الملخص التنفيذي
تخللت المعارك القتالية التي دارت في شبوة خلال العام الماضي، ومؤخرا في أبين، بين القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي والقوات الحكومية الموالية للتجمع اليمني للإصلاح، اتهامات متبادلة بين الطرفين بالتعاون مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب.
أصبحت هكذا اتهامات سمة من سمات الحرب منذ اندلاع شرارتها عام 2015، لكنها عادة ما تتخذ نهجاً خطابياً أكثر من كونها ادعاءات مبنية على حقائق، في ظل افتقارها لأدلة دامغة.
اختلف المشهد العام الماضي مع اتخاذ تنظيم القاعدة في جزيرة العرب موقفا علنياً أكثر تعاطفا مما هو معتاد إزاء حزب التجمع اليمني للإصلاح، وتجلى ذلك في تصريحاته الحذرة غالباً.
ففي خطاب ألقاه أبو علي الحضرمي - أحد القياديين البارزين في الصف الأول من مقاتلي التنظيم والذي نادرا ما يظهر على وسائل الإعلام - في أغسطس/آب 2022، أعرب التنظيم عن استيائه من سيطرة قوات دفاع شبوة المدعومة من المجلس الانتقالي الجنوبي وقوات ألوية العمالقة المدعومة إماراتيا على محافظة شبوة، في أعقاب المعارك القتالية التي دارت مع القوات الموالية لحزب الإصلاح في المحافظة في وقت سابق من الشهر ذلك العام.
كما ندد التنظيم علناً بإقالة المحافظ المحسوب على حزب الإصلاح "محمد صالح بن عديو" في ديسمبر/كانون الأول 2021، وهو ما عكس تحيزا واضحاً وغير معتاد من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لحزب الإصلاح الإسلامي.
تعد محافظة أبين المجاورة لشبوة غربا، أول معقل لعناصر تنظيم القاعدة، حيث أسس الأخير تواجده لأول مرة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، رغبة منه (جزئيا) في تحقيق مقتضى الحديث النبوي، "يخرج أثني عشر ألفاً من عدن أبين ينصرون الله ورسوله".
وسّع التنظيم لاحقا رقعة نفوذه إلى مناطق جنوبية أخرى كشبوة ومأرب ولحج وحضرموت، لتندلع شرارة انتفاضات الربيع العربي وشرارة الصراع الجاري في اليمن اللتان منحتاه فرصة جديدة للانتعاش في ظل الفراغ الأمني الذي شهده الجنوب، والذي استقطب أيضا تنظيم الدولة الإسلامية إلى اليمن.
خلال المرحلة الأولى من الحرب، انضم التنظيم إلى صفوف قوات أخرى لطرد قوات الحوثيين من عدن، مستولياً في الوقت نفسه على مناطق استراتيجية مثل المكلا في ساحل حضرموت.
أُجبرت فلول التنظيم على العودة إلى الجبال في عام 2016، لتحاول لاحقاً تأسيس موطئ قدم لها في محافظة البيضاء قبل سقوطها في أيدي قوات الحوثيين عام 2021 – وهو ما أفضى إلى فترة عاش فيها التنظيم أضعف حالاته.
تهدف هذه الورقة التحليلية إلى تسليط الضوء على تاريخ التعاون بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ومختلف أطراف النزاع في اليمن، وكيف أصبح التنظيم شمّاعة سياسية حاولت من خلالها كل من الحكومة وجماعة الحوثيين تقديم نفسيهما كحلفاء للولايات المتحدة في حربها على الإرهاب.
تستند الورقة إلى مقابلات أجريت مع عدة مصادر مقربة من تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وشخصيات قبلية، وأعضاء سابقين في التنظيم، بمن فيهم بعض ممّن أطلق سراحهم في إطار صفقات تبادل الأسرى.
مقدمة
منذ استيلاء الحوثيين على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014 واندلاع الحرب الجارية في مارس/ آذار 2015، غالبا ما تبادلت الأطراف اليمنية المتحاربة الاتهامات بالتعاون مع فرع تنظيم القاعدة في اليمن، المعروف رسمياً بـ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب".
تُعزى هذه الادعاءات إلى الحرب التي شنتها الولايات المتحدة لاستئصال تنظيم القاعدة في اليمن منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عبر استهداف عناصر التنظيم المشتبه بهم بالطائرات المسيرة والصواريخ باستمرار.
ولّد هذا حافزا لدى الأطراف السياسية اليمنية لوصم بعضها البعض وإلصاق تهمة التعاون مع تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، سعياً لتحويل بوصلة العداوة الامريكية إلى خصومها وتعزيز موقفها على المستوى المحلي.
خلال حرب صيف عام 1994، استخدم نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح المجاهدين العرب ممن قاتلوا سابقا ضد السوفييت في أفغانستان كقوات مساندة في الجنوب.
واجه صالح لاحقا اتهامات من الحراك الجنوبي – الذي أُسِّسَ عام 2007 لمواجهة الهيمنة الشمالية في أعقاب حرب عام 1994 - بدعم الإسلاميين كحزب الاصلاح وتنظيم القاعدة وتمكينهم في جغرافيا جنوب اليمن لمناهضة النفوذ السياسي والاجتماعي للحزب الاشتراكي اليمني واستخدامهم لردع الانفصاليين الجنوبيين.
دخلت معركة الاتهامات المتبادلة مرحلة جديدة عام 2011، مع اندلاع الاحتجاجات في عدة مدن يمنية تطالب بإسقاط نظام صالح. اتهم صالح مجددا خصومه بالتآمر مع تنظيم القاعدة، محذرا من سقوط خمس محافظات يمنية تحت سطوة التنظيم في حال ضعف أو انهيار نظامه.
ولإثبات وجهة نظره، قام صالح بسحب ألوية عسكرية من مناطق ينشط فيها عناصر التنظيم، كمديريتي زنجبار وخنفر بمحافظة أبين، مما عزز سطوة تنظيم القاعدة كأقوى قوة في المحافظة بين عامي 2011 و2014.
رغم هذا، نجح معارضو صالح بالتفوق عليه والمناورة، حين دعا القيادي البارز في حزب الإصلاح عبد الرحمن بافضل أحزاب المعارضة إلى طمأنة الولايات المتحدة بشأن الحرب على تنظيم القاعدة.
وأكد السفير الأمريكي لدى اليمن حينها "جيرالد فايرستاين" أنهم التقوا عدة مرات بقيادات من حزب الإصلاح ممن يتفقون تماما مع رؤية الولايات المتحدة "لملف الحرب على الإرهاب"، حيث صرح في مقابلة نُشرت له في إحدى الصحف العربية: "لدينا علاقة جيدة مع الإصلاح، لدينا حوارات منتظمة مع عبد الوهاب الآنسي ومحمد اليدومي القياديين في الإصلاح، ونحن عملنا مع الإصلاح عن قرب خلال فترة الأزمة السياسية أثناء مشاركتهما في قيادة أحزاب المعارضة، وهما موقعان على المبادرة الخليجية، ومشاركان في حكومة الوفاق. ولذلك علاقتنا بالإصلاح طبيعية كما هي مع بقية الأحزاب السياسية في اليمن. نحاول التنسيق لمواجهة الجماعات المتطرفة، وقد سمعنا من قيادات الإصلاح أنهم يشاركوننا وجهة نظرنا بخصوص مواجهة التطرف والميل إلى العنف، لذلك أستطيع القول إن علاقتنا بهم ممتازة".
مع اعتلاء عبد ربه منصور هادي كرسي الرئاسة خلفا لصالح، ثبُت أن مخاوف الولايات المتحدة من أن لا يقدم بديل صالح نفس المستوى من التعاون الأمني لا أساس لها من الصحة، حيث اعتنق هادي سياسة التعاون الكامل ذاتها مع واشنطن، حسبما صرّح السفير الأمريكي فايرستاين علناً.
رغم ذلك، ظلت الاتهامات المتبادلة بالتعاون مع تنظيم القاعدة سمة من سمات الصراع السياسي المستعر في البلاد، حيث اتهمت سلطات الحوثيين السعودية ونظام هادي بالتعاون مع تنظيم القاعدة بعد انطلاق العمليات العسكرية للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن منذ مارس/آذار 2015 في محاولة لإعادة حكومة هادي إلى السلطة (كهدف معلن).
جاء الرد السعودي بالمثل، مع توجيه الصحافة السعودية نفس الاتهام باستمرار إلى جماعة الحوثيين، كما حدث حين بدأت القوات الحكومية عملياتها ضد الحوثيين في البيضاء عام 2020.
لجأت جماعة الحوثيين في واقع الأمر، إلى استهداف الجماعات المتشددة التي تهدد أتباع الشيعة الزيدية واستخدام ذلك كإحدى المبررات الرئيسية لتوسيع دائرة نفوذها خارج معقلها الشمالي في محافظة صعدة.[12] بلغ الأمر حدّ تكهن وسائل الإعلام العربية (خلال الأشهر الأولى لاستيلاء الحوثيين على صنعاء في سبتمبر/ أيلول 2014) بأن واشنطن قد تصبح حليفا للحوثيين في الحرب على الإرهاب داخل اليمن، أو على الأقل طرفا محايدا.
لكن خلال المعارك القتالية بين الحوثيين وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب بمحافظة البيضاء، في أكتوبر/تشرين الأول 2014، أشارت أنباء إلى استهداف القوات الأمريكية لعناصر القاعدة تاركة قوات الحوثيين تصول في أرض المعارك بمفردها.
إلاّ أن التدخل العسكري بقيادة السعودية لم يترك أي خيار أمام واشنطن سوى دعم حليفها السعودي، مما جعل التعاون بين الولايات المتحدة وجماعة الحوثيين ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب أمراً مستحيلا.
في الوقت الحالي، يُلوّح كل طرف من أطراف الصراع بأن بحوزته ما يعتبره أدلة تدعم اتهاماته لخصمه بالتعاون مع تنظيم القاعدة.
خلال المعارك القتالية التي دارت في محافظة البيضاء وسط اليمن في مارس/ آذار 2021، قدمت الحكومة المعترف بها دوليا قائمة إلى مجلس الأمن الدولي تحوي أسماء أكثر من 200 عنصر يُشتبه بانتمائهم لتنظيم القاعدة وأُطلق سراحهم من سجون الحوثيين.
من جانبهم، نشر الحوثيون قوائم تضم أسماء عدد من قيادات وعناصر القاعدة ممن قالوا إنهم لقوا حتفهم أثناء قتالهم في صفوف القوات الحكومية في مديريتي الزاهر والصومعة بمحافظة البيضاء.
تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والحكومة
خلال 2014، نفذ فرع تنظيم القاعدة في اليمن عدة عمليات استهدفت المؤسستين الأمنية والعسكرية، بما في ذلك عمليتان نُفذتا داخل الأراضي السعودية في (شرورة) على الحدود مع اليمن، إلى جانب عملية ضد مقر قيادة الجيش في سيئون وأخرى ضد المنطقة العسكرية الرابعة في عدن، متوعداً بالمزيد وفق بيان صدر حينها.
عايَرَ تنظيم القاعدة النظام السعودي بسبب مزاعمه بتمثيل المسلمين السنة في الوقت الذي يتعاون فيه النظام مع الولايات المتحدة في شن عمليات بالطائرات المسيرة والصواريخ ضد فرع تنظيم القاعدة في اليمن. وقارن التنظيم هذا الموقف بالتضامن بين الأذرع الشيعية وتحديدا دعم إيران لجماعة الحوثيين.
تغيرت مجريات الأحداث بعد تولي سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحُكم في السعودية عام 2015، وشنّ المملكة حربها ضد جماعة الحوثيين في اليمن.
بدأت سياسة تنظيم القاعدة تتغيّر تجاه السعودية، كما ظهر خلال عملية الإفراج عن نائب القنصل السعودي عبد الله الخالدي (المختطف في عدن منذ عام 2012) أوائل مارس/ آذار 2015 قُبيّل التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن.
وأكد مصدر من داخل تنظيم القاعدة عام 2016، أن أوامر صدرت بعدم استهداف القوات الحكومية اليمنية التابعة لنظام هادي أو قوات التحالف (بقيادة السعودية) المشاركة في العمليات العسكرية ضد جماعة الحوثيين.
كان الهدف من ذلك هو توحيد الجهود لدعم الأطراف المناهضة للحوثيين وتجنب العمليات التي من شأنها إعادة إحياء الاهتمام الدولي بملف "الحرب على الإرهاب"، والتي أصبحت لأول مرة حرباً ثانوية في اليمن.
في غضون ذلك، تمكن تنظيم الدولة الإسلامية من استغلال هذا الموقف لتسليط الضوء على أوجه الاختلاف بينه وبين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، حيث تبنى (تنظيم الدولة الإسلامية) عمليات في عام 2015 استهدفت المساجد الزيدية في صنعاء وقوات التحالف في عدن، بعد أن أصبحت الأخيرة العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دوليا.
من وجهة نظر تنظيم القاعدة، كان استهداف الحكومة والقوات الإماراتية عملا ساذجا أظهر جهل تنظيم الدولة الاسلامية بالمبادئ الجهادية التي تُحتم النظر إلى جماعة الحوثيين باعتبارها العدو الأول.
لم يكتفِ تنظيم القاعدة في جزيرة العرب بالامتناع عن استهداف قوات الحكومة وقوات التحالف، بل شارك مباشرة في العمليات العسكرية ضد جماعة الحوثيين.
لعب تنظيم القاعدة دورا كبيراً خلال المعارك التي شهدتها عدن بداية الحرب في منتصف العام 2015، حين قاتل إلى جانب الفصائل السلفية والمتطوعين المحليين في صفوف المقاومة.
في ذلك الوقت، تدفقت الأسلحة من التحالف بقيادة السعودية إلى أيدي عناصر تنظيم القاعدة بلا قيود – شأنهم شأن القيادات السلفية والشخصيات القبلية، ولعبت عناصر تنظيم القاعدة دورا محوريا في عمليات عسكرية كَمعركة "رأس عباس".
فضلا عن ذلك، شاركت عناصر القاعدة في القتال ضد الحوثيين في محافظات لحج وأبين وشبوة جنوباً، وفي محافظتي مأرب وتعز شمالاً، كما أكد تنظيم القاعدة مشاركة عناصره في المعارك التي دارت بمديرية صرواح بمأرب، عبر تغريدات يومية توضح سير العمليات العسكرية نُشرت في 2016 على حساب قامت لاحقا إدارة منصة "تويتر" بحظره.
خلال الأشهر الأولى من الحرب، بدا وكأن التحالف الذي تقوده السعودية يغض الطرف عن دور تنظيم القاعدة في المعارك الدائرة في عدن، بالنظر للعدد الضئيل من القوات البرية الجاهزة لحمل السلاح وخوض المعارك بعد استيلاء الحوثيين على صنعاء وعقب انهيار المؤسسات العسكرية الحكومية هناك.
إلا أن الوضع اختلف في مأرب، حيث طلب التحالف من السلطات المحلية هناك الاستغناء عن عناصر القاعدة في خطوط مواجهاتها، على اعتبار أن الوحدات القتالية للجيش الحكومي بقيت متماسكة ولم تتأثر بالتطورات في صنعاء، فضلا عن وجود مقاومة من أبناء القبائل المحليين تشكلت في مطارح نخلا والسحيل تحسبا لتقدم الحوثيين صوب المحافظة.
جاء رد تنظيم القاعدة على هذا بالقتال في صفوف القوى القبلية، والامتناع عن رفع رايات التنظيم، حيث ألقى القيادي في تنظيم القاعدة جلال بلعيد المرقشي كلمة مرئية أواخر عام 2015 بدا وكأنه يشير فيها إلى أن مديرية صرواح كانت واحدة من 11 جبهة قتال شاركت فيها عناصر التنظيم إلى جانب القوات الحكومية في عدة محافظات.
حين اتخذ تنظيم القاعدة قرارا بالانخراط في الحرب في إطار تحالف ضمني مع السعودية، انتهزت السلطات السعودية الفرصة لاختراق الجماعة.
في وقت لاحق، رحب الجانب السعودي بفوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وعملت الرياض من أجل إعادة تركيز واشنطن على ملف الحرب على الإرهاب في اليمن.
في يناير/ كانون الثاني 2017، نفذت إدارة ترامب عملية إنزال كبيرة في محافظة البيضاء وسط البلاد وغارات بطائرات من دون طيار ضد عناصر القاعدة في جبهة صرواح بمحافظة مأرب، حيث كان تنظيم القاعدة يقاتل مع القوات الحكومية ضد الحوثيين في ذلك الحين.
بعد صعوده إلى هرم قيادة التنظيم في يونيو/ حزيران 2015، ألقى أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب قاسم الريمي خطابا علنيا حول عملية الإنزال الأمريكية، مؤكدا لأول مرة مشاركة تنظيم القاعدة في القتال ضد الحوثيين على أكثر من جبهة، وتحديداً في صفوف قوات الإصلاح والقوات السلفية.
تصريح الريمي العلني وضع نقطة على سطر هذا التعاون السري، لبعض الوقت على الأقل، كونه أصبح غير ملائم الآن لأي من الأطراف للعمل معاً لاعتبارات سياسية وبعد أن بات التعاون السابق مكشوفاً للجميع.
في عام 2018، أطلق تنظيم القاعدة في جزيرة العرب سلسلة إصدارات مرئية من خمسة أجزاء، سرد من خلالها عملية القبض (خلال العام السابق) على شخصيات بارزة كانت جزءا من خلية تجسس زرعتها المخابرات السعودية داخل التنظيم.
كما اتخذت الجماعة تدابير احترازية من قبيل منع استخدام الهواتف المحمولة والاتصال بشبكة الإنترنت، والحديث عن تحركات القيادة، والأهم من ذلك إنهاء التعاون مع الإصلاح والسلفيين الذي سبق وأن نوّه إليه الريمي.
وعلى ضوء هذا، جاءت مشاركة مقاتلي القاعدة في معارك 2021 ضد الحوثيين في مديريتي الزاهر والصومعة بمحافظة البيضاء كمبادرة مستقلة دون تنسيق مع القوات الموالية للحكومة.
في المراحل الأولى من الحرب المندلعة عام 2015، قَوْلب تنظيم القاعدة الصراع باعتباره حرب بين السنة بقيادة السعودية والشيعة بقيادة إيران.
ومن هذا المنطلق، رأى التنظيم أن استمرار الهجمات على النظام السعودي لن يخدم سوى المصالح الإيرانية رغم مخاوفه من تموضع السعودية كممثل شرعي للإسلام السني. فضلا عن هذا، شجع التقارب الفكري المحدود بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والفصائل الإسلامية التابعة للحكومة - كحزب الإصلاح والجماعات السلفية - على تحيز التنظيم إلى صف النظام السعودي، وبحسب ما أكده أحد مصادر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، جاءت المشاركة في سياق “النصرة لمن يعتبرهم إخوانا في الدين والعقيدة” على حد تعبيره.
تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والحوثيين
رغم العداء العقائدي بين تنظيم القاعدة وجماعة الحوثيين (والذي تعود جذوره إلى ما عرف بـ (الصحوة الزيدية) إبان تمدد التيار السلفي المدعوم من السعودية داخل اليمن منذ أواخر سبعينيات القرن العشرين)، فقد تواصل الجانبان في أكثر من مناسبة خلال السنوات الأخيرة.
حيث أن وقوع سجون صنعاء التي تضم بين جدرانها مئات المعتقلين من عناصر القاعدة في يد الحوثيين عام 2014، وضع الإدارة الأمريكية أمام معضلة كيفية التعامل مع السلطة الجديدة، إلاّ أن الجانب الأمريكي لم يتواصل قط مع الجانب الحوثي في إطار التعاون ضد تنظيم القاعدة في جزيرة العرب وذلك بعد الموقف الأمريكي الداعم للعملية العسكرية التي قادتها السعودية ضد الحوثيين.
ومع غياب هكذا جهود، كانت البيئة مواتية لتطور العلاقة بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والحوثيين، ومثّلت إيران (حليفة الحوثيين) نموذجا لمثل هذه العلاقة على ضوء خبرتها الطويلة في التعامل مع تنظيم القاعدة، حيث أتاحت استخدام أراضيها كممرّ للعديد من قيادات القاعدة المتنقلين من وإلى أفغانستان.
علاوة على ذلك، استغل القيادي المصري في تنظيم القاعدة محمد صلاح الدين زيدان، المَكني سيف العدل، مقر إقامته في إيران لتوجيه أنشطة فرع التنظيم في اليمن، وينعكس ذلك في التوجّه الحالي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب الذي يهيمن عليه نَهج سيف العدل المُفضل المتمثل في تنفيذ عمليات ضد المصالح الغربية والسعودية والإماراتية، وتجنب استهداف جماعة الحوثيين.
في غضون هذا، يستعد سيف العدل ليصبح الخليفة الرسمي لأيمن الظواهري كزعيم لتنظيم القاعدة.
ظهرت أولى بوادر التعاون بين الجانبين مع إطلاق سراح عدد من عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من سجون الحوثيين مقابل إفراج السلطات الحوثية عن الملحق الإداري بالسفارة الإيرانية في صنعاء نور أحمد نيكبخت والذي اختطفه تنظيم القاعدة في صنعاء عام 2013.
ووفقا لمصادر مقربة من فرع التنظيم في اليمن، فقد تم ترتيب الصفقة بدعم من الحكومة الإيرانية وسيف العدل.
هناك أيضا شكوك بأن تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كان يبيع النفط لقوات الحوثيين حين كان الأول يسيطر على المكلا في 2015/ 2016 – وهي مزاعم أطلقها تنظيم الدولة الإسلامية في ذلك الوقت ولعبت دورا في توتر العلاقات بين التنظيمين.
لم يقتصر الأمر على إطلاق سراح المئات من المعتقلين من عناصر القاعدة ضمن إطار صفقات تبادل الأسرى بين الحوثيين والتنظيم، فقد أفرجت سلطات الحوثيين عن أعداد أخرى بتكتّم، بعد توقيعهم على تعهد بعدم العودة إلى صفوف التنظيم.
عموماً، تم إطلاق سراح حوالي 70 شخصا بهذه الطريقة خلال عام 2022، وذكر أحد المفرج عنهم - نُقل بدايةً إلى صنعاء من سجن خارج العاصمة - أن سلطات الحوثيين سلّمت كل سجين مُفرج عنه 10 آلاف ريال يمني، في محاولة واضحة لتغيير انطباعهم عن جماعة الحوثيين.
كان الحوثيون مُدركين جيدا أن عددا من العناصر المفرج عنهم سيعودون إلى صفوف تنظيم القاعدة، رغم أخذ تعهدات منهم وحصولهم على ذلك المبلغ.
إذ لا يرى الحوثيون مصلحة حاليا في استمرار اعتقال هؤلاء العناصر لا سيما بعد تمكنهم من استعادة أسراهم لدى فرع تنظيم القاعدة في اليمن، وبعد سقوط محافظة البيضاء – أهم معقل لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب منذ عام 2017 – في أيدي قوات الحوثيين منذ عام 2021.
رغم هذا، لا يزال العشرات من مقاتلي تنظيم القاعدة في جزيرة العرب يقبعون داخل سجون الحوثيين – مع إمكانية إطلاق سراح بعضهم مستقبلا، تحسبا لحاجة الجماعة لإبرام صفقات من هذا النوع مع التنظيم.
من جانبها، حاولت الحكومة اليمنية تأجيج الموضوع وتسليط الضوء على هذا التواصل الظاهر للعلن بين الحوثيين وتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، إلا أنها بالغت في حملاتها، كالادعاء بعض الأحيان بأن شخصيات من القاعدة قاتلت في صفوف جماعة الحوثيين.
لا يوجد أي دليل على هكذا تعاون، وتنفي مصادر داخل فرع التنظيم في اليمن هذا الأمر مشيرة إلى أن ذلك يظهر في جهود التنظيم لوقف تقدم الحوثيين في البيضاء وموقفه الرسمي الذي ينظر إلى الحكومة والقوات السعودية والقوات المتحالفة مع الإمارات كأهون الشرّين.
لكن رغم الشواغل الواضحة التي تظهر في مساعي تنظيم "القاعدة" خلال الأشهر الأخيرة لنفي التواطؤ مع إيران، يبدو أن العدو الأول الفعلي للتنظيم في المرحلة الراهنة هو المجلس الانتقالي الجنوبي وداعميه.
خلال هذا العام، عزّز أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب خالد باطرفي نبرته المعادية لإيران في خطاباته، إلاّ أن التوجه الأساسي المناهض للمجلس الانتقالي الجنوبي في سياسة التنظيم الحالية يبقى جلياً.
فتحيّز فرع تنظيم القاعدة في اليمن الواضح إلى التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين ظل محصورا فقط في المراحل الأولى من الحرب.
الخلاصة
كثيرا ما تبودلت الاتهامات من الأطراف بالتعاون مع تنظيم القاعدة خلال فترة الحرب، بل بُنيت هذه الادعاءات في بعض الأحيان على أساس من الصحة.
ففي بداية الحرب، قاتل عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب إلى جانب الحكومة، لا سيما في عدن ومأرب، على اعتبار أن جماعة الحوثيين المتحالفة مع إيران تشكل تهديدا أكبر مقارنة بعدوه الرئيسي حتى تلك اللحظة - المملكة العربية السعودية.
في ضوء هذا السياق، توقفت أيضا العمليات الأمريكية ضد فرع التنظيم في اليمن، لكن سرعان ما شهدت قدرات تنظيم القاعدة تراجعاً كبيراً في مواجهة نَهج إدارة الرئيس الأمريكي السابق ترامب الذي أعاد إحياء السياسة الأمريكية لعهد بوش المتمثلة في استهداف تنظيم القاعدة في جزيرة العرب كجزء من الحرب على الإرهاب.
واصل التنظيم محاربة تقدم الحوثيين في البيضاء، لكنه حوّل تركيزه لاحقا إلى معركة جديدة ضد المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في المحافظات الجنوبية (بعد تأسيس المجلس عام 2017).
كما أدى تنامي نفوذ القيادي المصري سيف العدل (المقيم في إيران) على قيادة فرع التنظيم في اليمن إلى تعزّز الآراء داخل التنظيم التي تعتبر الولايات المتحدة والسعودية والإمارات والحكومة اليمنية العدو الأكبر.
في الآونة الأخيرة، رفعت قيادة تنظيم القاعدة في جزيرة العرب من نبرتها المعادية لإيران والحوثيين إدراكا منها للانتقادات التي تطالها من عناصرها، إلا أن هذه النبرة تنحصر غالباً في إطار نهج خطابي لا أكثر.
على أرض الواقع، يظل الخصم الرئيسي للتنظيم هو المجلس الانتقالي الجنوبي، لا سيما بعد أن فقد (أي التنظيم) القدرة على المناورة في شبوة عقب طرد القوات الموالية للإصلاح في أغسطس/ آب 2022، والحملات التي شنها المجلس الانتقالي الجنوبي لاحقاً في أبين والتي استهدفت خصيصا تنظيم القاعدة.
يبقى التوتر المستمر بين تنظيم القاعدة والمجلس الانتقالي الجنوبي هو المشهد الأكثر ديناميكية على المدى القصير إلى المتوسط، لا سيما بالنظر إلى مساعي المجلس الانتقالي الجنوبي المتكررة لتقديم نفسه كحكومة منتظرة في جغرافيا دولة الجنوب سابقا، ومحاولته الفاشلة حتى الآن لطرد القوات الموالية للإصلاح من حضرموت والمهرة.
غيّر تنظيم القاعدة سياسته العملياتية عدة مرات منذ شن التحالف بقيادة السعودية التدخل العسكري في اليمن عام 2015، حيث حوّل (أي التنظيم) تركيزه مباشرة من استهداف السعودية وحلفائها اليمنيين إلى استهداف قوات الحوثيين - لكن هذا لم يدم طويلا -.
بعد طرده من المكلا عام 2016، بدأ تنظيم القاعدة يتعامل مع الإمارات وحلفائها كعدو لا يقل خطورة عن الحوثيين، بينما بقيت سياسته تجاه القوات الموالية للسعودية كما هي حتى عام 2017، حين كثفت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حملات استهداف عناصر تنظيم القاعدة في جزيرة العرب لفترة من الوقت في اليمن.
تغيرت سياسة تنظيم القاعدة مرة أخرى بعد اجتياح التشكيلات المدعومة إماراتياً شبوة وأبين في عام 2022، وطردها القوات الموالية للإصلاح، لتبرز الإمارات كعدو أول.
صعّد التنظيم هجماته ضد التشكيلات الموالية للإمارات في المحافظتين، مع تنامي الخطاب المعادي للإمارات من الزعيم الحالي للتنظيم خالد باطرفي وقياديين في التنظيم مثل أبو علي الحضرمي. وجاءت الرسالة التحذيرية للقبائل في تلك المناطق واضحة: سيستهدف التنظيم كل من يعمل لحساب الامارات.
مركز صنعاء للدراسات الإستراتيجية