بفعل من قوة العادة، عبر قرون عدة، اكتسبت عادة "مضغ القات" قوَّتها وديمومتها ومكانتها في حياة اليمن واليمنيين، رغم إقرار غالبيتهم بمضاعفاتها بالغة السوء على أحوالهم كافة، وبالأخص منها المعيشية والصحية والنفسية وغيرها. إلا أن استفحال هذه العادة في ظل الحرب التي لا تزال تسربل بأذيالها في عموم البلاد، منذ نحو عشرة أعوام، بات ينذر بنتائج كارثية أكثر، ليس على صحة الإنسان فقط، ولكن أيضا على مستقبل الحياة والأرض والبيئة.
صورة ومثال
ما إن يحين وقت القيلولة أو "المقيل" كما يسميه اليمنيون، حتى يأخذ المتحاربون أماكنهم في خنادقهم، واضعين أسلحتهم أمامهم، في نوع قصير ومؤقت من الهدنة، وذلك بهدف التفرغ لمضغ وريقات "القات" جريا على عادة اليمنيين التقليدية في حالات السِّلم أيضا.
ولكن، بمجرد أن تنقضي ساعتان أو ثلاث على قيلولتهم هذه حتى يلتقط كل منهم، على جانبي القتال أسلحته، ويعودون إلى استئناف معاركهم على نحو أشد ضراوة منها في ساعات النهار.
حدث ذلك خلال معظم الحروب النظامية أو شبه النظامية التي خاضها اليمن، على الأقل، خلال قرن مضى.
أما في بداية الحرب الأخيرة التي نشبت عام 2015، فقد كان الأمر نفسه يحدث ولكن على نحو فوضوي أكثر غرابة. وفي واقعة نادرة ومثيرة للدهشة، روى لي أحد القادة كيف أن المتقاتلين كانوا يلتحمون ببعضهم أحيانا في بعض جبهات القتال وهم لا يرتدون ملابس عسكرية، وذلك في مناطق قتال متقاربة، ويجلسون لتناول "القات"، دون قدرة أي منهم على تمييز رفاق سلاحهم من خصومهم، ولكن ما إن يحين موعد صلاة المغرب وينهضون للصلاة، حتى يكتشفوا هويات بعضهم البعض من خلال حركتي "الضم" التي يقوم بها مقاتلو الجيش وحلفاؤهم، و"السربلة" التي يمارسها مقاتلو الجماعة الحوثية، حتى يشتبكوا مع بعضهم بأسلحتهم البيضاء أو النارية الخفيفة، متخذين خطوط قتال لا تلبث أن تتباعد عن بعضها خلال ساعات الليل والصباح.
تشير هذه الرواية- إن صحت- إلى ما هو أبعد من ذلك، إلى ما يتصل بعمق موقع "القات" وجذوره في التاريخ الاجتماعي لليمنيين منذ مئات السنين.
ما هو "القات"؟
ثمة شبه اتفاق بين مختلف البحوث والدراسات العلمية على احتواء "القات" أو "شاي العرب" كما يصفه البعض أو بحسب الاسم العلمي له(Catha edulis) على عنصر "المينوامين" شبه القلوي، ويدعى "الكاثينون" وهو شبيه بـ"أمفيتامين" منشط، وقد صنفت منظمة الصحة العالمية "القات" كعقار ضار من الممكن أن يتسبب في حالة خفيفة أو متوسطة من الإدمان.
حججٌ وتعِلَّات
اعتاد كثير من اليمنيين على تعاطي "القات" لما له من دور مُنشط، كمادة منبهة تساعد على تحفيز أذهانهم لمزيد من التركيز، حتى بالنسبة لبعض البنائين المَهَرة الذين يقومون ببناء المآذن والمباني العالية دون "سقالات" تحميهم من اختلال التوازن والسقوط من فوقها.
الشيء ذاته يعمد إليه بعض صاغة الحلي الفضية أو الذهبية التي تتطلب صناعتها دقة وإتقانا، أو الطلبة في مرحلة الدراسة الثانوية والجامعية خلال استذكارهم لدروسهم.
آثار ومضاعفات
ثار جدل واسع، خلال عقود مضت، في أعقاب عدد من البحوث السوسيولوجية التي سعت إلى تبيان آثار عادة مضغ مادة "القات" على سلوكيات متعاطيه وعلاقاتهم المجتمعية.
من تلك الدراسات ما أشار إلى أن مجالس "القات" تعمل على تقوية الصلات الاجتماعية، حيث تتحول تلك المجالس إلى ما يشبه برلمانات مصغرة تسمح بمناقشات لمختلف قضايا المجتمع، وحتى حل بعض القضايا والمشكلات، إلا أن البعض الآخر من تلك البحوث أشار إلى أن ذلك يأتي على حساب الأسرة، حيث ينصرف مرتادو تلك المجالس عن رعاية شؤون عائلاتهم، خصوصا ما يتصل بعدم متابعة دروس أبنائهم ومستوياتهم التعليمية.
ي الجانب الاقتصادي، ذهب البعض إلى القول إن استهلاك مادة "القات" أمر واقع لشغل أوقات فراغ الناس في ظل انعدام بدائل رياضية وترفيهية وأنشطة عمل اقتصادية، كما أن زراعة "القات"- وهو محصول نقدي مفيد للمزارعين بمقدار ثلاثة أضعاف المحاصيل الأخرى- ساعدت على إنعاش الدورة الاقتصادية عبر جباية المزيد من الضرائب وتدوير الأموال داخل البلاد بين المدن والأرياف، ما خلق نوعا من التوازن المعيشي والتنموي بين سكان الحواضر والقرى، خصوصا مع منع استيراد "القات" واستنزاف العملات الأجنبية على شرائه من الخارج.
إلا أن جانبا من تلك الدراسات حذر من إهدار مخزون البلاد من المياه الجوفية على ريِّ مزارع "القات" في معظم مناطق اليمن الشحيحة المطر، بالإضافة إلى تقلص المساحات الزراعية، والذهاب إلى اقتلاع الأشجار النقدية المثمرة كشجرة (البن) الذي اشتهر به اليمن، وتخصيص قدر أكبر من تلك الأراضي لزراعة أشجار "القات" بدلا منها.
وكان تقرير صادر عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر قبل عامين قد حذر من تبعات استنزاف المياه الجوفية لري شجرة "القات" على المدى البعيد، مؤكدا أن "زراعة القات تستهلك أكثر من 40 في المئة من إجمالي موارد المياه المتجددة في البلاد و32 في المئة من جميع عمليات سحب المياه الجوفية".
وأضاف تقرير للأمم المتحدة أن "حالة الحرب والحصار ونقص الاستثمار في البنية التحتية للمياه جعل 17.8 مليون شخص من سكان البلاد يفتقرون إلى المياه الصالحة للشرب، وخدمات الصرف الصحي".
مخاطر على الصحة العامة
غير أن الآثار الصحية لعادة مضغ القات تظل الأكثر خطورة، وعلى رأسها أمراض القلب والأوعية الدموية، وسرطانات القناة الهضمية العليا، ويشمل ذلك الفم والأسنان والبلعوم، كما يؤدي ذلك إلى فقدان الشهية والقصور الجنسي وغير ذلك من المضار.
وفي زمن الحرب ثار المزيد من المخاوف جراء استيراد بعض الأسمدة والمواد الكيماوية لاستخدامها في الإكثار من إنتاج "القات"، ما أدى إلى تسميم البيئة والتربة الزراعية عموما.
أعباء مادية ومعيشية
رغم انقطاع الرواتب عن غالبية الموظفين من سكان البلاد طوال سنوات الحرب العشر الماضية، فإن أسواق "القات" لا تزال تعج بالباعة والمشترين لهذه النبتة الخبيثة وفقا لوصف البعض لها، ولا بد أن هذا يأتي خصما من النفقات الشحيحة جدا المفترض توجيهها لشراء الغذاء لأسرهم... وقد قالت الأمم المتحدة في مرات عدة: "إن اليمن يواجه أسوأ أزمة غذاء في العالم"، بل واقترب معظم سكانه أحيانا من الوقوف على حافةِ مجاعة حقيقية.
ولتأمين المال لشراء "القات" فإن بعض مستهلكي "القات"، ويقدرون بنحو سبعين في المئة من سكان البلاد، غالبيتهم من الرجال، لا يترددون عن الرشوة والسرقة والاحتيال وغير ذلك من الأعمال والممارسات غير المشروعة.
"القات".. السلوى والبلوى
درج كثيرون على ترديد هذه المقولة للإقرار بالمضاعفات السلبية لعادة مضغ "القات"، ولكن أيضا لتبرير لجوئهم إليها، حيث لا تزال عادة تناوله تبدو النشاط الاجتماعي الوحيد الأكثر استمرارية.
يلجأ كثير من الناس إلى تناوله سواء في منازلهم أو مجالس "القات"، حيث لا خيار لبعضهم كما يقولون غير ذلك، إذ ساهمت الحرب في الحد من أي أنشطة أخرى، فلا دور سينما ولا عروض مسرحية أو أنشطة رياضية كانت في الأصل محدودة قبل نشوب الحرب عام 2015.
خلال عهود طويلة حاولت مؤسسات ثقافية واجتماعية التوعية بمخاطر إنتاج وزراعة "القات" وإيجاد أنشطة بديلة لها إلا أنها أخفقت في ذلك تماما، فيما لم تظهر الحكومات المتعاقبة حماسا كافيا لذلك من خلال فرض قيود صارمة على تعاطي "القات"، على الأقل في المنشآت والمرافق التابعة لها، بل اضطرت إلى الرضوخ لما اعتُبر "قوة العادة" في مجتمع قبَلِيّ في أغلبه، يعتبر أن أي إجراء من هذا النوع يمثل تعديا على الحرية الشخصية لأفراده، ومساسا بعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية المتجذرة في تاريخهم.
وفي سنوات الحرب اضطر المزارعون الباحثون عن المياه، وسط الجفاف المتزامن مع انهيار مقدرات قطاع المياه وشبكات الري، وأزمات الوقود الخانقة، إلى إطلاق عدد من المبادرات المجتمعية التي تمثلت في عمليات اقتلاع شجرة "القات" وإحلال شجرة البن واللوز بدلا منها وسط تشجيع رسمي وشعبي، وذلك في مناطق حراز وريمة وإب، غير أن تلك المبادرات لا تزال مجرد محاولات محدودة القيمة والأثر.
والملاحظ أنه كلما افتقر اليمن إلى خطط لتنمية بشرية فورية وفعالة، وتوالت عليه الحروب والأزمات، توسعت ظاهرة مضغ "القات"، ففي جنوب البلاد الذي كان قد سن قبل الوحدة عام 1990 قوانين لمنع تعاطي "القات" باستثناء يومي العطلة الأسبوعية (الخميس والجمعة) استشرت هذه الظاهرة، وبدأ بعض مناطق الجنوب نفسه في إنتاج "القات" فضلا عن جلبه إلى أسواقه من مناطق الشمال الأكثر إنتاجا له.
أكثر من ذلك أنه مع توالي تلك الأزمات وزيادة أوقات الفراغ لدى المواطنين فقد زادت ساعات تعاطي "القات"، بما يصاحب ذلك في الغالب من تدخين السجائر والشيشة وتناول المشروبات الغازية.
كارثة بلا مؤشرات
باستثناء بعض الجهود التي قامت بها منظمات دولية وهيئات محلية للإحاطة والمتابعة لمؤشرات تنامي مخاطر "القات" في أوقات الحرب فإنه يمكن القول إن ذلك يفتقر إلى ما يكفي من الدقة والشمول، إذ يُلاحظ اليوم غياب أي أرقام دقيقة أو معلومات كافية بشأن الحال الراهن ومعدلات الإصابة بالأمراض الناجمة عن تعاطي "القات"، حيث انهار ما يقرب من ثلاثة أرباع النظام الصحي في معظم مناطق البلاد، ولا بد أن هذا زاد من تفاقم الأمراض الناتجة عن عادة مضغ "القات"، يضاف إلى هذا صعوبة السفر إلى الخارج لتلقي العلاج لأسباب مادية وأمنية عدة.
ورغم قتامة المشهد والمآسي الناتجة عن عادة مضغ "القات" في هذه الأوقات العصيبة فإن وعيا متزايدا بدأ يتشكل في المقابل، خصوصا لدى فئة الشباب والشابات، يمكن أن يشكل أرضية للبناء عليها، فـ"القات" في رأيهم ليس قدرا تصعب مواجهته، ولا ينبغي أن يترسخ في المستقبل ليغدو إرثا يستحيل اجتثاثه، ومع هذا فالوعي والأمنيات وحدهما، لا يكفيان، كما يقولون، دون "استراتيجيات عمل" ممنهجة ومدروسة.
تشوهات لصورة اليمن الدولية
تم منع استيراد وتناول نبات "القات" في معظم دول العالم إلا أن ذلك لم يحدّ من محاولات تهريبه بعد تجفيفه وطحنه، وذلك بطرق ملتوية عدة، بغية تسويقه في أوساط بعض الجاليات اليمنية وغيرها في الخارج.
ومع أن البلاد ليست الوحيدة المنتجة والمستهلكة لهذه الشجرة، فإلى جوارها بلدان أخرى في الشرق الأفريقي مثل إثيوبيا وكينيا اللتين تصدران "القات" أيضا، مع هذا فإن صورة اليمن وحده هي التي لا تزال منذ عقود طويلة تقترن في أذهان كثيرين حول العالم بهذه النبتة الخبيثة.
وبقدر ما بات من المتعذر، خصوصا في زمن الحرب، الذهاب إلى تحقيق فكرة "يمن بلا قات" التي حاولت هيئات ومجموعات مختلفة تبنيها والدعوة إلى ترجمتها، فإنه يتعذر كذلك تصور اعتماد أي حلول أخرى لوضع حد لمعضلة "القات" دون توقف الحرب وإعادة بناء مؤسسات الدولة اليمنية بما يمهد الطريق أمام تنمية شاملة مستدامة تتضمن ثورة ثقافية جادة للقضاء على هذه الآفة المريعة.