في بلدٍ تمزقه الحرب منذ عشر سنوات، تحوّلت تجربة الحمل، التي يفترض أن تكون مفعمة بالرجاء، إلى معركة يخوضها جسد المرأة وحده. فهناك، حيث يسود القصف والرصاص، وتغيب المستشفيات والأطباء، تصبح كل ولادة معجزة، وكل أمّ بطلة في روايةٍ عن البقاء.
الولادة على خطوط النار
لم تعد الأمومة في اليمن فعلًا طبيعيًا، بل باتت مغامرة محفوفة بالموت، حيث تُجبر النساء على المخاض وسط الدمار أو على الطرقات الوعرة، دون رعاية أو حتى تعقيم.
هيفاء عبدالباري (26 عامًا) من أهالي حي شعب الدباء بمدينة تعز، إحدى أكثر المناطق تضررا بسبب الحرب وأكثرها قربًا من جبهات القتال، دخلت المخاض ليلًا. كان أقرب مستشفى على بُعد ساعة مشيًا وسط طرق خطرة. تقول لـ "يمن فريديم": "وضعت طفلي في البيت بمساعدة جارتي، القابلة السابقة. لا كهرباء، لا أدوات، فقط النزف والصلاة ألا أموت".
أما افتخار من قرية الوزيرة في إب، فاضطرت لقطع مسافة طويلة إلى تعز بعدما فقدت توأمها الأول نتيجة غياب المراكز الطبية. وقالت "زوجي باع دراجته لينقلني، أنجبت في غرفة مكتظة وسط المستشفى، لا خصوصية ولا رعاية".
ثرية السامعي من أهالي القبطية تقول: " انتظرت الإسعاف لساعتين وهي تنزف. وصلت أخيرًا إلى المستشفى، لكن المضاعفات لم ترحمها. تقول شقيقتها: "الوقت وحده كان عدونا الأكبر".
في شمال اليمن الخاضع لسيطرة الحوثيين، تحديد في محافظة عمران، بدرية مهدي (34 عامًا) نزفت حتى الموت وهي تُنقل لمسافة ثلاث ساعات بسبب وعورة الطريق وإغلاق المركز الصحي. "ولدت في السيارة، والطفل عاش... لكن أمي لم تصل" تقول بدرية.
وفي محافظة ريمة الجبلية، وبمديرية كسمة على وجه التحديد، أُسعفت (وردة الحوري) إلى الحديدة بتسمم حمل حاد، بعد ساعات من الترحال بين القرى. أنقذها الطاقم أخيرًا، لكن جسدها لا يزال يدفع الثمن.
صرخة من الميدان
مخيمات هي الأخرى تعيش فيها النساء الحوامل أوضاع صحية متردية، نتيجة نقص الخدمات الطبية المقدمة لهن.
تقول الطبيبة سميرة الرداعي من مخيم الخيامي للنازحين في تعز "نستقبل نساء لم يرين طبيبًا طوال الحمل. فقر دم، سوء تغذية، نزيف... ومعنا أدوات لا تكفي حتى لمعالجة نصف الحالات".
وبحسب تقرير وزارة الصحة اليمنية، فإن "معدل وفيات الأمهات بلغ 293 وفاة لكل 100 ألف ولادة. رقم كارثي سببه انهيار الرعاية الأولية والصحة الإنجابية".
تسير السامعي، مدير الإعلام الصحي في تعز، يُلخّص لـ" يمن فريدم" المأساة بقوله:"الوضع كارثي. لا إحصاءات دقيقة، لا كادر كافٍ، لا تمويل. الولادات تتم في البيوت دون إشراف، والتثقيف الصحي لا يصل إلى الناس. نحتاج سلامًا، نحتاج بنيةً صحيةً من جديد".
ويتابع السامعي في حديثه: "الصدمات النفسية تؤدي إلى الإجهاض أو مشاكل صحية خطيرة. النساء يعشن في توتر دائم، خاصة في المناطق القريبة من خطوط التماس. مدينة تعز، مثلًا، من أكثر المناطق تضررًا، وتعيش فيها النساء تحت ضغوط متعددة".
وعن الجهود المبذولة، يقول "رغم الجهد الكبير الذي يبذله الكادر الصحي في حملات التثقيف وتغيير السلوك، إلا أن ضعف الإمكانيات حال دون الوصول إلى نتائج مثالية. الرسائل الصحية لا تصل إلى جميع الناس، والدعم الحالي لا يوازي حجم الكارثة".
ويختم بالحديث "نحتاج أولًا إلى إنهاء الحرب وعودة السلام. النزوح مكلف، والناس لا يستطيعون مغادرة منازلهم رغم الخطر، لأن الإيجارات مرتفعة وتكاليف الحياة باهظة. البقاء في أماكنهم يعني مواجهة الموت كل يوم".
جهود إنسانية محدودة واحتياجات هائلة
تحاول منظمات أممية ودولية كاليونيسف، صندوق الأمم المتحدة للسكان، وأطباء بلا حدود تخفيف الألم، عبر عيادات متنقلة والمساهمة بتكاليف عمليات الولادة بشكل مجاني في بعض المستشفيات، لكن الواقع أكبر من الإمكانيات.
مروى عبدالرحمن الصبري، مسؤولة صحية في محافظة مأرب، تقول "نختار الحالات الأشد خطرًا فقط. التمويل لا يغطي أكثر من 10% من الحاجة. نعمل في حقل ألغام إنساني".
الجوع عدو خفي للأمهات
في مدنٍ يمنية كحيس بمحافظة الحديدة غربي اليمن، تصارع النساء الحمل والجوع معًا. تقول فاطمة أحمد "لم أتناول اللحم منذ ستة أشهر. كنت أدوخ كل يوم. الطبيب قال: فقر دم حاد. وأنا فقط... أريد أن أنجب دون أن أموت".
أرقام تتكلم وصمت العالم يقتل
تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 4.5 مليون امرأة وفتاة في سن الإنجاب يحتجن لخدمات صحة إنجابية عاجلة. ورغم الكارثة، تعمل فقط نصف المنشآت الصحية بكامل طاقتها، وأقل من 20% منها تقدم رعاية أمومة وطوارئ. الكوادر الطبية منهكة، والتجهيزات شبه معدومة، والقابلات يتحركن بلا أدوات.
الحياة ليست رفاهية
ليست هيفاء، افتخار، ثرية، بدرية، ووردة، مجرد قصص، إنهن وجوه من آلاف النساء اللاتي يلدن في الخفاء، أو لا يلدن أبدًا.
وأمام هذه التحديات، يبقى الخطر قائما أمام ملايين النساء اليمنيات الحوامل في ظل العجز الواضح بتقديم خدمات طبية كافية تساعدهن في عمليات الولادة بشكل آمن.