القوة مباشرة واستولت على شحنة نفط مرتبطة بالولايات المتحدة، وتعهدت بالانتقام إذا تعرضت سفنها للهجوم، وتدربت على "تحرير" السفن التجارية "التي يختطفها القراصنة" في مناورات مشتركة مع روسيا والصين في خليج عمان القريب.
احتمالات المواجهة على الأرض
على الرغم من الضربات شبه اليومية على قواعدهم في اليمن، حظي الحوثيون بالاهتمام العالمي الذي دفع بهم إلى الصفوف الأمامية للمقاومة العربية للحرب الإسرائيلية على غزة، وأظهروا قيمتهم لرعاتهم في طهران.
تقول ميساء شجاع الدين، باحثة أولى في "مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية" إن "الحوثيين أثبتوا أنهم فاعل إقليمي مهم وفعال، وإيران تخدم طموحاتهم السياسية".
وبحسب وكالة الأنباء اليمنية "سبأ" التي يسيطر عليها الحوثيون، أجرت الجماعة مناورة لمواجهة محاكاة إنزال لقوات أميركية وبريطانية في اليمن هذا الشهر، وتعهد قادتها بصد أي هجوم.
ومن غير المرجح أن يحصلوا على هذه الفرصة، إذ يرفض الحلفاء حتى الآن أي حديث عن عملية في اليمن.
ولكن إذا نجحت إحدى الهجمات المنتظمة على السفن الحربية للحلفاء، وأسفرت عن مقتل جنود أجانب، فمن المرجح أن تضطر الولايات المتحدة إلى تصعيد ردها. وقد يكون المستوى التالي من التصعيد هو شن هجمات تستهدف قادة الحوثيين، وفقاً لمسؤولين غربيين.
التكلفة ليست في مصلحة أمريكا
وقال أحد المسؤولين العسكريين الأمريكيين، الذي طلب عدم ذكر اسمه في مناقشة أمور ليست علنية، إن الولايات المتحدة في الجانب الخطأ من منحنى التكلفة في حملتها. وأضاف أن أميركا تستطيع تحمل التكاليف، لكن هذه التكلفة أصبحت مرتفعة للغاية.
في الوقت الحالي، تستمر لعبة القط والفأر عالية التكلفة. وعلى متن سفينة أيزنهاور، قال المسؤولون إن الحوثيين توقفوا عن استخدام طائراتهم المسيرة لأهداف الاستطلاع من مستوى مرتفع بمجرد أن بدأ الحلفاء في استهدافها. وبدلاً من ذلك، قاموا بإطلاقها على ارتفاع منخفض فوق سطح البحر لتجنب اكتشافها مع مهاجمة سفن الحلفاء مباشرة.
ورداً على ذلك، لجأ الحلفاء إلى استخدام مقاتلات مثل طائرات "F/A-18" لإسقاط الطائرات المسيرة بصواريخ جو-جو، مما يبعدها عن السفن ويحافظ على الأسلحة باهظة الثمن المستخدمة من طرفهم.
وقال الكابتن كولين برايس، الضابط التنفيذي للسفينة: "هدفنا هو عدم وقوع خسائر في الأرواح. ولا خسائر في المعدات. وهذه مهمة لا تحتمل الفشل".