بعد صراع دام أكثر من عام نفذ يساريو "الجبهة القومية" انقلاباً على الرئيس قحطان الشعبي، وأصدروا بياناً أعلنوا فيه خلعه من كل سلطاته، وتشكيل مجلس جماعي للرئاسة ومجلس للوزراء، وتعيين عدد من القيادات الراديكالية في المكتب السياسي للجبهة الحاكمة بزعامة عبدالفتاح إسماعيل الذي عين أميناً عاماً لها، وفتحت هذه الخطوة الباب لصراعات لاحقة شهدتها عدن خلال 21 عاماً أدت إلى مقتل ثلاثة من رؤساء الدولة الماركسية ومقتل الآلاف من الأبرياء.
بحسب الكاتب والمحلل السياسي لطفي نعمان "قررت قيادة الجبهة القومية الحاكمة، بعد نيل الاستقلال عن بريطانيا في الـ30 من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، تكليف قحطان الشعبي برئاسة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية مدة عامين، لكن أكل منها نصف عام بانقلاب غير دموي، أنهى عهد الرئيس الشعبي باحتجازه حتى مماته عام 1981، هو ورئيس وزرائه فيصل عبداللطيف الشعبي الذي كان قائداً بارزاً في الجبهة القومية، والعقل السياسي المتطور والنموذج الوطني المعتدل في الجنوب اليمني، اغتيل في السجن عام 1970، فكان مصرعه والحوادث غداة الـ22 من يونيو/ حزيران 1969 إيذاناً بأول الشر وتدشيناً لسيل الدم في الجنوب!".
تغييرات في رأس السلطة
وشرح نعمان لـ"اندبندنت عربية" "أن الحكام الجدد الذين تشكل منهم مجلس الرئاسة بعد حركة الـ22 من يونيو، كانوا برئاسة الرئيس سالم ربيع علي، وعضوية الوزير السابق عبدالفتاح إسماعيل الذي عين أميناً عاماً للتنظيم في أعقاب الحركة باعتباره الفاعل الأساس فيها، ووفقاً لترجيحات تقرير صادر عن وزارة الخارجية الأمريكية، فإن من المرجح أن يكون عبدالفتاح هو المخطط للانقلاب والمسير من وراء الكواليس، والمنتظر حتى يستقر النظام المتطرف وبروزه قائداً يتصدر المشهد، كما ضم المجلس الرئاسي الجديد رئيس الوزراء محمد علي هيثم، ووزير الدفاع محمد صالح عولقي، والعقيد علي عنتر، وهي شخصيات أودع بعضهم في المعتقل خلال عهد الرئيس الشعبي بفعل جنوحها اليساري، ومنهم من فر إلى خارج العاصمة معلناً التمرد المسلح، وبعض آخر من تحالف معه التيار اليساري حينما أبعد من الحكومة الأخيرة لرئيس الوزراء فيصل الشعبي، فتهيأت الظروف لما يصنف بالجناح اليساري المتطرف في الجبهة القومية، ليتصدروا المقاعد في مجلسي الرئاسة والوزراء".
تبريرات الحركة
أعاد بيان القيادة العامة لـ"الجبهة القومية" بعد انتصارها، التأكيد "أن الجبهة هي قائدة النضال الوطني التحرري، وأنها بعد تجربة استمرت عاماً ونصف العام، تقف بمسؤولية أمام قضايا الثورة ومشكلات الشعب، تأكيداً منها أن التضحيات والدماء التي قدمت في سبيل الثورة غير قابلة للتفريط فيها، لأنها إلهام دائم لتجديد الثورة وتطوير مسيرتها"، وأضاف البيان "أن ثورة الـ14 من أكتوبر/ تشرين الأول الشعبية حملت مع بذور التخلص من الاستعمار بذور الثورة الشعبية الديمقراطية أيضاً".
وعزا بيان الجبهة الأخطاء لسلطة الرئيس الشعبي إلى "الممارسات الفردية التي عرجت بالثورة من طريقها الحقيقي، وعرضت الثورة لأخطار ومشكلات داخلية لا حصر لها، وعطلت تماماً التطور الطبيعي الذي كان يأمله جميع المناضلين الشرفاء، ولأن نتائج تلك الممارسات لا تليق بالفعل بالتوجه التقدمي الذي آمن به كل مناضل منذ فجر الثورة"، وزادت قيادة الجبهة "سحبت النزعة الفردية نفسها عبر السلوك اليومي على مستوى السلطة أو التنظيم، أو على مستوى السياسة اليمنية والعربية والدولية، وهو ما كون لظروف متأزمة، وأعاق مجابهة الجبهة تلك القضايا، وإظهار الثورة بوجهها المشرق بمسؤولية جماعية لما فيه خدمة تثبيت الثورة، وخلق علاقات خارجية متينة مع قوى التحرر والتقدم العربي والعالمي".
ولفت نعمان، الذي يعد كتاباً عن حركة "الـ22 من يونيو" عنوانه "بيان رقم 1"، إلى أن قيادة "الجبهة التقدمية ركزت على تكريس سلطتها ودورها القيادي عبر هذه الحركة التصحيحية لما تصورته خطأً من دون أن توضح أو تفصح عن مظاهر ونماذج الفردية المقترفة من القيادة السابقة، ووهبت نفسها صفة السلطة الديمقراطية التي ترفض تأليه الأفراد، وتقوم على أساس الإرادة الجماعية للقيادة والإدارة الجماعية للقواعد التي تعكس مصلحة الشعب".
النزعة الفردية
واستناداً إلى صحف تلك الفترة، أشار نعمان إلى أن آية النزعة الفردية تمثلت في قرار الرئيس قحطان الشعبي فصل الوزير محمد علي هيثم قبل أيام من الحركة "إلى جانب مظاهر وسلوكيات أخرى يمكن تشخيصها في محاولة فريق قحطان الشعبي تفتيت الجبهة، وإفقادها كل قدرة على الفعل والتأثير، نظراً إلى تعارض الصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية بين الجبهة القومية التي تمثل السلطة العليا في البلاد، وعلى قيادته العامة، وهي في الوقت نفسه السلطة التشريعية في البلاد".
السياسة الخارجية
وتطرق نعمان إلى اهتمام الحركة بالسياسة الخارجية للنظام الجديد وقال أيضاً "دل بيان الحركة على مضمون أكثر شمولاً في جانب السياسة الخارجية، وتطوراً من بيان إعلان الجبهة الاستقلال الوطني، ذلك أن الجناح اليساري في الجبهة صار يرفرف علناً، وحق له أن يعبر عن رؤيتهم في شأن الوحدة اليمنية، وهي انتهاج سياسة جذرية لما فيه مصلحة القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة الحقيقية في يمن ديمقراطي موحد في إقليم اليمن، وكذلك حماية ثورتي سبتمبر/ أيلول في الشمال وأكتوبر في الجنوب مما سماه المؤامرات الإمبريالية والرجعية، كونها المهمة العاجلة للثورة في الجنوب وللحركة الوطنية في الشمال، وبما أن الجبهة، بنشاطها، قد تعدت عملياً تحرير الجنوب من الاستعمار، فقد ذهبت، بحكم روابطها بحركة القوميين العرب، إلى الإعلان صراحة عن دعم المقاومة المسلحة في فلسطين لاسترداد الحق العربي، وكذلك انتهاج تصدير الثورة من خلال دعم الثورة الشعبية المسلحة في الخليج العربي، وقد حاول الشمال تلافي أخطار دعم الجنوب هذه الجبهة في مبادرة خاصة قدمها المستشار السياسي لرئيس المجلس الجمهوري محمد أحمد نعمان إلى اجتماع جامعة الدول العربية في تونس آخر مارس/ آذار 1974".
نحو الماركسية
اختلف نهج النظام الجديد بعد حركة الـ22 من يونيو بجنوح كبير نحو الماركسية والاشتراكية العلمية، والتزم كل عضو من أعضاء مجلس الرئاسة بمدرسة من مدارس الشيوعية المختلفة والمتنازعة، فانقسم مجلس الرئاسة وقيادة الجبهة القومية بين بكين وموسكو، وتشبعوا بروح تلك المدارس محاولين إسقاط التجربتين على الواقع اليمني، وكان أكثر النماذج شهرة هي انتفاضة الأيام السبعة المجيدة في يوليو/ تموز 1972، وبذروا أفكارهم في عناصرهم الحزبية المتغلغلة في شمال الوطن عبر عناصر الجبهة، وكان الملاحظ أن قوى ما سمي عام 1970 بـ"جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" العسكرية وقواعدها الحزبية عقائديون، ويقاتلون باستماتة أكثر من الشمال الذي أخفق في مجابهة الجنوب لجملة أسباب منها إخفاق بعض قادة المواقع من جيش اليمن الشمالي في مهامهم بمناطق الحدود.
الحدث البارز
ووصف عضو اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني سهيل يسلم محمد حركة "الـ22 من يونيو" بالحدث البارز في الجمهورية الوليدة، والخطوة لتصحيح المسار السياسي للتنظيم السياسي للجبهة القومية وللدولة القائمة، لافتاً إلى أن هذا الحدث كانت له أسباب وتداعيات وترك أثره في مجمل الحياة السياسية، وأبرزها عدم الوضوح لماهية وطبيعة الدولة ونظام الحكم فيها بعد الاستقلال، وأثره في الاستقرار السياسي، والتناقضات والتباينات داخل التنظيم السياسي للجبهة، وبروز كثير من التيارات داخلها، إضافة إلى الصراعات مع خصوم ومعارضي الجبهة القومية، ونظام الحكم القائم بعد الاستقلال، ناهيك بالتدخلات الخارجية مع أو ضد نظام الحكم القائم، وحامله السياسي الجبهة القومية.
أضاف سهيل أن هذه الحركة كانت لتصحيح النظام وجوهر الدولة والأساس والفكر الذي تستند إليه الجبهة القومية، وقد نتج منها إقصاء قحطان الشعبي من رئاسة الدولة، وفيصل عبداللطيف الشعبي من رئاسة الوزراء، وعزل وإبعاد كثير من مناصريهم من الدولة، ومن التنظيم السياسي للجبهة القومية، وكانت الغلبة للتيار المتبني الاشتراكية كأساس للحكم، والفكر للجبهة القومية، ولهذه الحركة آثار كبيرة وتداعيات جمة، إذ إنها كانت المدخل لما تلاها من تطورات وأحداث، ولا يزال أثرها حتى اليوم.
السياق التاريخي
واعترف القيادي الاشتراكي بأن ما حصل كان تتويجاً لصراع داخل التنظيم السياسي للجبهة القومية أفضى إلى إقصاء تيار وتسيد آخر، وهو التيار الذي يدعو إلى حكم على أساس اشتراكي، وهذا من منظار الحدث في سياقه التاريخي. وختم "اليوم يمكن لكل محلل سياسي أن يصف حدث الـ22 من يونيو بما يلبي توجهه، لأن يقال إنه انقلاب أو حرب داخلية، أو أن يسمى توجهات ماركسية، مع أن ما سجل في وثائق الجبهة القومية والحزب الاشتراكي لاحقاً، يستند إلى الاشتراكية العالمية لفكر ومنهج الدولة، وفي الدستور تقول المادة الثانية إن دين الدولة هو الإسلام، أي إنه كان هناك تمايز بين فكر التنظيم والحزب وعقيدة الدولة".
(اندبندنت عربية)