شهدت سلطنة عمان محادثات اختلف الطرفان هل هي مباشرة أو غير مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران حول البرنامج النووي الإيراني، وسط تصعيد عسكري أمريكي ضد الحوثيين في اليمن، لهذا فإن القول إن "الرقبة في سلطنة عمان والسيف في صنعاء" ليس من قبيل المبالغة، فعلى بعد أميال قليلة من قاعات المفاوضات السرية، تتحصن بوارج ترمب النووية، تنذر طهران بالوعيد الذي برهنت على جديته بإرسال قسط مرير منه إلى حلفائها في صنعاء.
ومع أن هذا التصور يعكس تعقيدات المشهد والمفاوضات القائمة على طاولة أصابع أطرافها على الزناد، إلا أن طهران، المعروفة بنفسها الطويل، على رغم تراجع نفوذها والتفوق الأمريكي المحسوم ليست في وارد الاستسلام، حتى وإن استجابت لخيار الضرورة وجاءت مكرهة إلى قاعة "اختبار" مفتوحة على كل الاحتمالات، صارحها ترمب بأن أحلاها مر، أن تقدم تنازلات جدية، أو تجرب بطش البيت الأبيض، الذي رأته عقوداً يحوم حولها في العراق وأفغانستان والبلقان.
وأكد وزير الخارجية العماني بدر البوسعيدي الوسيط أن اللقاء "جرى في جو وديّ يُسهم في تقريب وجهات النظر، ويحقق في نهاية المطاف السلام والأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي".
وقالت مصادر عمانية لـ"اندبندنت عربية" إن المفاوضات "أحيطت بسرية شديدة وأجواء توتر بالغة بسبب الظروف الجيوسياسية"، في إشارة إلى تهديدات ترمب، والاستنفار العسكري في بحر عمان والخليج.
وأعلن عباس عراقجي انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات مساء اليوم السبت بعد عقدها بشكل غير مباشر في غرفتين منفصلتين، وسط أجواء "إيجابية وبناءة" حسب ما قال في منشور له على تلغرام. بعد أن أكد في وقت سابق للتلفزيون الإيراني أن "هناك فرصة للتوصل إلى تفاهم أولي في شأن مزيد من المفاوضات إذا خاض الطرف الآخر (الولايات المتحدة) المحادثات على أساس التكافؤ"، بينما قال مسؤول إيراني لـ"رويترز" إن الزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي، صاحب القول الفصل في القضايا الرئيسة للدولة في هيكل السلطة المعقد في إيران، منح عراقجي "الصلاحيات الكاملة" في المحادثات.
تأتي المحادثات بعد إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن شروط صارمة لإيران، مع عقوبات جديدة على برنامجها النووي ونشر حاملات طائرات إضافية، إذ يشير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن هذه الخطوة تعيد سياسة "الضغوط القصوى" التي أدت عام 2018 إلى انسحاب أميركي من الاتفاق النووي.
إرث أوباما يعقد المهمة
الولايات المتحدة تطالب بتفكيك البرنامج النووي الإيراني وقيود على نفوذ طهران، إذ أكدت "نيويورك تايمز" أن ترمب يسعى إلى اتفاق أوسع من 2015، مع مهلة شهرين قد تؤدي إلى تصعيد إذا فشلت المحادثات، فضلاً عن الضغط القائم أصلاً على الحوثيين الذين يشكلون مع العراقيين ذراعيها الأكثر فاعلية في الإقليم حتى الآن، مما جعل مركز "بروكينغز" يرى أن هذا الضغط قد يعزز تعنت طهران بدلاً من دفعها إلى التنازل.
واستبقت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة المفاوضات بالقول على "إكس" من موقعها إنه "إذا كان الغرض من المفاوضات تفكيك البرنامج النووي السلمي الإيراني، حتى يقال إننا فعلنا ما لم يكن أوباما قادراً على فعله، فإن مثل هذه المفاوضات لن تتم أبداً"، في إشارة إلى خطاب ترمب المعتاد في انتقاد الديمقراطيين ولا سيما أوباما وخلفه بايدن.
لكن الباحث العماني في الشؤون السياسية محمد العريمي يؤكد أن إيران مدركة أن التنازلات لا مفر منها في جولة المحادثات الحالية، وقال في حديث مع "اندبندنت عربية" إن المطلوب من طهران هو "تقديم تنازلات في الأنشطة النووية، والتعاون الإقليمي لمكافحة الإرهاب، والتأثير في حلفائها وأذرعها في المنطقة لخفض التصعيد، مع إصرار محتمل على الاحتفاظ ببرنامجها الصاروخي باعتباره نقطة مفصلية، وذلك في مقابل أن تلغي الولايات المتحدة أو تخفف العقوبات الاقتصادية والاعتراف بدور إيران الإقليمي وتقديم ضمانات بعدم السعي لتغيير النظام"، موضحاً أن "استخدام هذه الأوراق بشكل مدروس يمكنه خلق مناخ تفاوضي فعال".
وتطالب إيران دائماً برفع العقوبات وإزالة الحرس الثوري من قائمة الإرهاب، وحقها في برنامج نووي سلمي، فقد لفتت "بلومبيرغ" إلى أن العقوبات أضرت باقتصاد إيران، مما يجعل رفعها أولوية، بينما ترفض ربط برنامجها النووي بنفوذها الإقليمي.
وترى "فورين أفيرز" الأمريكية أن واشنطن تستخدم الحوثيين لإظهار جديتها، لكن مركز "الأمن الأمريكي الجديد" يحذر من أن هذا قد يعزز موقف إيران التفاوضي، وهي التي دأبت على استغلال الحوار لكسب الوقت.
وفي هذا الصدد أقر العريمي بأن التصعيد العسكري في اليمن "قد يستخدم كورقة ضغط تفاوضية، لكنه محفوف بالأخطار، لذا يجب التركيز على المسار الدبلوماسي وإبعاد الجانب العسكري عن المفاوضات قدر الإمكان لتجنب تصعيد قد يكون كارثياً".
على رغم ما يحيط بالعلاقة بين الطرفين من تحديات في هذه المحادثات أو سواها، فإن "الثقة شبه المعدومة" بينهما هي أكثر ما يهدد أي تقارب، إذ تتذكر إيران بمرارة انسحاب ترمب عام 2018، واختبرت واشنطن هي الأخرى النظام الإيراني في محطات عدة في العراق ولبنان وأروقة فيينا ونيويورك ومع الحلفاء الإقليميين، في وقت تضيف إسرائيل ضغطاً أشد هذه المرة، إذ نقلت "إسرائيل هيوم" استياء تل أبيب من عدم إبلاغها بالمفاوضات، مع تأكيد نتنياهو منع إيران من تحقيق حلمها النووي.
سجاد الرياض قد يمهد الطريق
روسيا، كحليف لإيران، تؤدي دوراً خلفياً لكنه مؤثر، إذ تعتبر "فورين بوليسي" أن موسكو تدعم طهران دبلوماسياً لتعزيز موقفها في المفاوضات، مستفيدة من تحالفهما العسكري، بخاصة في تبادل التكنولوجيا.
قبل المحادثات، زار المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف موسكو للقاء الرئيس فلاديمير بوتين في جلسة مطولة، بحسب "بلومبيرغ"، مما يعكس محاولة أميركية لضمان حياد روسي أو دعم غير مباشر للحوار. موسكو، التي ترى في إيران شريكاً ضد الهيمنة الأميركية، قد تشجع طهران على المرونة لتجنب تصعيد يضر بمصالحها الإقليمية، لكنها تحرص على عدم استفزاز إسرائيل أو الخليج للحفاظ على توازنها.
الوفاق الروسي - الأمريكي المحتمل، الذي أسس خلال لقاءات الرياض الأخيرة بين مسؤولين من البلدين، قد يكون مفتاحاً لحلحلة الأزمة، وتشير المصادر الغربية إلى أن توافقاً روسياً - أميركياً على تهدئة التوترات في الشرق الأوسط يمكن أن يسهل ضغطاً مشتركاً على إيران لتقديم تنازلات نووية مقابل تخفيف العقوبات. محادثات ويتكوف مع بوتين، التي ركزت على الاستقرار الإقليمي توحي بإمكان تنسيق غير معلن لتجنب مواجهة عسكرية، مما يعزز فرص نجاح المفاوضات العمانية إذا وافق الطرفان على حل وسط.
الصواريخ والفخ الإيراني
في غضون ذلك دار الحديث حول البرنامج الصاروخي الإيراني بوصفه محور الخلاف الأساس، أكثر من البرنامج النووي، الذي هو واجهة المحادثات القديمة والمتجددة، فبينما تعتبر إيران وفق العريمي "قدراتها الصاروخية جزءاً لا يتجزأ من أمنها القومي، وترفض التفاوض في شأنها، تعتقد الولايات المتحدة وحلفاؤها أن تطوير إيران صواريخ بعيدة المدى يشكل تهديداً إقليمياً، مما يجعل هذا الملف عقبة أمام التوصل إلى اتفاق شامل".
لكن خبرة سلطنة مسقط، كوسيط محايد، يرجح الباحث العماني أنه قد تمكنها من تقريب وجهات النظر من خلال التركيز على نقاط واقعية وملموسة، مثل "إلغاء العقوبات الاقتصادية الأمريكية والإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في البنوك الأمريكية مقابل تجميد الأنشطة النووية الأكثر حساسية والسماح بالمراقبة الدولية"، في حين تضمن النتائج في الوقت نفسه "تحقيق مكاسب سياسية مباشرة تنسب لإدارة ترمب وحدها بعيداً من الأوروبيين والكونغرس".
هذا النهج المتبادل قد يساعد في بناء الثقة وتجنب التصعيد العسكري، حسب قوله، ومع ذلك لم يستبعد المحلل الأمني الرفيع في السعودية أحمد الميموني أن تقع واشنطن في فخ المفاوضات الإيرانية من دون أفق سياسي يفضي إلى نتيجة حاسمة، ويرى أن "المفاوضات الجارية حالياً بين الولايات المتحدة وإيران في سلطنة عمان تأتي استجابة لرسالة أمريكية وجهت للمرشد الإيراني، تدعوه إما إلى الجلوس إلى طاولة التفاوض أو مواجهة تبعات الإجراءات العسكرية، ومع ذلك هناك مخاوف حقيقية من استدراج واشنطن إلى مفاوضات طويلة تغرق في التفاصيل، وهو سيناريو سبق أن نجحت فيه طهران مع إدارات أمريكية سابقة".