في عام 2011، اجتاحت العالم العربي موجة من الاحتجاجات غير المسبوقة، خرجت من رحم الإحباطات العميقة والاختناقات السياسية والاقتصادية التي راكمتها عقود من الاستبداد. في مشهد بدا وكأنه عودة للتاريخ إلى نقطة مفصلية جديدة، انفجرت الجماهير في تونس ثم مصر وليبيا وسوريا واليمن، حاملة شعارات الحرية والعدالة والكرامة. كان ذلك، كما وصفه صموئيل هنتنغتون، لحظة "عدوى التحول الديمقراطي"، لكنها كانت اندفاعة عاطفية أكثر منها مشروعاً مؤسسياً مكتمل الأركان، فسرعان ما تلاشت نشوة الانفجار في متاهات السلطة والسلاح والمصالح المتضاربة.
يرى مارك لينش، الذي صاغ مصطلح "الربيع العربي"، أن هذه الحركات شكلت أوسع موجة احتجاج جماعي ضد الأنظمة السلطوية في التاريخ الحديث للمنطقة، وأنها أطلقت ديناميات اجتماعية وسياسية غير قابلة للعكس، حتى وإن فشلت في بناء الديمقراطية المنشودة، لكن وكما لاحظ هنري كيسنجر، فإن التاريخ لا يسير بخط مستقيم نحو الحرية، بل يتعرج بين مثالية الشعوب وبراغماتية السلطة، وهو ما ظهر جلياً حين اصطدمت موجة التغيير بالأنظمة العميقة، وبشبكات المصالح الإقليمية والدولية التي رأت في الفوضى تهديداً أخطر من الاستبداد ذاته.
مثلت الانتفاضات محاولة لإعادة توزيع الثروة والسلطة في مجتمعات اختنقت بالفساد، لكنها افتقدت البنية المؤسسية التي تضمن انتقالاً آمناً للسلطة، كذلك كشفت عن عمق الانقسامات الأيديولوجية والقبلية والطائفية التي كانت مستترة تحت سطح القمع. فعلى رغم الحفاوة العالمية التي قوبلت بها التحولات السياسية التي أطلقها ما يسمى "الربيع العربي" بوصفها انتصارات تاريخية لإرادة الشعوب، فإنها سرعان ما كشفت عن هشاشتها البنيوية وافتقارها إلى الأسس المؤسسية الراسخة، فقد كانت تلك الانتفاضات أول حراك جماهيري عابر للحدود تشعل شرارته وسائط التواصل الاجتماعي، مستدرة تعاطفاً عالمياً غامراً، لكنها وضعت الحكومات وقادة العالم أمام مأزق بين واقع المصالح الصلبة وضغوط الرأي العام المتحمس للتغيير.
وفي حين اكتفى المجتمع الدولي بتقديم دعم معنوي وإعلامي للموجة الثورية، ظل المشهد الداخلي أكثر تعقيداً وتشابكاً، إذ إن سقوط الأنظمة السلطوية لم يتبعه ظهور نخب قادرة على إدارة التحول أو مؤسسات تمتلك الكفاءة لضمان الاستقرار، فكان أن تلاشت آمال الديمقراطية في بيئة إقليمية مثقلة بالتجاذبات، بحيث اصطدمت الرغبة في الحرية بجدار التاريخ.
وقود الشعارات
في ديسمبر/ كانون الأول 2010، أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في جسده، فاشتعلت معه جذوة الغضب العربي الكامن تحت رماد القهر الطويل. خلال أيام قليلة، تحولت حادثة فردية في مدينة هامشية إلى لحظة مفصلية غيرت مجرى التاريخ العربي الحديث. انتقلت عدوى الغضب من تونس إلى ميادين القاهرة، وطرابلس، وصنعاء، ودمشق، لتتحول المطالب المحلية إلى ثورة إقليمية عارمة ضد أنظمة استبدادية حكمت لعقود طويلة بلا مساءلة ولا تجديد. في تلك اللحظة الفارقة، بدت الشعوب العربية كأنها تستعيد صوتها المسلوب وتعيد اكتشاف ذاتها السياسية بعد سبات امتد نصف قرن.
كانت الشعارات الأولى، الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، أكثر من مجرد صيحات احتجاج، كانت ترجمة مكثفة لمأزق تاريخي طويل بين الدولة والمجتمع، وبين السلطة والإنسان.
فالحرية لم تكن مطلباً سياسياً بقدر ما كانت محاولة لاستعادة حق الوجود في فضاء عام مغلق، والكرامة لم تكن ترفاً أخلاقياً بل رداً على امتهان يومي متجذر في البيروقراطية والاستبداد، أما العدالة الاجتماعية فكانت الحلم المؤجل لشعوب اختنقت تحت تركز الثروة والفرص في يد قلة.
كانت تلك الشعارات، في جوهرها، إعلاناً عن لحظة وعي جمعي نادرة، تحركت فيها الجماهير بدافع الشعور بالمظلومية أكثر من الأيديولوجيا.
ومع سقوط الأنظمة الواحد تلو الآخر، بدا وكأن صفحة جديدة تفتح في التاريخ العربي، إذ تهاوت ركائز سلطوية ظُن أنها خالدة، وتقدم جيل رقمي جديد بوصفه فاعلاً سياسياً للمرة الأولى. غير أن الحلم لم يلبث أن اصطدم بحدود الواقع الصلبة.
فغياب المؤسسات، وتنازع القوى، وتدافع المصالح الإقليمية والدولية، حول الاندفاعة الثورية إلى مسرح للفوضى والتشظي. ومع مرور السنوات، اتضح أن إسقاط النظام لا يعني بالضرورة سقوط البنية التي أنجبته، وأن الدولة العربية الحديثة، بكل ما تحمله من تكلس وهشاشة، لم تكن قادرة على ولادة نظام ديمقراطي مستقر.
في تونس، بدا المشهد في بداياته أقرب إلى ميلاد ديمقراطي جديد، سرعان ما ألهم المصريين للخروج في 25 يناير/ كانون الثاني، ليتحقق ما كان يعد مستحيلاً بسقوط مبارك في فبراير/ شباط 2011. وفي ليبيا واليمن وسوريا، تحولت الشعارات ذاتها إلى وقود لحروب أهلية وصراعات إقليمية تجاوزت في عنفها حدود الخيال.
بدا المشهد حينها وكأن المنطقة تعيش لحظة تحول كبرى، تنهي قرناً من السلطوية وتفتح أفقاً جديداً للنهضة، غير أن وهج الثورة سرعان ما انطفأ تحت رماد الواقع.
صراع عميق
"الربيع العربي" مصطلح مستعار من تعبير أوروبي قديم هو "ربيع الشعوب"، الذي أطلق على ثورات عام 1848 التي اجتاحت أوروبا، حين خرجت الجماهير مطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وكما بشر "ربيع الشعوب" بولادة زمن جديد من الوعي السياسي في القارة العجوز، حمل "الربيع العربي" آمالاً مشابهة بإحياء المجال العام في الشرق الأوسط، وتفكيك بنى الاستبداد الراسخة.
غير أن المسار العربي، بخلاف نظيره الأوروبي، ارتطم بجدران من الصراع بين الدولة العميقة ومجتمع متعطش للتحرر، فتحول الربيع إلى فصل سياسي مضطرب تتناوب فيه موجات الانتعاش والانتكاس، من دون أن يستقر بعد على ملامح نظام جديد.
منذ انبثاق موجة "الربيع العربي"، بدا واضحاً أن الثورات لم تواجه فقط أنظمة حاكمة مترهلة، بل واجهت بنية سلطوية مركبة تمتد جذورها في عمق الدولة نفسها. تلك التي تعرف اصطلاحاً بـ"الدولة العميقة"، جهاز متشابك من المصالح الأمنية والعسكرية والبيروقراطية والمالية، حافظ على بقائه على رغم سقوط الوجوه السياسية التي كانت تتصدر المشهد.
أدركت هذه البنى أن البقاء لا يتطلب المواجهة المباشرة، بل امتصاص الصدمة، وإعادة إنتاج الذات بوسائل جديدة.
فحينما ارتفعت أصوات الشعوب مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة، استجابت الدولة العميقة بلغة مختلفة، وعود بالإصلاح، وانفتاح محسوب، ثم انقضاض ناعم على الثورة باسم "الاستقرار".
ووصفت هذه الظاهرة بأن "الثورات في الشرق الأوسط تسقط الحكام لا الدول"، في إشارة دقيقة إلى أن البنية العميقة ظلت بمنأى عن التغيير، بل ازدادت صلابة مع انهيار الواجهة السياسية.
فبينما بدت الجماهير منشغلة بتغيير الأشخاص، كانت المؤسسات الأمنية والاقتصادية تعيد ترتيب مواقعها داخل الظل، لتخرج في نهاية المطاف أكثر رسوخاً وقدرة على التحكم.
حصاد السراب
لم يثمر "الربيع العربي" كما بشر به الحالمون الأوائل، ولم تتحقق وعود الحرية والعدالة التي رفعتها الجماهير في لحظة من النشوة الثورية. فبعد انطلاق شرارته، تحول المشهد من أهازيج التغيير إلى فصول من العنف والانقسام، وكأن التاريخ يعيد كتابة درس قاس مفاده أن الثورة ليست حدثاً عاطفياً، بل مسار طويل يعيد هندسة المجتمع من جذوره.
في تونس، التي كانت مهد الانتفاضة، نجحت البلاد نسبياً في إنجاز انتقال ديمقراطي عبر انتخابات تأسيسية عام 2011 وصياغة دستور توافقي عام 2014، غير أن التجربة سرعان ما تعثرت مع تجميد الرئيس قيس سعيد البرلمان عام 2021 وإعلانه الحكم بالمراسيم، في خطوة أعادت الجدل حول مستقبل الديمقراطية في البلاد.
أما في مصر، فقد بدت الثورة في يناير 2011 بداية عهد جديد حين أجبر الرئيس حسني مبارك على التنحي، لكن صعود الرئيس محمد مرسي كان يمهد لسلطوية الإخوان، فوضع حد لها عام 2013.
وفي ليبيا، فتحت الانتفاضة عام 2011 وإسقاط نظام معمر القذافي، الباب أمام فوضى الميليشيات، حيث انقسمت البلاد بين حكومتين متنافستين في طرابلس وبنغازي، ودخلت في حرب أهلية ممتدة.
أما اليمن، فقد انزلقت احتجاجاته إلى حرب أهلية معقدة بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء عام 2014، وتحولت البلاد إلى واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم. وفي سوريا، تحولت تظاهرات درعا في مارس/ آذار 2011 إلى حرب مدمرة، بعد أن تدخلت روسيا وإيران عسكرياً لدعم نظام بشار الأسد في مواجهة فصائل مدعومة من تركيا ودول غربية.
بعد 15 عاماً على اندلاع احتجاجات "الربيع العربي"، تكشفت ملامح حصاد متناقض بين ما تحقق وما ضاع، فقد كسرت هيبة الأنظمة المستبدة، وتحرر وعي الشعوب من خوف كان متجذراً لعقود، لكن في المقابل تهاوت مفاهيم الاستقرار والتنمية، وتبدد حلم الدولة الديمقراطية في ضجيج الصراعات.
كان "الربيع العربي" بمثابة اختبار شامل لمتانة البنى السياسية العربية، ففضح هشاشتها، وكشف عمق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
يلاحظ أن غالبية المشاركين في الثورات لم يخرجوا من أجل الديمقراطية فحسب، بل بدافع من الأزمات المعيشية والفساد البنيوي والبطالة، فقد قادت المطالب الاجتماعية إلى تحولات سياسية كبرى، لكن سرعان ما أعادت السلطة إنتاج نفسها بآليات جديدة. وتراجعت مؤشرات الحكم الرشيد وحقوق الإنسان في معظم الدول التي شهدت انتفاضات، فقد أصبحت حرية الصحافة أسوأ مما كانت عليه قبل عام 2011.
موجة ثانية
تبدو احتمالية عودة موجة ثانية من "الربيع العربي" رهينة بتفاعل معقد بين وعي بالتغيير، وتجارب لم تسفر عن تعلم شيء. فالعوامل البنيوية التي أطلقت شرارة 2011 لا تزال قائمة، بل ازدادت تجذراً، من تدهور اقتصادي مزمن، إلى فساد مستشر في مؤسسات الدولة، وتفاوت اجتماعي صارخ بين نخب محصنة وجماهير مسحوقة، فضلاً عن انسداد سياسي يعيد إنتاج السلطوية تحت أقنعة جديدة، ما تعيشه المنطقة اليوم ليس استقراراً، بل سكوناً هشاً يخفي تحت رماده نيراناً مؤجلة نتاج تلك الأحداث وما قبلها.
غير أن السؤال الجوهري ليس ما إذا كانت الموجة الثانية مقبلة، بل ما إذا كانت أكثر وعياً من سابقتها، فالثورات الأولى أجهضت لأنها انطلقت من عاطفة متقدة أكثر مما انبثقت من مشروع مؤسسي. أفرزت الشوارع أصواتاً حرة، لكنها لم تنتج بنى قادرة على صيانة الحرية. ومع انحسار الزخم الشعبي، استعادت الدولة العميقة أنفاسها، فعادت السلطة لتتجدد بأشكال أكثر براعة في احتواء الوعي وإرباكه.
تواجه المجتمعات العربية اليوم تحدياً مزدوجاً، تجاوز صدمة الإخفاق من جهة، وإعادة تعريف العلاقة بين المواطن والدولة من جهة أخرى. فالتحول السياسي لا يمكن أن يبنى على الغضب وحده، بل على عقد اجتماعي جديد يعيد التوازن بين الحرية والنظام، وبين العدالة والاستقرار.
وهذا العقد لن يولد إلا من رحم وعي نقدي ناضج يتجاوز الشعارات إلى إدراك عميق لمفهوم الدولة ومسؤولية شعبها. وعلى رغم الإخفاقات، يبقى الوعي هو المكسب الأعمق، لكن الخطر الأكبر اليوم لا يكمن في غياب الوعي، بل في تشويشه، فيبدو أمامنا وعي ممزق بين توق للحرية وخوف من الفوضى، وبين رفض للسلطة واستسلام لها في آن واحد.
(اندبندنت عربية)