يتمحور السؤال الأهم حالياً حول ما إذا كان صندوق النقد الدولي سيتراجع عن مواقفه المتشددة تجاه العملات المشفرة مع عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بعد أن وعد خلال حملته الانتخابية بتحويل الولايات المتحدة إلى عاصمة للعملات المشفرة، وبالنظر إلى الدور الكبير الذي تلعبه الولايات المتحدة في صندوق النقد الدولي، إذ تعد أكبر مساهم مالي فيه وتحظى بأكبر نسبة من القوة التصويتية بين جميع الدول الأعضاء بنحو 17%، فإن ذلك يمنحها القدرة على نقض ضد أي اقتراح.
وربما يكون التخلي عن التشدد مدفوعاً بتجاوز عملة "بيتكوين" حدود الـ 100 ألف دولار، إضافة إلى أن العملات المشفرة أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله، إذ يتداول فيها مئات الملايين من البشر على رغم الأخطار المتعلقة بها.
الأصول المشفرة وتقويض فعالية السياسة النقدية
وعلى افتراض أن صندوق النقد الدولي أبدى مرونة تجاه العملات المشفرة بضغط من ترمب فإن ذلك لا يعني انفتاحاً بالكامل على تبنيها، فالصندوق لا يزال يحتفظ بمحاذير كبيرة عند الحديث عن التشفير ويرى أن الاستجابة السياسية والتنظيمية الشاملة ضرورية لمعالجة أخطار الأصول المشفرة، محذراً من أن التبني الواسع النطاق للأصول المشفرة قد يؤدي إلى تقويض فعالية السياسة النقدية والالتفاف على تدابير إدارة تدفقات رأس المال، وتفاقم الأخطار المالية وتحويل الموارد بعيداً من تمويل الاقتصاد الحقيقي، داعياً إلى ضرورة اليقظة في مواجهة نمو أسواق الأصول المشفرة وارتباطاتها بالمؤسسات المالية القائمة.
ويرى الصندوق أن "النمو السريع للعملات المستقرة المقومة بالعملات الأجنبية في كثير من الاقتصادات الناشئة يتطلب فهماً دقيقاً للأخطار، فكثير من الاقتصادات الناشئة تفتقر إلى الرقابة القانونية والتنظيمية الفعالة وأيضاً إلى الأحكام القانونية الخاصة بالإفلاس، مما يعني أنه يمكن خلط الأصول الاحتياطية وعدم تأمينها إذا فشل المصدر أو الشركات التابعة له".
وتابع الصندوق الدولي أن "التوسع في استخدام الأصول المشفرة يتطلب أيضاً تغييرات في احتياطات البنوك المركزية وشبكة الأمان المالي العالمية، مما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار المحتمل".
وفي وقت سابق تعهد صندوق النقد الدولي ومجلس الاستقرار المالي بمواصلة التعاون مع هيئات الرقابة على الأسواق وغيرها من المنظمات الدولية لدعم وتعزيز نهج شامل ومنسق عالمياً في مجال السياسات والتنظيم في ما يتعلق بأسواق الأصول المشفرة، إذ من المقرر أن يُجري مجلس الاستقرار المالي مراجعة لحال تنفيذ إطار عمل مجلس الاستقرار المالي بحلول نهاية عام 2025.
العملات المشفرة واستهلاك الكهرباء
ويتشدد صندوق النقد الدولي أيضاً تجاه العملات المشفرة نظراً إلى استهلاكها الكبير للطاقة أثناء تعدين الأصول المشفرة والانبعاثات الكربونية الناجمة عنه، موضحاً أن "الكهرباء المستخدمة بواسطة المعدات عالية الطاقة لتعدين الأصول المشفرة تتطلب خلال معاملة واحدة فقط ما يعادل كمية الكهرباء التي يستهلكها شخص عادي يسكنن غانا أو باكستان في ثلاثة أعوام".
ووفقاً للصندوق فإن تعدين العملات المشفرة ومراكز البيانات يشكلان معاً اثنين في المئة من الطلب العالمي على الكهرباء خلال عام 2022، مرجحاً أن ترتفع النسبة إلى 3.5% بحلول عام 2025، وفقاً لتقديرات الصندوق المبنية على توقعات وكالة الطاقة الدولية، وهو ما يعادل الاستهلاك الحالي لليابان، خامس أكبر مستهلك للكهرباء في العالم.
ووجدت ورقة عمل حديثة صادرة عن صندوق النقد الدولي أن التعدين بالعملات المشفرة قد يولد 0.7% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بحلول عام 2027، وأن النظام الضريبي هو أحد الطرق لتوجيه الشركات نحو الحد من الانبعاثات، ووفقاً لتقديرات الصندوق فإن فرض ضريبة مباشرة مقدارها 0.047 دولار لكل كيلووات/ ساعة من شأنه أن يدفع صناعة تعدين العملات المشفرة إلى الحد من انبعاثاتها بما يتماشى مع الأهداف العالمية، إذ يقول الصندوق إنه إذا أخذنا في الاعتبار تأثير تلوث الهواء في الصحة المحلية فإن معدل الضريبة هذا سيرتفع إلى 0.089 دولار، مما يترجم إلى زيادة 85% في متوسط سعر الكهرباء لعمال المناجم".
وأشار إلى أن تلك الضريبة قد ترفع الإيرادات الحكومية السنوية بمقدار 5.2 مليار دولار عالمياً، وفي الوقت نفسه تقلل الانبعاثات السنوية بمقدار 100 مليون طن، أي نحو انبعاثات بلجيكا الحالية.
وقال إن "كثيراً من شركات التعدين المشفرة تتمتع بإعفاءات ضريبية سخية وحوافز على الدخل والاستهلاك والممتلكات، ونظراً إلى الأضرار البيئية والافتقار إلى فرص العمل الكبيرة والضغوط على الشبكة الكهربائية التي قد تؤدي إلى رفع الأسعار على الأسر وتقليل الطلب على استخدام السلع الأخرى منخفضة الانبعاثات، مثل المركبات الكهربائية، فإن الفوائد الصافية لهذه الأنظمة الضريبية الخاصة غير واضحة في أفضل الأحوال".
السلفادور تتخلى عن طموحات التشفير
ومما يدلل على تشدد صندوق النقد تجاه العملات المشفرة هو موافقة حكومة السلفادور أول من أمس الأربعاء على تقليص خطتها الطموحة لتبني "بيتكوين" كعملة وطنية في مقابل الحصول على قرض بقيمة 1.4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لدعم أجندتها للإصلاح الاقتصادي.
وقال الصندوق إن حكومة السلفادور التزمت بتنفيذ تدابير لتخفيف الأخطار المرتبطة باستخدام "بيتكوين"، في خطوة تعكس مرونة أكبر تجاه العملات المشفرة، وسط توقعات بسياسات أكثر ودية مع الإدارة الأميركية المقبلة بقيادة ترمب.
وكانت السلفادور خصصت أكثر من 200 مليون دولار عام 2021 لنشر أجهزة الصراف الآلي لـ "بيتكوين" وتقديم محفظة إلكترونية بمبلغ 30 دولاراً لكل مواطن، إلا أن استخدام العملة الرقمية لم ينطلق بالصورة المتوقعة، إذ استخدمها معظم المواطنين للتعاملات اليومية أو استبدالها بالدولار، ويعد هذه الاتفاق مع صندوق النقد الدولي خطوة مهمة لتحقيق الاستقرار المالي، لكنها جاءت على حساب طموحات السلفادور بأن تصبح مركزاً عالمياً للعملات المشفرة.
وبدأت حكومة السلفادور شراء "بيتكوين" عندما كان سعره نحو 30 ألف دولار، إذ تكبدت خسائر في البداية قبل أن تحقق مكاسب كبيرة مع تجاوز سعره المتقلب حاجز 100 ألف دولار أخيراً، ووفقاً لصندوق النقد الدولي فقد تضمنت التنازلات التي قدمتها إدارة الرئيس نجيب بوكيل إنهاء إلزامية قبول "بيتكوين" من قبل الأعمال التجارية في البلاد، إضافة إلى تقييد مشاركة القطاع العام في الأنشطة المتعلقة بالعملة الرقمية، مؤكداً أن الأخطار المحتملة لمشروع "بيتكوين" ستُقلل بصورة كبيرة بما يتماشى مع سياساته، وبموجب الاتفاق وافقت حكومة السلفادور على تقليص دورها تدرجاً في إدارة محفظة "تشيفو" الإلكترونية التي أطلقتها عام 2021.
وشهد الاقتصاد السلفادوري توسعاً مستقراً منذ جائحة كورونا مدعوماً بتحويلات مالية قوية وانتعاش ملاحظ في قطاع السياحة، وسط تحسن في الوضع الأمني مع تأثيرات سلبية موقتة فقط للصدمات المناخية.
وفي الوقت نفسه استمر عجز الحساب الجاري في التراجع وانخفض التضخم بصورة أكبر بدعم من تراجع أسعار السلع العالمية وتحسن الوضع المالي تدرجاً، وأدت العمليات الأخيرة لإدارة الالتزامات إلى خفض كبير في حاجات التمويل على المدى القريب، وذلك في سياق انخفاض حاد في الفروق السيادية.