يواجه الاقتصاد الروسي في الوقت الحالي مزيجاً من الفرص والتحديات التي قد تحدد مسار مستقبله في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا.
من جهة، فإن روسيا استطاعت الصمود أمام العقوبات الغربية، مستفيدة من تحالفاتها الاقتصادية مع دول مثل الصين والهند، مما أتاح لها تجاوز العديد من الصعوبات. ولكن من جهة أخرى، تظهر التوقعات أن الحرب قد تؤدي إلى نفاد الموارد العسكرية الرئيسية بحلول العام 2025، مما يضع الاقتصاد في مواجهة أزمة طويلة الأمد.
كما أن تداعيات الحرب قد تؤثر بشكل كبير على البنية الاقتصادية الداخلية، وتزيد من الضغوط السياسية على النظام الروسي، في ظل الخيارات الاقتصادية الصعبة التي قد يواجهها الرئيس فلاديمير بوتين.
ويبدو أن الاقتصاد الروسي "غير قادر على دعم الحرب في أوكرانيا بعد العام المقبل"، لكن انتهاء القتال قد يشكل أيضاً تهديداً وجودياً لنظام الرئيس فلاديمير بوتين، وفقا للخبراء، بحسب تقرير لمجلة فورتشن الأمريكية.
وفي تحليل نشر في مجلة فورين بوليسي في وقت سابق من هذا الشهر، أوضح المحاضر الأول في كلية العلاقات الدولية بجامعة سانت أندروز، مارك ديفور، و أستاذ التمويل في أكاديمية كييف موهيلا الوطنية،ألكسندر ميرتنز، كيف أن روسيا لا تستطيع إنتاج ما يكفي لاستبدال ما تخسره في ساحة المعركة.
يفقد الجيش نحو 320 برميل متفجر (قذائف دبابات) ومدفع شهرياً، في حين لا تستطيع المصانع الروسية إنتاج أكثر من عشرين شهرياً، الأمر الذي يضطر الكرملين إلى اللجوء إلى مخزونات الأسلحة السوفييتية المتقادمة. ولكن هذا لا يكفي، وسوف تنفد مخزونات الأسلحة الروسية في وقت ما من العام 2025.
روسيا تخسر نحو 155 مركبة قتالية للمشاة شهرياً، ولكن صناعتها الدفاعية لا تستطيع أن تنتج أكثر من 17 مركبة شهرياً.
"لا يمكن لروسيا أن تستمر في خوض الحرب الحالية بعد أواخر عام 2025، عندما تبدأ في نفاد أنظمة الأسلحة الرئيسية لديها".
وأشار ديفور وميرتنز إلى أن خفض الإنفاق الدفاعي الضخم من شأنه أن يؤدي إلى تباطؤ اقتصادي وسيترك عديداً من الناس عاطلين عن العمل، محذرين من أن "تجربة المجتمعات الأخرى ــ وخاصة الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الأولى ــ تشير إلى أن جحافل الجنود المسرحين والعاملين في قطاع الدفاع العاطلين عن العمل تشكل وصفة لعدم الاستقرار السياسي.
تشويه تكوين الاقتصاد الروسي
ووفق التقرير، فقد أدت الحرب أيضاً إلى تشويه تكوين الاقتصاد الروسي، حيث كان يتم تفضيل شركات الدفاع على حساب الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تخدم القطاع المدني، والتي لن تكون قادرة على استيعاب الجنود والعمال النازحين بنهاية الحرب.
ومن ثم، فإن التوصل إلى اتفاق سلام من شأنه أن يترك الرئيس بوتين أمام ثلاثة خيارات غير مقبولة، وفقاً لديفور وميرتنز.
الخيار الأول: تقليص حجم الصناعة العسكرية والدفاعية، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى ركود يهدد النظام.
الخيار الثاني: الحفاظ على قوة عسكرية هائلة من شأنها أن تخنق النمو الاقتصادي في نهاية المطاف.
الخيار الثالث: الحفاظ على الجيش واستخدامه للحصول على الموارد التي يحتاج إليها، أوـ "بعبارة أخرى، استخدام التدخل في الدول الأخرى والتهديد به لدفع ثمن الجيش"، وفق التقرير.
قدرة على الصمود
من جانبه، قال الاستاذ بكلية موسكو العليا للاقتصاد، الدكتور رامي القليوبي، في تصريحات خاصة لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية" إن:
الاقتصاد الروسي يمتلك القدرة على الصمود في وجه العقوبات الغربية المفروضة عليه.
العقوبات الاقتصادية، مهما كانت شدتها، لا تستطيع إحداث انهيار كامل للاقتصادات.. يُمكن هنا الاستشهاد بتجارب دول مثل إيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال.
روسيا، بصفتها أحد أكبر منتجي النفط في العالم إلى جانب السعودية والولايات المتحدة، تمتلك أصولاً اقتصادية كبيرة تمكنها من التعامل مع هذه التحديات.
وشدد القليوبي على أن "روسيا أثبتت تاريخياً قدرتها على التكيف مع العقوبات وتطوير آليات للالتفاف عليها"، موضحاً أن التجارة النفطية بين روسيا والهند، على سبيل المثال، تعد نموذجاً واضحاً على ذلك، حيث تقوم الهند بتكرير النفط الروسي وتصديره إلى أوروبا بأسماء تجارية مختلفة، مما يقلل من تأثير العقوبات.
واختتم القليوبي تصريحه بالتأكيد على أن الاقتصاد الروسي سيستمر في الصمود والتطور، وأن العقوبات الغربية لن تحقق أهدافها المنشودة."
موارد كافية
يشير تقرير لمجلة ناشيونال إنترست، إلى أن:
روسيا حافظت على العدد اللازم من القوى العاملة، وكان للعقوبات الاقتصادية الغربية تأثير محدود للغاية على الاقتصاد الروسي.
لكن موارد روسيا ليست بلا حدود.. بينما في الوقت الحالي، يمتلك الكرملين ما يكفي من المال لتمويل الحرب، ودفع رواتب الجنود أو تعويضات لأسرهم في حالة الوفاة، والتأكد من أن صناعة الدفاع سوف تكون قادرة على العمل.
إن عجز الميزانية في روسيا في زمن الحرب أقل من عجز ميزانية العديد من الدول الغربية في زمن السلم.
لا تشعر روسيا بالعزلة الدولية؛ فهي تتعاون مع ما يسمى "الجنوب العالمي"، حيث تلعب الصين الدور القيادي في تمكين روسيا من مواصلة الحرب. وأصبحت دول مثل إيران وكوريا الشمالية من الموردين المهمين للأسلحة والذخيرة، وفي الحالة الأخيرة أيضا القوى العاملة.
تأثير ترامب
لكن مستشار المركز العربي للدراسات والبحوث، أبو بكر الديب، قال لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":
الفترات الصعبة التي مرت بها روسيا "انتهت".. والسنوات الأربعة المقبلة بينما الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب ستشهد تعاوناً أكبر بين بوتين وترامب في مجالات الطاقة العالمية والاقتصاد والقوة النووية.
الرئيسان من المرجح أن يتقاربان بالفعل كما سيسعيان للتفاوض أكثر من التصادم، وسيبحثان عن حلول وسط في القضايا العالقة، مع التركيز على الاقتصاد بشكل أكبر.
الاقتصاد سيكون الرابح الأكبر من تقارب العلاقة بين ترامب وبوتين، حيث استطاع الاقتصاد الروسي تحمل وامتصاص جميع الضربات التي وجهها الغرب له عبر آلاف العقوبات خلال السنوات الماضية، محاولةً شله وتوقفه تماماً.
الاقتصاد الروسي استطاع تحمل الصدمات والمرور بها بنجاح، وتكوين حلفاء جدد في الصين والهند، مما سمح له بتجاوز تداعيات تلك العقوبات المشددة، التي لو فرضت على أي دولة أخرى لأوقعت نظامها الاقتصادي والسياسي بعد أشهر قليلة.
وأوضح الديب أن الاقتصاد الروسي لديه مقاومات بجانب براعة بوتين في التعامل مع الظروف القاسية. وأضاف أن روسيا تعد من أكبر اللاعبين الكبار في سوق الطاقة، وهي منتج رئيسي ومهم للغاز والطاقة، بالإضافة إلى أنها تمتلك مساحات شاسعة وتعد منتجًا مهمًا للحبوب والمنتجات الغذائية والقمح وغير ذلك. وأشار إلى أن روسيا استطاعت تكوين حلفاء جدد في الهند والصين وعدد من الدول العربية والأفريقية لتمرير صادراتها بعيدًا عن العقوبات الغربية.
وأكد أن روسيا نجحت في تنشيط تجمع "بريكس" ليوازي التجمعات الاقتصادية الكبرى، وأنها والصين نجحتا في جعل هذا التجمع يتفوق على الناتج المحلي الإجمالي لمجموعات السبعة الكبار، مشيراً إلى أن الفترة المقبلة ستكون فترة هدنة، ولن تكون فترة سلام تام، ولكنها ستشهد انخفاضاً في التوتر الاقتصادي والسياسي بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية، ومن خلفها أيضاً أوروبا.
قلق عميق
على الجانب الآخر، المحلل السياسي الروسي، تيمور داوود، تحدث عن الوضع الراهن في أوكرانيا، حيث عبر عن قلقه العميق بشأن المعضلة القائمة بين موسكو وواشنطن. وأبرز أن الحوار بين الطرفين غائب تماماً، مما يزيد من تعقيد الأزمة.
ووصف كيف أن السياسات الغربية، وخاصة ما وصفه بـ "التحريض الأميركي"، قد أدت إلى تأجيج النزاع وجعلت أوكرانيا في مواجهة مباشرة مع روسيا، متحدثاً في الوقت نفسه عن التوقعات بشأن الحوار المحتمل بين روسيا والولايات المتحدة، وذلك بالإشارة إلى عدم وجود أي مؤشرات على ذلك مع الإدارة الحالية، لكنه يعتقد بأن قدوم ترامب قد يفتح باب النقاش.
وشدد على أهمية الحل الدبلوماسي، حيث أن الوضع الاقتصادي في أوكرانيا يزداد سوءاً، مما يجعل من الصعب عليها سداد ديونها من دون دعم خارجي، ولا يستبعد الانضمام إلى روسيا كخيار.
وعن الاقتصاد الروسي، أكد أن الوضع الحالي ليس في صالح روسيا أيضاً، مشيراً إلى أن تداعيات النزاع تؤثر سلباً على جميع الأطراف.