على رغم استمرار الارتفاع في مؤشرات الأسهم والسوق الأمريكية وباعتبارها الأكثر سيولة في العالم، فإن المستثمرين بدأوا يرون أن دولة أكبر اقتصاد في العالم ما هي إلا ساحة أخطار يتحسبون لها ويتحوطون لتبعات تطوراتها أكثر منها فرصة للنمو والعائد الاستثماري المجزي.
وعن ذلك قالت الكاتبة الاقتصادية رانا فوروهار لصحيفة "فايننشال تايمز" إن "عدم اليقين والاضطرابات المتتالية جعلا من أمريكا اقتصاداً صاعداً، وليست دولة متقدمة اقتصادياً".
وعلى هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي في نيويورك التقى جمع من الاقتصاديين ومتخصصي السياسة الخارجية، لمناقشة تأثير الانتخابات الأمريكية في التعددية في العالم. وبحسب الكاتبة، التي أدارت الندوة، اتفق الجميع على أن "ترمب سيكون كارثة للتعاون الدولي، بينما كامالا هاريس تظل مجهولة التأثير بعد".
إلا أن أهم ملاحظة هي أن المشاركين في الندوة كانوا أقل اهتماماً بكيفية تعامل أميركا مع العالم، من اهتمامهم بكيف سيسير العالم بوجود الولايات المتحدة أو بغيابها. فبينما يبدو صناع السياسات ورجال الأعمال ينتظرون بفارغ الصبر ما ستسفر عنه الانتخابات الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل ويؤجلون كل خططهم بانتظار تلك النتيجة، إلا أنهم أصبحوا أكثر اعتياداً الآن على عالم لا تعد الولايات المتحدة فيه عماد الاستقرار، بل على الأرجح يرونها محل أخطار يتعين التحوط تجاهها.
أسباب الأخطار
لا تخلو خطط الأعمال والاستثمار عامة من الأخطار، بل إن بعض صور الاستثمار كالأسهم والسندات مثلاً تعتمد على درجات الأخطار لتحقيق العائدات والأرباح. ولأن السوق الأمريكية تظل منذ وقت طويل الأكثر جذباً للاستثمار والمستثمرين فإن ذلك ينطوي أيضاً على أخطار استثمارية متفاوتة الحدة، وهذا هو الحال مع معظم الاقتصادات المتقدمة والمتطورة عموماً، لكن التحوط الأهم فيها هو مدى مرونتها واستقرارها الذي يمثل مقابلاً للأخطار الاستثمارية.
لكن ما يحدث في السنوات الأخيرة، برأي كثير من الاقتصاديين والمستثمرين والمحللين هو أن الولايات المتحدة، بحجم اقتصادها الهائل والأكبر عالمياً، تحولت شيئاً فشيئاً لتصبح "اقتصاداً صاعداً كبيراً" أكثر منها دولة متقدمة متطورة.
ومن خصائص الاقتصادات الصاعدة أنها واعدة ولكنها في الوقت نفسه عالية الأخطار، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة، فالعامل الأهم هو عدم اليقين وصعوبة التوقع والتقدير للمستقبل.
صحيح أنه سياسياً يمكن توقع تغير الوضع كل أربع سنوات مع انتخابات جديدة، لكن رجال الأعمال ورؤساء الشركات يدركون أن خطط الدعم والإعفاءات الضريبية التي تطرح اليوم قد تختفي غداً، كذلك يحسب المستثمرون حساب أخطار ارتفاع الدين العام وتبعاته واضطراب السياسات بصورة عامة.
فك ارتباط
وبحسب ورقة بحثية حديثة من شركة "باي كابيتال" الاستثمارية فإن كثيراً من الحكومات ورجال الأعمال حول العالم "بدأوا يحاولون بهدوء فك الارتباط مع الاعتماد على الولايات المتحدة"، ويشمل ذلك كل شيء تقريباً، من الإنفاق العسكري كما في حالة اليابان وأوروبا، إلى الشركات الألمانية كما في حالة شركة "ساب" وسلسلة المحال "ليدل" إلى نادي بايرن ميونيخ الرياضي وميناء هامبورغ، إذ يتفادون أي ارتباط بمنصات تكنولوجية أمريكية.
وتظل رؤوس الأموال تنساب من أوروبا إلى الولايات المتحدة، في الأقل في جزء منها بسبب القلق من نفوذ الصين، لكن هناك زيادة أيضاً في اعتبار الولايات المتحدة بيئة أخطار استثمارية متزايدة.
ونقلت الصحيفة عن مسؤولة في شركة تكنولوجية أمريكية كبرى قولها إنها أصبحت تسمع من كثير من عملائها الأوروبيين عن انزعاجهم، من أن "الولايات المتحدة أصبحت لا يعتمد عليها بصورة متزايدة كشريك".
بالطبع يعود ذلك لما نشهده من اضطراب السياسات وتغيرها من التعرفة الجمركية والرسوم على التعامل مع الشركاء إلى القيود على الصادرات والتوسع في فرض العقوبات، هذا إضافة إلى حزم التحفيز الأميركية التي تعطي ميزات تنافسية للأمريكيين، لكن العامل الأهم الذي يدفع الشركاء نحو فك الارتباط مع أميركا هو عدم وضوح قواعد التعامل واستقرارها ولا التوجه المستقبلي للطلب في الاقتصاد الذي تعتمد عليه الأعمال في وضع خططها.
ربما يفكر بعضهم في ما إذا كان دونالد ترمب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الرئاسي الحالي سيلغي قانون خفض التضخم لعام 2022 إذا فاز بالانتخابات أو أن كامالا هاريس ستواصل سياسات إدارة الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن تجاه شركات التكنولوجيا الكبرى، لكن المؤسس والرئيس المشارك لشركة الأبحاث "جيو كوانت" مارك روزنبيرغ يرى أن مسألة تحول أميركا إلى اقتصاد صاعد تتجاوز توقعات من يفوز بالرئاسة، قائلاً إن "عدم اليقين يصل إلى المؤسسات التي أصبحت في وضع أضعف من أن تحدد بوضوح أو تطبق القواعد والأعراف وزيادة استقطاب الاجتماعي والعنف السياسي وعدم اليقين والاضطراب مع كل تطور سياسي".
ومنذ عام 2016 وبيانات وتحليلات شركة "جيو كوانت" تشير إلى هذا التحول، ليس فحسب في الولايات المتحدة بل يكاد الأمر يصل إلى أن الاقتصادات المتقدمة كلها أصبحت بدرجة أو بأخرى اقتصادات صاعدة.
وأصبحت الأخطار المؤسسية وعوامل العنف السياسي والاستقطاب الاجتماعي وغيرها في الدول المتقدمة لا تختلف كثيراً عن دول صاعدة مثل تركيا وبوليفيا وجنوب أفريقيا والمجر، ولا يختلف الأمر هنا بين إدارة بايدن أو إدارة ترمب.