في أحد أحياء القاهرة، يجلس فؤاد محمد اللحبي أمام كرسي الحلاقة، الذي أصبح مصدر رزقه الوحيد، يقص الشعر بصمت، بينما يروي بمرارة تفاصيل حياة لم يكن يتخيل أنها ستنقلب بهذه القسوة.
يقول فؤاد بابتسامة أنهكها التعب: "كنت معلماً في حجة، واليوم أنا مجرد مغترب يبحث عن لقمة العيش.. لم أخسر المهنة فقط، بل خُذلت من الوطن مرتين".
من الطموح الجامعي إلى بوابة القمع
ولد فؤاد في محافظة حجة شمال غربي اليمن، وكان حلمه أن يصبح محاميًا. التحق بكلية الشريعة والقانون في جامعة صنعاء، حيث مضى في دراسته بجد حتى وصل إلى سنته الرابعة. غير أن الأوضاع الأمنية والسياسية آنذاك انقلبت على رأسه.
ففي وقت كان فيه الطلاب يرفعون أصواتهم ضد عسكرة الحرم الجامعي وانتشار المسلحين، وجد فؤاد نفسه ضمن قائمة مطاردة، وصدر بحقه قرار بالحرمان من دخول قاعات الامتحان، لتتوقف دراسته عند عتبة لم يكن يتوقع أن تكون الأخيرة.
"لم يكن ذنبي سوى أنني طالبت بجامعة آمنة"، يقول فؤاد، وهو يستعيد تلك اللحظات التي أغلقت أبواب مستقبله.
من صنعاء إلى مصر.. ومن الغربة إلى العودة القاسية
حمل الشاب حقيبته وغادر إلى مصر، بحثاً عن حياة طبيعية بعيداً عن الملاحقة، هناك حاول أن يبدأ من جديد، لكن الواقع كان أكثر قسوة مما ظن، لم تصمد مدخراته طويلاً، وبدأت تكاليف الغربة تثقل كاهله، حتى اضطر إلى العودة لليمن في يناير 2022 مع عائلته، لعل الاستقرار يكون ممكناً.
لكن بعد عشرة أيام فقط من عودته إلى مسقط رأسه في حجة، كان بانتظاره ما هو أشد من الغربة، عناصر مسلحة أخذته من أمام منزله واقتادته إلى مبنى المباحث، واجه هناك تحقيقات مطوّلة واتهامات بـ"الارتزاق" و"الخيانة"، استناداً إلى منشورات له على منصة فيسبوك، لم تتوقف المعاناة عند الاتهامات، بل طالت جسده ونفسيته بتعذيب متواصل ترك ندوباً ما زالت تؤلمه حتى اليوم.
أُفرج عنه لاحقاً بضمانات مشايخ، مقابل التزامه بالخضوع لـ"دورات ثقافية" تفرضها الجماعة، في مشهد يصفه بمرارة: "حتى الحرية كان ثمنها أن تُعاد صياغة أفكارك بالقوة".
الهروب مجدداً.. حياة بلا جدران ثابتة
لم يطق فؤاد البقاء في مدينته، فهرب خفية إلى صنعاء، ومنها تسلل إلى عدن، قبل أن يشق طريق العودة إلى مصر مرة أخرى. ومنذ ذلك اليوم، يعيش حياة المغترب مجدداً، بلا سند ولا استقرار.
المفارقة أن الرجل الذي كان يدرّس الأجيال في فصول حجة، وجد نفسه يعمل اليوم في مهنة الحلاقة لإعالة أسرته، مهنة يصفها بأنها “شريفة وصعبة”، لكنها محاطة في المجتمع اليمني بنظرة دونية تزيد من قسوته.
قصة فرد.. وصورة وطن
قصة فؤاد ليست مجرد سيرة شخصية، بل مرآة تعكس ما يواجهه آلاف اليمنيين من المعلمين والطلاب والمثقفين الذين تقطعت بهم السبل بين الداخل والخارج. وطنٌ بات يطرد أبناءه من قاعات الدرس، ثم يطاردهم خلف شاشات فيسبوك، فلا يتركون أمامهم إلا خيار الهروب أو الصمت.
يختم فؤاد حكايته وهو ينظر إلى صورة عائلته المعلّقة على جدار محله الصغير في القاهرة: "الوطن الذي يطرد أبناءه، لن يجد في الغربة سوى غرباء يفتقدونه. لكننا رغم كل شيء، ما زلنا نحلم بعودة كريمة، حتى لو طال الطريق".