في تسعينات القرن الماضي عشتُ في محافظة صعدة اليمنية الواقعة شمال اليمن، خلال فترتين متقطعتين بإجمالي تقريبا ثلاث سنوات مرة مع عائلتي ومرة مع والدي، كانت تلك الفترة هي واحدة من أجمل محطات حياتي رغم صغر سني.
كنتُ أدرك وأستوعب ما يدور حولي في هذه المحافظة الجميلة التي أعتبرها من أجمل محافظات اليمن بطيبة أهلها وخيراتها من المحاصيل الزراعية غير المنقطعة على مدار العام، والتي تتميز بمواسم متعددة تجلب لأبنائها خيرات كثيرة.
ما زلتُ متمسكا بانطباعي الجميل عن صعدة وكرم أهلها ومجتمعها الذي حُرم الكثير من التنمية والخدمات رغم العمل الدؤوب لكل من يعمل ويعيش فيها بالقدر الموجود والمتوفر لهم، وربما هذا ما ميّزها عن غيرها، تنمية تكاد معدومة وخيراتها تصل إلى كل المحافظات، بل وخارج اليمن.
لا يمكن ذكر الخضروات والفواكه دون ذكر محافظة صعدة التي صدّرت إلى كل محافظات اليمن هذه الخيرات وبدرجة ونوعية وممتازة، وهذ ما يمّز هذه المحافظة التي تعيش حاليا في قبضة جماعة بربرية تعادي حياة الناس هناك.
لم أرَ بحياتي خلال تلك الفترة أن مواطنا أشترى خضروات أو فواكه بالكيلو، بل كل المشتريات تتم بالسلة، وكان هذا يعبّر عن الوفرة الكثيرة للمنتجات الزراعية على مدار العام وبأسعار زهيدة للغاية، كان كل شيئا في المتاول ولم يكن صعب المنال، اليوم صعدة بحاجة لأقل من ربع ما كانت تمتلكه خلال ربع القرن الماضي.
لم أنسَ الحصيلة اليومية التي كنت أحصل عليها من أصدقاء والدي في مكان العمل رغم رفضي لها، كانت هذه صورة جعلتنا أدرك كرم أبناء المحافظة وطبيتهم وأخلاقهم، كان والدي يحذرني دائما برفض الهدايا والنقود من باب عدم التعود كوني طفلا، تلك التحذيرات لم تكن عائقا أمام أصدقاء والدي الذين كانوا يغدقون عليّ بالألعاب والنقود.
عشت مع أبناء الطائفة اليهودية الذين غلبتهم يمنيتهم على معتقداتهم، وكانوا جزءا لا يتجزأ من المجتمع الصعدي الأصيل بكل توجهات ومعتقداته وطوائفه، كان هناك انسجاما عجيبا لافت للنظر وهذا ما كنت أدركه بقدري الذهنية الصغيرة، لكن ما زلت أحتفظ بها جيدا.
عندما كنا نخرج للتنزه في ضواحي المدينة، كانت تشبه الدخول إلى الجنة، وهذا ما كنت أشعر به وأنا اتجول داخل المزارع المثمرة والواعدة بالخيرات، كان المزارعون يسمحون لنا بقطف ما يلحو لنا شريطة عدم إخراج أي ثمار خارج المزرعة، وهذا كافيا يظهر أصول كرم ملاّك المزارع.
كانا نحظى باحترام كثير من الناس كوننا من محافظة أخرى نسكن صعدة التي كانت تشبهنا كثيرا، رغم أن الفترة لم تكن طويلة، أصبحنا جزءا من أبناء المحافظة، ولم نواجه أي شيء عكّر صفو حياتنا أو تعامل معنا بأسلوب لم يرق لنا، بل كنا في نعيم لا مثيل له واحتوتنا أخلاق الناس كثيرا.
ما زلتُ احتفظ بذكريات كثيرة ارتبطت بالشارع العام وسط المدينة الذي يعد الشارع الرئيس بمركز المحافظة، ما زلت احفظ ملامح المطاعم الشعبية وأسواق الذهب والفضة المملوكة لإخواننا اليهود، وأسواق القات ومحلات المواد الغذائية وأسواق الخضروات والفواكه، كل شيء كان جميلات رغم بساطة المدينة وبنيتها التحتية، كانت الحياة جميلة ونقية والعمل فيها يسير في نسق متزايد.
كانت محافظة صعدة تتلقى دعما سخيا من المملكة العربية السعودية، وخاصة في الجانب الصحي، كان مستشفى السلام المعروف في مدينة صعدة يتلقى تمويلا سعوديا، وكنا نتلقى الرعاية الصحية مجانا مثلنا مثل أبناء المحافظة ككل دون استثناء، ذات مرة سألتُ والدي لماذا يعطوننا العلاج مجانا؟ ومن يدفع؟ أخبرني أن السعودية هي من تدفع.
أما سور المدينة الحيوي له ذكريات خاصة، ذلك السور لم ينقطع منه السواح الأجانب الذين يأتون من بلدان عدة لزيارة المدينة وتحفتها المعمارية الجذابة، ذلك السور كان حاضنا مهما للمدينة القديمة وسكانها، وحتى الذين يعيشون خارج حدوده، كنتُ اتجول برفقة والدي باستمرار، وكان والدي يتحدث الإنجليزية بشكل محدود، ويحب التحدث مع السواح بلغة ليست محترفة لكنه يفهمهم ويفهمونه، كانت الابتسامات بينهم تعبر عن أجواء المكان الجميل.
لا مجال للحديث عن صعدة التي في ذاكرتي، احتاج وقتا كثيرا للحديث عنها، هناك تفاصيل تجعلني استرد رائحة المكان والزمان في هذه المحافظة، تفاصيل تجعلني اشتاق وأحن لشوارع وأحياء المدينة المتزاحمة.
كانت هذه صورة مصغرة وجميلة نقلتها من ذاكرتي التي احتفظ فيها بأشياء جميلة منذ طفولتي. يا ليتها تعود وتعود معها صعدة رمزا للسلام والتعايش والاستقرار، وهذه واحدة من أمنياتي وأمنيات كل يمني يرى هذه المحافظة التي تعيش بين فكي الغطرسة والعنجهية الحوثية منذ عقود.
أشتاق صعدة كثيرا، وأشتاق احتضار ذلك الزمن بزيارة هي بالواقع مستحيلة في الوقت الراهن، نعم الزمر مستحيلا أن أزورها في ظل وضعها الحالي، ولكن لي أمنية لزيارتها لعلي استجمع تلك الصورة الجميلة، لم أعرف ما إذا هذا ممكنا أم لا.
اليوم صعدة تأن بصمت مخيف مما يحدث لها على يد هذه الجماعة القادمة من خارج الزمن، أصبحت مكبّلة تحكمها عصابة وبندقية وإرهاب منظم، تعاني كثيرا ولا أحد يشعر بمعاناتها، فهي تحتاج أن ننزع عنها القيود والأغلال، تتوق صعدة كباقي محافظات اليمن للتحرر، وتصبح رمزا للسلام والاستقرار.
صعدة مختطفة، جعلها الحوثيون بقعة جغرافية مختلفة عن باقي الجسد اليمني، وهذا ليس مألوفا لنا كمنيين أحببنا هذه المحافظة التي وصلت خيراتها إلى كل بيت يمني، شوّهت هذه العصابة وجه صعدة الجميل وحوّلتها إلى كومة من الدمار والخراب، كل شيء فيها أصبح شاهدا على الحرب والدمار الذي جلبه الحوثي للمحافظة التي عاشت أمان باستقرار وتعايش لا مثيل له.
أحبوا صعدة كثيرا أيها اليمنيون، رغم انكسارها ورغم التشوه الذي حدث لها، لا يجب أن نترك صعدة لهذه العصابة المتمردة الإرهابية، لمحافظة صعدة حقُ علينا ودين يجب أن نرده، لا يوجد يمني لم يتناول الرمان أو الزبيب أو العنب من سلة صعدة.
أخشى على صعدة أن تتحول في أذهاننا إلى رمز للجماعة الحوثية الإرهابية، صدقوني صعدة ليست التي يراها البعض معقل الجماعة عن حق وحقيقة، صعدة مظلومة ومكلومة تأن تحت وطأة الإرهاب الحوثي، لوّثها الحوثي، لكنها ستظل نقية في ذاكرتنا.
أقل ما يمكن وصف وضع صعدة في عهد الحوثي، إنها مأساة مبكية تشق الروح والصخر.