اتجهت عيون العالم في الفترة التي أعقبت أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نحو منطقة مضيق باب المندب وحوض البحر الأحمر عموماً، إثر الاضطرابات التي شهدتها هذه المنطقة الاستراتيجية البالغة الأهمية لجهة الملاحة الدولية والتأثير الجيوبوليتيكي، بخاصة بعد استهداف عدد كبير من السفن التجارية الغربية العابرة عبر المضيق الذي تمر به معظم أنشطة التبادل التجاري بين آسيا وأوروبا، ويشكل ما نسبته نحو 10% من حركة الملاحة العالمية.
فما هي أهمية المضيق الاستراتيجية؟ وكيف يؤثر في السياسة الدولية سياسياً واقتصادياً وتجارياً؟ وما هي تداعيات الاضطرابات التي تشهدها المنطقة التي تعد مجمعاً لأكبر القواعد العسكرية الأجنبية، وما هي السيناريوهات المحتملة لتطور هذا الاضطراب؟ وهل يقود ذلك إلى عمليات عسكرية واسعة للقوى العظمى؟ وما تأثير ذلك في مجمل الأحداث العالمية؟.
التسمية والأهمية الاستراتيجية
يقع مضيق "باب المندب" في أقصى جنوب البحر الأحمر بين الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية وشرق إفريقيا، ويحده من الجانب الآسيوي اليمن، ومن الجانب الأفريقي جيبوتي وإريتريا.
واختلف المؤرخون حول أصل تسمية هذا المضيق الرابط بين قارتي إفريقيا وآسيا، فثمة روايات عدة لمسمى واحد، لعل أبرزها أنها تعود للمفردة العربية "ندب"، إذ إن الهزة الأرضية التي فصلت بين قارتي آسيا وإفريقيا خلفت عدداً كبيراً من الضحايا، لذا سميت المنطقة "باب المندب"، في حين تذهب روايات أخرى إلى غزوات القبائل العربية لإفريقيا واقتياد عدد كبير من الشباب الأفارقة كعبيد وسبايا إلى جزيرة العرب، وندب الأمهات مصير أبنائهن، فيما تذكر بعض المصادر الأفريقية أن التسمية عائدة للمفردة الأفريقية "ندب" التي تعني العبور باعتبار المضيق ممراً نحو القارة الأخرى.
وأيّاً كانت حقيقة التسمية فإن المضيق مثّل أهمية استراتيجية باعتباره ممراً مائياً يصل بين البحر الأحمر وخليج عدن المطل على المحيط الهندي، لا سيما بعد افتتاح قناة السويس عام 1869، إذ بات يشكل إحدى أقصر الطرق البحرية الواصلة بين شرق آسيا وأوروبا، ويمتد من المحيط الهندي مروراً ببحر العرب وخليج عدن، وعبر باب المندب إلى البحر الأحمر ثم البحر الأبيض المتوسط عبر قناة السويس.
يبلغ عرض المضيق نحو 30 كيلومتراً من رأس منهلي على الساحل الآسيوي إلى رأس سيّان على الساحل الأفريقي.
اكتشاف النفط
ترتكز أهمية منطقة القرن الإفريقي الاستراتيجية عموماً على سيطرتها على البحر الأحمر وإشرافها جنوباً على المحيط الهندي وخليج عدن، فضلاً عن امتدادها إلى منطقة منابع النيل.
ومع اكتشاف النفط في الجزيرة العربية، تضاعفت أهمية هذه المنطقة لأنها أضحت قريبة من مناطق إنتاج الطاقة وطرق ملاحتها نحو الدول الصناعية الكبرى التي تستورد هذا المورد الأهم للصناعات الكبرى.
ثم إن انتشار مئات الجزر غير المأهولة بالسكان في محيط باب المندب يسهل الاستفادة منها كنقاط ارتكاز مهمة، سواء للملاحة الدولية أو لإمكان استخدامها كأهداف عسكرية للسيطرة على ممرات الملاحة.
ويشير المتخصصون في شؤون هذه المنطقة إلى أسباب أخرى تتعلق بالبعدين الحضاري والثقافي لأن المنطقة تمثل نقطة التقاء للحضارتين المسيحية والإسلامية، إذ إنها تقع في المسافة بين الحزام المسيحي في القرن الإفريقي والإسلامي في جزيرة العرب، مما جعلها موضع مراقبة من قبل القوى الغربية منذ أمد بعيد.
الثنائية القطبية وتدويل المنطقة
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانسحاب الاستعمار الأوروبي من مستعمراته السابقة، شهدت هذه المنطقة تنافساً بين القطبين الأميركي والسوفياتي، إذ تمكن القطب الأخير من بسط نفوذه من خلال حضور أسطوله البحري في ميناء عدن على مداخل المضيق، في حين ظل الحضور الأميركي مستمراً في أرخبيل دهلك منذ الحرب العالمية الثانية.
وعلى رغم التحولات التي شهدتها السياسة الدولية لاحقاً، بخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينيات القرن الماضي، إلا أن التنافس الدولي حول مداخل هذه المنطقة المهمة استمر بصورة جديدة، لا سيما بعد أحداث الـ 11 من سبتمبر/ أيلول 2001، إذ كثفت الولايات المتحدة الأمريكية من وجودها العسكري في المنطقة بحجة مواجهة تنظيم "القاعدة" وتأمين الملاحة الدولية.
وكذلك أدى تنامي ظاهرة القراصنة في الصومال إلى التنسيق الأمني والعسكري بين القوى الكبرى لتأمين الملاحة من جهة وبسط نفوذها من جهة أخرى، مما دفع عدداً من الدول مثل إسبانيا واليابان وإيطاليا والصين إلى إقامة قواعد عسكرية لها في جيبوتي، إضافة إلى القواعد الفرنسية والأميركية الموجودة أصلاً هناك.
من جهتها، أقامت تركيا أكبر قاعدة عسكرية لها في العالم بالصومال عام 2017، وأسست الإمارات العربية المتحدة قاعدة عسكرية في بربرة لتضحي المنطقة بأسرها أكبر مجمع عسكري دولي، مما أدى إلى تدويل شؤون هذه المنطقة.
ومع تصاعد الصراع السياسي في اليمن وسيطرة جماعة "الحوثي" على مقاليد الحكم، تنامت الصراعات الدولية، بخاصة في ظل الدعم الإيراني لـ"جماعة أنصار الله" بالإمكانات العسكرية والاستخباراتية، وتمكنت الأخيرة من السيطرة على المدخل الجنوبي للمضيق، مما أثار قلق دول الخليج العربي جراء التمدد الإيراني في العمق الاستراتيجي العربي، ومن ثم ضرورة التصدي لهذا النفوذ الذي يهدد مصالح الخليج الاستراتيجية، مما استدعى تشكيل التحالف العربي بقيادة السعودية الذي نجح لاحقاً في أكتوبر 2015 في تأمين المضيق تماماً، مما مكن الإمارات من إقامة قاعدة عسكرية لها في منطقة ميون.