قبل 29 عاما قَفل ناصر مثنى عائدا إلى قريته في محافظة الضالع جنوبي اليمن خائبا ومنكسرا؛ فالضابط في مكتب رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية كان ينزع زيه العسكري للمرة الأخيرة بعد أن سُرّح من قوات الجيش عقب حرب 1994.
في سبيل إعالة أسرته، اضطر مثنى، الذي رافق الرئيس علي سالم البيض، إلى امتهان أعمال مغمورة في البناء والزراعة وبيع القات (نبتة منبهة يمضغها اليمنيون في دواوينهم وتجمعاتهم اليومية خلال ساعات المساء).
وقال للجزيرة نت "لك أن تتصور الوضع النفسي والمعيشي لشخص تغيّر حاله من ضابط في الحرس الجمهوري يرافق الرئيس ومدير مكتبه إلى رعوي (عامل في الزراعة).. لقد تدمّرت وانهرت، رأيت شخصا محطما لم يعد له وجود، يعيش فقط لأجل أطفاله".
واندلعت الحرب صيف 1994 بين نظام الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح ونائبه علي سالم البيض، إثر قرار الأخير انفصال جنوبي اليمن عن شماليه، وعودة الجنوب كدولة مستقلة بعد 4 سنوات من وحدتها الطوعية مع الجمهورية العربية اليمنية في الشمال.
وبعد شهرين ونصف الشهر من القتال، انتهت الحرب بهزيمة القوات الجنوبية ومغادرة البيض وأركان حكمه البلاد، ليتوحد اليمن من جديد بالقوة. لكن الآلاف من ضباط وجنود ومخابرات الدولة الجنوبية والموظفين المدنيين أُقصوا من وظائفهم.
ويقول مثنى إن القوات الشمالية أسرته ومعه 300 جندي من القوات الجنوبية في محافظة أبين جنوبي البلاد، ليُنقلوا إلى محافظة البيضاء (وسط)، وحين انتهت المعارك أُفرج عنه مع العشرات وسُرحوا من مناصبهم فورا.
نواة القضية الجنوبية
وفيما بدا حالة إنصاف للمبعدين بعد هذا العمر الطويل، أقرّ رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي مرسوما رئاسيا بتسوية أوضاع هؤلاء الموظفين. ورأى آخرون القرار مسعى لاحتواء حالة التذمر في أوساط الجنوبيين.
وأسّست مطالب إعادة المبعدين لوظائفهم نواة القضية الجنوبية التي ترفعها حاليا قوى وأطراف تطالب بانفصال جنوبي اليمن عن شماليه، ففي مارس/آذار 2007 أُعلن عن تأسيس جمعية المتقاعدين العسكريين والأمنيين المسرّحين من وظائفهم.
وبدأت الجمعية بتنظيم مظاهرات احتجاجية للمطالبة بمعالجة وتسوية أوضاع المبعدين، وتجاهلتها السلطة لتتسبب في تصاعد وتيرة الاحتجاجات والاحتقان الشعبي. وفي أبريل/نيسان 2009 تحوّلت إلى مطالب سياسية بالانفصال واستعادة دولة اليمن الجنوبي.
وعقب اندلاع الثورة على نظام صالح وسقوطه عام 2011، أصدر الرئيس السابق عبد ربه منصور هادي في 2013 قرارا بإعادة المبعدين، وبعد شهر أطلق صندوقا ائتمانيا خاصا بالتعويضات، وتعهدت قطر حينها بتقديم 350 مليون دولار تمويلا للصندوق، لكن الحرب حالت دون تنفيذ القرار.
وبعد 10 سنوات، وقع الرئيس رشاد العليمي على قرارات بترقيات وتسويات ومنح لـ 52 ألفا و766 من المبعدين عن وظائفهم، وكلّف الحكومة باعتماد 4 مليارات ريال شهريا (نحو 3 ملايين دولار) لصرف مستحقاتهم.
جبر الضرر
وتعهدت قرارات العليمي بجبر الضرر ومعالجة آثار الماضي، لكن الضابط السابق ناصر مثنى يقول -للجزيرة نت- إن الضرر كان عميقا، إذ هُمشوا تماما من الحياة العامة. ويوضح "30 عاما ذهبت هباءً، والآن أنا في الخمسينيات، لذلك لن أعود للسلك العسكري".
ويضيف "أنا وغيري عانينا كثيرا من السلطات والمجتمع، والكثير منّا دخلوا في حالات اكتئاب ووضع نفسي صعب وانتهى بهم الحال للجنون".
أما المساعد أول في البحرية عارف مقبل، فيقول إن تسريحه من الجيش وإبعاده عن وظيفته كان انتهاء لطموحاته، واضطر لأن يعمل في البناء بالأجر اليومي حتى اليوم.
ويضيف "سأعود للخدمة من جديد لكن بشرط أن تُمنح ترقياتي ويُسوى راتبي مثل بقية الجنود، أما الراتب المحدد بـ 27 ألف ريال (20 دولارا) فمبلغ بائس".
وحاول مقبل، الذي تلقى دورات تدريبية في روسيا، العودة لعمله إلا أنه أُقصي من وظيفته، ويقول "اندلعت الحرب وأنا أقضي إجازتي في القرية، ومع ذلك أبعدوني عن الوظيفة".
ويقول العميد عبده المعطري، رئيس مجلس التنسيق الأعلى للمتقاعدين المبعدين قسرا من العسكريين والأمنيين والمدنيين، إن كل ما يتمناه المبعدون حاليا هو تنفيذ القرار وتطبيقه على أرض الواقع، وألا يطاله التسويف حتى لا يكون حبرا على ورق.
ويضيف المعطري، وهو أحد المُسرحين من وظيفته العسكرية، للجزيرة نت إن المجلس عمل منذ 10 أعوام، وقرار اليوم يُعد نتاجا لعمل طويل.
ووفقا للمعطري، فإن رواتب الجميع ستخضع للتسوية، فمثلا سيتحصل الضباط على راتب لا يقل عن 180 ألف ريال (138 دولارا) والمساعد على 115 ألف ريال (88 دولارا).
تهدئة الاحتقان
ورغم ضآلة التعويضات للمبعدين عن وظائفهم، فإن القرار لقي ترحيبا على اعتبار أنه حقق أهم مطلب للقضية الجنوبية.
يقول خالد العكيمي عضو اللجنة الرئاسية التي شكلتها الحكومة لمعالجة الملف، إن اللجنة ستعمل حتى نهاية العام الجاري، وستدرس بقية ملفات التظلّمات التي استقبلتها من المبعدين قسرا، وستصدر قرارات لرفعها لرئاسة الجمهورية.
ويضيف العكيمي للجزيرة نت أن الرئيس العليمي هو من يصدر قرارات سواء بالعودة من التقاعد للخدمة الفعلية أو التسوية أو الترقية أو الإحالة للتقاعد.
ويقول الباحث والمحلل السياسي فؤاد مسعد إن توقيت صدور القرار أثار التساؤلات؛ لأن القضية مسكوت عنها لنحو 10 سنوات، وإن الرئيس العليمي يسعى لتهدئة الاحتقان الشعبي الذي أثاره المجلس الانتقالي الجنوبي في الأيام الأخيرة بتصعيده خلال اللقاء الذي نظمه في عدن.
ويضيف "هذه القضية هي أكثر قضية استغلها المجلس الانتقالي في ابتزاز الحكومة الشرعية والمكونات السياسية الرافضة لمشروع الانفصال".
ولم يصدر أي تعليق من المجلس الانتقالي المُطالب بانفصال جنوبي اليمن عن شماليه، لكن القيادي فيه ناصر الخبجي اعتبر القرارات محاولة لتسويق الوهم وادعاء الإنصاف والعدالة، في حين قالت وسائل إعلامه إن القرار مجرد محاولة انتصار سياسي للعليمي وكسب ود الجنوبيين.
لكن المحلل مسعد يقول إن الانتقالي يريد أن تستمر معاناة هذه الشريحة، وعدّدها بعشرات الآلاف من المبعدين، لكي يستمر في توظيفها مستقبلا ضد المكونات السياسية كما وظفها سابقا.
من جهته، يقول الناشط في الحزب الاشتراكي علي القباطي، للجزيرة نت، إن القرار يعالج 80% من القضية الجنوبية، لكن المشكلة تتعلق بتمويل هذه الرواتب في الوقت الذي تعجز فيه الحكومة عن سداد رواتب موظفيها.