أثّرت الحرب القائمة في اليمن منذ أكثر من عشرة أعوام، التي قسمت البلاد وجعلتها محكومة من جماعات مسلّحة تتبع أطرافاً إقليمية ودولية مختلفة، على مختلف جوانب الحياة، من بينها التعليم والتنشئة الوطنية الجامعة.
صباح كلّ يوم، يقصد رائد عبد العزيز مدرسته الواقعة في مدينة عدن جنوبي اليمن، التي اختارتها الحكومة المعترف بها دولياً عاصمةً مؤقتة للبلاد.
وفي الطابور المدرسي، يؤدّي مع زملائه التلاميذ التحية للعلم الجنوبي؛ علم دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قبل الوحدة التي تحقّقت في 22 مايو/ أيار 1990، فيما تصدح أصواتهم بنشيد دولة الجنوب بدلاً من النشيد الوطني للجمهورية اليمنية.
ويخبر رائد "العربي الجديد" أنّه يُصار إلى تدريسهم عن دولة الجنوب وعن "ضرورة استعادتها من المحتل اليمني"، وأنّ "رئيسنا هو عيدروس الزبيدي".
يأتي ذلك على الرغم من أنّ المدرسة خاضعة لإدارة وزارة التربية والتعليم لدى الحكومة المعترف بها دولياً، فالمجلس الانتقالي الجنوبي المطالِب بالانفصال الذي يفرض سيطرته عسكرياً على مدينة عدن وعدد من المحافظات الجنوبية فرض على المدارس الحكومية والخاصة رفع العلم الجنوبي بدلاً من علم الجمهورية اليمنية، وتأدية نشيد دولة الجنوب بدلاً من النشيد الوطني، علماً أنّه نشيد مستحدث للدولة التي يزعم المجلس الانتقالي الجنوبي إعلانها بعد الانفصال عن الجمهورية اليمنية.
منذ سيطرته على عدن في عام 2019، منع المجلس الانتقالي الجنوبي رفع علم اليمن الوطني، واستبدله بعلم الانفصال في كلّ مؤسسات الدولة، بما في ذلك الوزارات والمكاتب التنفيذية والمدارس. وقد ساهمت المدارس في الترويج للانفصال واستعادة "الدولة الجنوبية" الواقعة عند حدود دولة اليمن الديمقراطية الشعبية التي توحّدت مع الجمهورية العربية اليمنية في عام 1990، فتشكّلت بموجبها الجمهورية اليمنية.
ويتعدّى الأمر ذلك، فيُصار إلى الترويج للأفكار والخطاب المناطقيَين، من خلال وصف أبناء المحافظات الشمالية بمصطلحات تمييزية، من قبيل "دحابشة". ويُطاول ذلك التلاميذ من أبناء المحافظات الشمالية، لؤي واحد منهم؛ هو يتابع تعليمه في إحدى مدارس عدن علماً أنّه من أبناء محافظة إب، ولا يخفي الفتى لـ"العربي الجديد" تعرّضه لتمييز من تلاميذ ومدرّسين، "من خلال مناداتي بالدحباشي أو الشمالي، مع التهديد بأنّنا سوف نُطرَد من الجنوب، وبأنّ لا مكان لنا هنا"، وبالتالي "علينا العودة إلى بلدنا اليمن".
حاولت "العربي الجديد" الاتصال بوزير التربية والتعليم لدى الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وبمسؤولين آخرين في الوزارة، وكذلك بمسؤولي مكتب التربية والتعليم بعدن، دون أن يتمّ التجاوب، غير أن وكيل قطاع التعليم لدى وزارة التربية والتعليم في الحكومة المعترف بها دولياً محمد لملس، اكتفى بالقول إنه يفترض بوزير التربية والتعليم والحكومة الشرعية وضع حد لترديد نشيد الجنوب في المدارس، معتبراً ما يحصل بأنه أمر واقع.
في سياق متصل، تقول المتخصّصة في علم النفس أمة السلام عبد المجيد لـ"العربي الجديد" إنّ "المدرسة تُعَدّ اللبنة الأولى للتنشئة الوطنية في كلّ المجتمعات، إذ يتعرّف فيها الطفل إلى العلم والنشيد الوطنيَّين، ويتلقّى دروساً عن حبّ الوطن، الأمر الذي يعزّز لديه الشعور بالانتماء.
ويُصار إلى تنمية ذلك مع تقدّم الطفل بالسنّ، فيدرك معاني هذا الانتماء من خلال الحقوق (والواجبات) المتبادلة بين الإنسان ووطنه؛ فالوطن يحمي الفرد ويمنحه حقوقه وفي المقابل يجب على الفرد أن يحمي الوطن وأن يكون على استعداد للتضحية بأغلى ما يملك في سبيله".
تضيف عبد المجيد: "حين يجري التلاعب بالمفاهيم الوطنية لدى تلاميذ المدارس، يتراجع الشعور الجمعي بالانتماء الوطني لمصلحة جماعات وتيارات إمّا دينية وإمّا مناطقية. لذا نلاحظ اليوم أنّ أزمة الهوية تُعَدّ معقّدة في اليمن؛ في شمال البلاد يحارب الحوثيون العلم الوطني لمصلحة رايتهم، ويحاربون النشيد الوطني لمصلحة شعار الصرخة الذي فُرض في طابور الصباح.
في المقابل، في جنوب البلاد، يُصار إلى محاربة العلم الوطني لمصلحة علم الانفصال، ومحاربة النشيد الوطني لمصلحة نشيد دولة الجنوب"، موضحةً أنّ "هذا يعني أنّنا أمام جيل بلا انتماء ولا هوية وطنيَّين جامعَين".
ويسيطر المجلس الانتقالي الجنوبي بصورة كاملة على مدينة عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، وذلك منذ أغسطس/ آب 2019، كذلك يسيطر على محافظات سقطرى ولحج وأجزاء من محافظات أبين والضالع وحضرموت.
وقد عمل المجلس على ترسيخ رموز الدولة الجنوبية التي يعمل على إعلان قيامها بعد الانفصال عن الجمهورية اليمنية، منها نشيد وطني لدولة الجنوب، بالإضافة إلى العلم الخاص بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وشعار الطائر.
يُذكر أنّ النشيد الوطني الحالي المعتمد في الجمهورية اليمنية "ردّدي أيتها الدنيا نشيدي" كان هو النشيد الوطني لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، إلّا أنّ المجلس الانتقالي الجنوبي يرفضه وقد استبدله بنشيد آخر نتيجة ارتباطه بدولة الوحدة.
يقول الكاتب الصحافي محمد ناصر الحكيمي لـ"العربي الجديد" إنّ فرض ما يسمّى بنشيد دولة الجنوب في المدارس الواقعة بمناطق سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي يأتي في سياق سياسات المجلس، المتعلّقة بالعلم كذلك، مبيّناً أنّ ذلك يُفرض في المؤسسات، بما في ذلك الجيش.
ويرى أنّ هذه أزمة سياسية تضعف الحكومة المعترف بها دولياً وتعزّز من التفتت المجتمعي عبر تمكين الخطاب المناطقي الذي تزيد خطورته حين يُفرَض على تلاميذ المدارس، لأنّ من شأن ذلك أن يؤثّر في جيل بأكمله و"يساهم في التمزّق والانقسام في داخل كيان الوطن الواحد".
ويشير الحكيمي إلى أنّ الحكومة المعترف بها دولياً ووزارة التربية والتعليم التابعة لها تتحمّلان "المسؤولية الكاملة لهذا السلوك المنفلت الذي يساهم في انهيار قيم الولاء الوطني، وفي الشعور بالانتماء للوطن الجامع"، ويتابع أنّ ذلك "يؤثّر سلباً كذلك في سلوكيات التلاميذ، من خلال تعزيز النزعات المناطقية والتمييزية"، مشدّداً على أنّ هذه "أزمة لها تأثير على المدى البعيد، ولا بدّ من وضع حدّ لها".
(العربي الجديد)