في وقت يُطبق فيه القمع والجوع على اليمن، وتستمر الأزمات والحروب في نهش البلد الافقر في المنطقة، تعالت أصوات نسائية في جنوب البلاد لتكسر جدار الصمت، مطالبةً بأبسط مقومات العيش الكريم، بيد أن رياح التسلط أتت بما لا تشتهي الطموحات.
ففي 10 يونيو 2025، تظاهرت مئات النساء في شوارع عدن رافعات شعارات خدمية بعيدة عن التسييس، سرعان ما امتد صدى هذه المظاهرات إلى محافظتي لحج وأبين، في ما بات يُعرف بـ"ثورة النسوان"، و ما يميز هذا الحراك أنه خرج من رحم المعاناة اليومية، لا من جلباب الأحزاب، وهو ما أربك السلطات والمتحكمين في المشهد السياسي، ورغم سلمية الدعوة إلا أنها قوبلت بالمنع لعدم تقبّلهم لأي حراك مستقل لا يخرج من تحت عباءتها.
رفعت النساء مطالب خدمية بحتة (مياه، كهرباء، رواتب، أمان معيشي)، بعيداً عن أي شعارات حزبية أو مناطقية، ما جعل من تحرّكهن فعلاً مدنياً نقياً يعبّر عن وجع الناس، لكن هذا النقاء لم يشفع لهن، فسرعان ما قوبلن بالترهيب والتخوين والوصم، في محاولة لإعادة النساء إلى دائرة الصمت، في مشهد يعكس هشاشة الحماية المجتمعية والقانونية للمرأة.
معركة إلكترونية
تحولت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الموجهة إلى ساحة قتال ضد النساء المشاركات، لم تقتصر الهجمات على الانتقاد، بل طالت السمعة، والكرامة، والانتماء الوطني، فُتحت أبواب الاتهامات بالعمالة، والانتماء الحزبي، وحتى العنصرية المناطقية، في حملات منسقة اشتركت فيها حسابات حقيقية وأخرى وهمية.
الناشطة موني خالد، كانت في طليعة المسيرة المدنية في عدن، رفضت رفع الأعلام السياسية ودعت إلى التركيز على المطالب الخدمية، لكنها وجدت نفسها في مرمى التشهير.
تقول خالد : "انهالت عليّ موجات من السب والقذف والاتهامات بالخيانة، ترافقت مع تهديدات صريحة بالتصفية الجسدية، وأقوال بذيئة شارك فيها ناشطون وإعلاميون، إضافة إلى حسابات وهمية كانت تتناوب على التحريض، في حملة ممنهجة للنيل من شخصيتي والتشكيك في انتمائي".
وتضيف : "قالوا عني الكثير، لكنهم لم يقولوا بأنني خرجت كي أحمي حقي في بلد تُخنق فيه النساء، تعليقاتهم حفرت في داخلي ندبة، لكنني صنعت منها جداراً من القوة، لم أكن بطلة خارقة، لكنني رفضت الموت بصمت".
ووفقا للناشطة خالد فان بعض الحملات تضمنت تداول صورة حوالة مزورة تزعم أنها مدعومة من أحزاب وتكتلات سياسية.
ورغم شراسة الحملات، لم تنكسر هؤلاء النساء، تشكّلت بينهن دوائر تضامن غير رسمية، تبادلن من خلالها الدعم والصمود في مواجهة محاولات إسكاتهن.
تقول خالد : "رغم كل ما حدث، لم أفكر في الانسحاب، مظاهراتنا سلمية وخدمية، خرجنا لأننا نعيش حصاراً يومياً داخل منازلنا، وسط حرب شاملة على أبسط الخدمات، من الكهرباء إلى الماء إلى الحياة الكريمة، لم نكن نبحث عن صراع، بل عن حق.
إلا أن ثمة ناشطات أخريات اضطررن إلى الانسحاب، ومنهن هالة (اسم مستعار) التي روت كيف دخلت في نوبة اكتئاب عقب اتهامها بالتحريض وانها تنحدر من أصول غير يمنية.
تقول:" انسحبت من الفضاء العام وتجنبت التواصل الاجتماعي لفترة طويلة، شعرت خلالها أنني أواجه جيشاً وحدي"، مشيرة إلى أن انسحابها لم يكن خوفاً بل مراعاة لعائلتها.
سلاح عنصري ومناطقي
الحملات لم تخلُ من نبرة مناطقية وعنصرية وحتى قمعية، فالسلطات منعت التجمع وأصدرت قرار يمنع التظاهر، وتم نشر أطقم أمنية في الساحات، و الاعتداء عليهن بالضرب، ما دفع الكثيرات للتراجع، ليس خوفاً من القمع فحسب، بل تجنباً لمزيد من هذه الحملات التي كانت تتصاعد مع كل نية خروج.
هذا المنع، رغم سلمية الدعوة، كشف هشاشة الحريات العامة، خصوصاً حين تأتي من نساء، وطرح تساؤلات كبيرة عن مدى تقبّل السلطات والأحزاب والقوى المسيطرة لأي حراك مستقل لا يخرج من تحت عباءتها.
تقول الناشطة بشرى السعيدي من أبين،" اتُهمت بإدارة شبكة غير أخلاقية بسبب أصولها، وأُشيع أنها مدعومة من أحزاب سياسية، لكن السعيدي اكدت أنها خرجت للمطالبة بالخدمات فقط".
في السياق ذاته تقول الناشطة حنان البدوي من لحج، "تعرضت لمحاولات استقطاب سياسي فور إعلان مشاركتي، وواجهت وابلاً من الشائعات مع بدء الوقفة الاحتجاجية".
تمردت النساء على احتكار السلطة و تجاوزت "الخطوط الحمراء" التي رسمها العُرف السياسي والاجتماعي خرجن عن الطاعة المفروضة من القوى السياسية والأمنية، والأدوار التقليدية التي يُراد لهن البقاء فيها، ورفضهن التبعية الحزبية، فرفعن مطالب تمس جوهر المواطنة الكاملة، لا كمنحة تُمنح، بل كحق يُنتزع، وفضحن القمع الاجتماعي والسياسي بتوثيق حملات التشهير والتحريض والاعتداءات، والتأكيد على هشاشة الحماية القانونية.
وما يُخيف السلطات -وفق ناشطات- ليس فقط تحرّك النساء، بل تمسكهن بخطاب يعيد الاعتبار لقيم المواطنة والمساواة، ويطالب بتوزيع عادل للموارد والخدمات، بعيداً عن التقاسم السياسي الضيق، وهو ما يعكس وعياً ديمقراطياً متقدماً يُربك مراكز النفوذ.
الفنانة رنا السلامي، من عدن، بدورها، واصلت الغناء الثوري رغم التهديدات." تقول السلامي "لن أسمح لأحد بإسكاتي، المرأة صوت وطن وليس خصماً سياسياً".
القانون الحاضر الغائب
المحامية ريم وليد أكدت أن القانون اليمني يُجرّم القذف، والتشهير، والتهديد، لكنه لا يُطبق بالشكل الكافي لحماية النساء، تشير إلى أن المواد (254، 289، 291) تتيح التبليغ والعقوبة، لكنها تعزو تقاعس النساء عن التبليغ إلى غياب التوعية القانونية المتعلقة بالحماية الشخصية والوقائية وضعف الثقة في الأجهزة القضائية.
وترى أن مواجهة هذا القمع لا يجب أن يقتصر على التضامن الرمزي، بل تتطلب بناء شبكات حماية ودعم قانوني وإعلامي ونفسي، تعزز من صمود النساء وتفتح أفقاً جديداً للمشاركة المدنية الحرة".
وتشير إلى أن التعددية، واحترام الصوت المختلف، وضمان حق الاحتجاج والتعبير، هي أسس لا يمكن الحديث عن دولة مدنية بدونها.
اغتيال معنوي
بينما الأخصائية النفسية ،منيرة النمر وصفت حملات التحريض بـ"الاغتيال المعنوي " تقول : الشائعة تفكك ثقة المرأة بنفسها، وتجعلها تميل للعزلة، المجتمع في الغالب لا يُنصفها، بل يُكرّس الاتهام".
وتدعو لتوفير مراكز دعم نفسي وقانوني، إلى جانب حملات توعية رقمية وشبكة دعم قوية من الأصدقاء والعائلة تمنح النساء أدوات الصمود.
وفي زمن تتحول فيه الكلمة إلى تهمة، تُصر نساء الثورة على البقاء واقفات، تقول موني خالد: "رسالتي لكل امرأة تُهدد بسبب صوتها: لا تتراجعي، كرامتكِ ليست للمساومة".
محاولة لكسر الجمود
لم تكن مظاهرات النساء في عدن ولحج وأبين وليدة لحظة عابرة، بل جاءت تتويجاً لحالة من التململ الاجتماعي تصاعدت مع تفاقم الأوضاع المعيشية وانهيار الخدمات في مشهد استثنائي أعاد تشكيل صورة المشاركة المدنية للمرأة في جنوب اليمن، غير أن هذا الحراك السلمي قوبل بحالة إنكار رسمي، تجلت في منع إقامة التظاهرات بحجج أمنية، وتطويق الساحات الأمنية بالجنود والعربات المدرعة، ومنع النساء من التجمع، كما حدث يوم السبت 5 يوليو، حينما أُحبطت فعالية نسوية كان مقرراً لها أن تُنظم في مديرية المعلا.
إن التحرك النسوي في مدن جنوب اليمن لا يمثل مجرد احتجاج موسمي، بل هو صرخة عميقة في وجه تهميش مزدوج: تهميش كنساء، وتهميش كمواطنات في مدينة تتآكل فيها الحياة، وهو أيضاً رسالة بأن المرأة في اليمن، حتى وهي تحارب في سمعتها، لم تعد تقبل أن تكون مجرد ضحية صامتة.
"ثورة النسوان"، كما أُطلق عليها تحوّلت إلى علامة فارقة، أعادت تعريف العلاقة بين المرأة والشارع، والمطالبة بالحقوق، ومركزها في المجال العام بين المجتمع الديمقراطي الذي يحترم استقلال الأصوات، والواقع القائم الذي لا يتحمل حراكاً غير مسيطر عليه.
و بحسب ناشطات فإن هذا القمع يكشف عن مخاوف عميقة لدى السلطات من تحوّل الحراك النسوي إلى قوة ضاغطة مستقلة، لا تخضع للأحزاب أو مراكز النفوذ، وهو ما جعل النساء في مرمى الاستهداف، ليس لأنهن يشكّلن خطراً أمنياً، بل لأن أصواتهن الخارجة من قلب المعاناة تحمل صدقية أربكت المنظومة السياسية والإعلامية المسيطرة.
لمحة لنضال المرأة الجنوبية
وقد سجل التاريخ للمرأة في جنوب اليمن دوراً نضالياً بارزاً منذ الحقبة الاستعمارية، في ظل حياة مدنية نشطة وجمعيات نسوية فعالة، أبرزها "جمعية المرأة العدنية" التي تعد أول نقابة نسائية في تاريخ اليمن، ليسهم في تعزيز حضور المرأة في الحياة العامة والدفاع عن حقوقها، وصولاً إلى أول احتجاج نسائي ضد الاستعمار شهدته كلية البنات في خور مكسر عام 1962.
وتثبت النساء الثائرات أن الحرية ليست ترفاً، بل ضرورة إنسانية، وإن صوتهن لا يطالب بحقوق النساء فقط، بل يُعيد تعريف معنى "المواطنة" وتؤكد أنها لم تعد تقبل أن يُفرض عليها الصمت كقيد.