الترابط الاقتصادي بين اليمن ودول الخليج العربي تعززه الجغرافيا وتمايزه الطبوغرافيا وتدعمه الديموغرافيا، وله عمقه التأريخي الممتد لآلاف السنين حتى العصر الحديث، ويمكن تناول العلاقات الاقتصادية اليمنية الخليجية من خلال مكوناتها المختلفة والتي تتضمن: الحركة التجارية (إستيرادا وتصديرا)، وحركة الاستثمار ورأس المال (تدفقا وتسربا)، وحركة القوى العاملة "المغتربين" وسوق العمل الخليجي، والتعاون والدعم التنموي بين اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي، وواضح أن طبيعة الترابط بين الجانبين تختلف من مكون إلى آخر، وتتأثر كليا أو جزئيا بمدى التوافق أو التباعد السياسي بينهما، وأيضا، بالمتغيرات والأحداث السياسية في المنطقة، ولذلك تتسم العلاقات الاقتصادية بين الجانبين بالتعقيد والغموض تارة وبالسهولة واليسر تارة أخرى.
ويمكن القول أن اليمن يمثل العمق الاستراتيجي لدول الخليج العربي لما يتميز به من الكثافة السكانية وحجم قوة العمل التي تحتاجها الاقتصادات الخليجية، إضافة إلى موقعه الاستراتيجي المطل على أحد أهم ممرات التجارة الملاحية العالمية وامتداد حدوده الجغرافية من البحر الأحمر حتى البحر العربي، ورغم ذلك فإن الوفورات الإيجابية للإنتعاش الاقتصادي السائد في دول الجوار خلال العقود الماضية كانت عند حدها الأدنى، كما أن جهود إندماج اليمن في إطار مجلس التعاون الخليجي ظل موضوعا مغيبا عن اهتمامات دول المجلس، واقتصر على العضوية في مؤسسات هامشية وبعيدة عن المجال الاقتصادي والتجاري والاستثماري.
إن المستجدات الراهنة والتوقعات المستقبلية لاقتصادات المنطقة عموما، تحتم المراجعة الموضوعية لواقع العلاقات الاقتصادية اليمنية الخليجية بهدف التعرف على مناطق الضعف والقوة في تلك العلاقات وتحديد التهديدات والتحديات المؤثرة في مساراتها وتبيان الفرص الممكنة لتطويرها في الآجال المتوسطة والبعيدة.
أولا: التجارة البينية
لقرون عديدة، ومنذ {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} كان الميزان التجاري "الفرق بين الصادرات والواردات" لصالح اليمن في تجارته مع مناطق شبه الجزيرة العربية، وجاء اكتشاف البترول في منطقة الخليج العربي والسعودية ليغير تلك المعادلة، وخاصة بعد الطفرة النفطية عقب حرب أكتوبر 1973، فقد تزايدت الواردات السلعية من دول الخليج العربي إلى اليمن، إبتداء من عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وخاصة بعد إنشاء المنطقة الحرة، دبي، وأصبح الميزان التجاري لصالح دول الخليج، فاليمن يستورد العديد من السلع الاستهلاكية ومن الآلات والمعدات ومن المشتقات النفطية وغيرها، سواء كانت خليجية المنشأ أو المعاد تصديرها، ويأتي في مقدمة الدول المصدرة الإمارات والسعودية، وفي مقابل ذلك تصدر اليمن سلع محدودة وتشكل نسبة ضئيلة من حجم الواردات.
وخلال الخمسة عقود الماضية، ظلت حركة التجارة والاستيراد من دول الخليج تنمو باضطراد ولم تتأثر بالأزمات التي مرت بها العلاقات السياسية بين الجانبين، كما حدث في عام 1990، عقب غزو العراق للكويت، فرغم توتر العلاقات بين اليمن ودول الخليج واتخاذ الأخيرة إجراءات صارمة ضد اليمن، شملت ترحيل مئات الآلاف من المغتربين اليمنيين، معظمهم في السعودية، وتجميد القروض والمساعدات التنموية، إلا إن تدفق التجارة السلعية ظلت مستمرة من تلك البلدان إلى اليمن، وهذا له دلالة مهمة في السياسات التجارية لدول الخليج والقائمة على تعظيم مصالحها الاقتصادية بعيدا عن المواقف السياسية، فحجم السوق اليمني مهم لاستمرار النشاط الصناعي أو التجاري فيها، حيث يبلغ سكان اليمن قرابة 30 مليون نسمة ويعتمدون في سد احتياجاتهم الأساسية وغيرها على الاستيراد من الخارج والذي يغطي أكثر من 90 من احتياجات السكان، كما أن الجوار بين الجانبين ساعد في نمو وتوسع التجارة بينهما عبر البر أو البحر أو الجو، وبحكم الحدود البرية المترامية الأطراف أو الحدود البحرية، فإن التجارة البينية تمارس على المسارين الرسمي وغير الرسمي "التهريب"، وكل الدلائل تبين أن التهريب يشكل نسبة مقدرة من حجم التبادل التجاري بين الجانبين،
إتجاهات التجارة البينية.
يمكن الإشارة إلى بعض البيانات الرسمية الواردة في التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2014، "قبل الحرب"، فقد بلغ حجم الواردات السلعية من دول الخليج إلى اليمن قرابة 3.9 مليار دولار، مع تفاوت ملحوظ بين الدول، فالإمارات حصلت على حوالي 46% من حجم الواردات، بينما بلغ نصيب السعودية 27%، ثم الكويت بنسبة 20%، والنسبة المتبقية توزعت بين عمان وقطر والبحرين.
كما تشير تلك البيانات إلى أن اليمن يأتي في المرتبة الرابعة بين الدول العربية المستقبلة للواردات الإماراتية بعد كل من السعودية وعمان وقطر، مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للسوق اليمني في الشراكة التجارية بين اليمن والإمارات،
وبالمقابل، لم تبلغ الصادرات اليمنية إلى دول الخليج في نفس العام سوى 750 مليون دولار، وتتوزع الصادرات اليمنية بين السعودية (41%)، والإمارات (28%)، والكويت (20%)، والنسبة المتبقية لدول الخليج الأخرى، وواضح أن حجم الصادرات اليمنية إلى دول الخليج تشكل فقط خمس الواردات منها، مما يعني أن الميزان التجاري يميل لصالح دول الخليج والتي استحوذت على حوالي 85% من حجم التجارة البينية بينها واليمن، وهذا يعود إلى التفاوت الكبير في هيكل الإنتاج الصناعي بين الجانبين، رغم أن نسبة مقدرة من حجم الصادرات الخليجية إلى اليمن تندرج تحت ما يسمى إعادة التصدير، ويكون منشاؤها دول أخرى، اليابان أو الصين مثالا.
وخلال فترة الحرب والصراع في اليمن (2015 - 2022)، تأثر حجم التجارة بين اليمن ودول الخليج بشكل نسبي، فرغم تدخل دول التحالف فيها، وتحديدا السعودية والإمارات، وفرض الحصار البري والبحري والجوي على سلطة صنعاء، إلا أن السلع المستوردة من دول الخليج استمرت في التدفق عبر المنافذ البرية أو عبر الموانىء البحرية، ووجدت طريقها إلى كل المحافظات اليمنية، بما فيها الواقعة تحت نفوذ سلطة صنعاء والتي يقطنها قرابة 70% من السكان، ويمثلون سوقا استهلاكية واسعة للمنتجات الخليجية.
وباستخدام بيانات التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2023، يلاحظ أن حجم الواردات من الاقتصادات الخليجية إلى اليمن تراجعت إلى 1.6 مليار دولار، أي أنها تراجعت بحوالي 60% عنما كانت عليه في عام 2014، "قبل الحرب"، ورغم هذا التراجع وفقا للبيانات الرسمية، فإن السوق اليمنية استمرت عامرة بكل السلع الاستهلاكية، الأساسية والكمالية، إضافة إلى السلع من الآلات والمعدات وغيرها، ولم يواجه المستهلك اليمني أي ندرة في السلع المستوردة لدى المحلات التجارية، مما يدل على أن حركة تدفق السلع التجارية عبر الحدود البرية والبحرية، إلى حد ما، بين اليمن ودول الخليج، استمرت بالنمو والازدهار بصورة رسمية أو بشكل غير رسمي "عبر التهريب".
وهنا يمكن القول أن أحد مكونات العلاقات الاقتصادية اليمنية الخليجية ظلت تنمو بوتيرة معقولة خلال العقود الماضية دون أن تتأثر بالتقلبات والأزمات بين الجانبين، وستستمر في النمو والتوسع في الفترات المستقبلية، فاليمن تمثل سوقا استهلاكية واعدة ومتنامية، وتبين التحليلات الاحصائية أن يمكن أن يتضاعف عدد سكان اليمن خلال عقدين من الزمن، وهناك حرص شديد من الدول الخليجية على استمرار التجارة السلعية بينها واليمن وبقية الدول الأخرى لأهمية المساهمة الإيجابية للتجارة في تعزيز فرص النمو الاقتصادي وتنشيط القطاعات الاقتصادية المختلفة، ولذلك تعمل تلك الدول على إزالة القيود التي تعيق حركة التجارة وتحييدها عن أوجه الصراع أو الخلافات البينية لضمان تدفق السلع المصدرة منها بكل سهولة ويسر.
ثانيا: المغتربون وسوق العمل الخليجي
تميزت الشخصية اليمنية عبر مراحل التأريخ بالنزوع إلى الهجرة والبحث عن فرص الرزق وتحسين مستوى المعيشة عبر العمل الدؤوب في مجالات التجارة أو الأعمال المهنية وغيرها، فمنذ قرون مضت، وصل المهاجرون اليمنيون إلى جنوب شرق آسيا وإلى وسط وشرق أفريقيا، وخلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تزايدت هجرة اليمنيين بشكل ملحوظ وبمعدلات عالية إلى دول الخليج العربي، وخاصة إلى سوق العمل السعودي، حيث كان المهاجر اليمني مستثنى من نظام الكفالة التي اعتمدته الحكومة السعودية في عام 1951، مما أتاح الفرصة لمئات الألاف من المغتربين اليمنيين من ممارسة العديد من الأنشطة التجارية والمهنية دون قيود أو عوائق مقارنة بالوافدين من دول أخرى.
وفي تلك الحقبة، كان لتحويلات المغتربين إلى الداخل اليمني دورا إيجابيا ومؤثرا في توازن ميزان المدفوعات وفي استقرار سعر صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية، كما ساهمت تلك التحويلات في تحسين مستوى معيشة الملايين من أفراد أسر المغتربين ومكنتهم من امتلاك أصول مالية وعقارية في الريف والحضر، وساعدت في تمويل مشاريع تنموية في التعليم والصحة والمياه والطرقات وغيرها في عموم المحافظات.
وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المغتربين اليمنيين في السعودية، بلغ حوالي 1.5، الكويت مليون شخص مع نهاية عقد الثمانينياتْ بينما كان أعدادهم في دول الخليج الأخرى، والإمارات، بعشرات الآلاف، وكل الشواهد تؤكد أن القوى العاملة من المغتربين اليمنيين ساهمت بشكل فعال في حركة البناء والتشييد التي شهدها الاقتصاد الخليجي بعد الطفرة النفطية من خلال تنفيذ المشاريع التنموية في مختلف القطاعات.
ومع مطلع عقد التسعينيات، تعرضت العلاقات بين اليمن ودول الخليج إلى إنتكاسة كبيرة، عقب غزو العراق للكويت، فبسبب موقف اليمن المحايد من تلك الأزمة، اتخذت دول الخليج إجراءات عقابية عديدة، فقد أجبرت ما يقارب من 800 إلى 900 ألف مغترب يمني، معظمهم في السعودية، على العودة إلى بلادهم، كما أوقفت منح تأشيرات الدخول للمغتربين، وكان لتلك الإجراءات تبعات اقتصادية كارثية، حيث تراجعت بشكل كبير تحويلات المغتربين وتوقفت السحوبات من القروض والمساعدات الخليجية، ونتيجة لذلك واجه الاقتصاد اليمني أزمة حادة خلال الفترة 1990-1995، وترافق ذلك مع بروز أزمة سياسية داخلية أدت إلى إندلاع الحرب بينهما في صيف 1994، مما فاقم من سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بسبب زيادة معدلات التضخم وتدهور قيمة الريال اليمني.
وبعد إنتهاء الحرب الداخلية، تشكلت حكومة جديدة بهدف معالجة الأزمة الاقتصادية وتحسين العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجوار وفي مقدمتهم السعودية، وقد تعزز التقارب اليمني السعودي بتوقيع مذكرة التفاهم بين البلدين بشأن ترسيم الحدود بينهما، وتحسنت العلاقات أكثر بعد توقيع إتفاقية الحدود عام 2000، مما خفف التوتر وفتح المجال لتحسين العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين اليمن ودول الخليج، وترافق مع ذلك الإعادة التدريجية لفتح الباب أمام الأيدي العاملة اليمنية للهجرة إلى دول الخليج، وتحديدا إلى السعودية، ولكن بشروط وضوابط جديدة تضمنها قانون نظام الكفالة في كل دول الخليج، أبرزها ضروة توفر الكفيل الخليجي لأي شخص يرغب في العمل في دول الخليج.
وخلال الفترة 2000-2014، لم تتزايد معدلات الهجرة إلى السعودية كما كانت في السابق، وذلك يعود إلى تحسن الأوضاع الاقتصادية في اليمن من جانب وإلى صعوبة العمل والمنافسة للمغترب اليمني في السعودية مع العمالة الوافدة من الهند وبنجلادش وغيرها، فالإحصائيات تشير إلى أن عدد المغتربين في السعودية بلغ عام 2010 قرابة 850 ألف مغترب، أي حوالي نصف ما كان عليه الوضع قبل عام 1990، ورغم ذلك ظلت تحويلات المغتربين تشكل مكونا مهما في ميزان المدفوعات، وتشير تقديرات البنك المركزي اليمني إلى أن قيمة تحويلات المغتربين خلال الفترة 2000-2010 تراوحت بين 3 إلى 4 مليار دولار سنويا، رغم أن تقديرات البنك الدولي تضعها عند الضعف من ذلك، وهذا ما ساعد في استقرار سعر الصرف خلال الفترة 2000-2014، بالإضافة إلى المكونات الأخرى مثل عوائد صادرات النفط والغاز والسحوبات من القروض والمساعدات الخارجية لليمن.
الهجرة في ظل الحرب
خلال فترة الحرب 2015-2022، تضاعف عدد المغتربين في السعودية عنما كان عليه الوضع قبل الحرب، فبيانات الإحصائيات السكانية في السعودية لعام 2022، تبين أن حجم العمالة الوافدة من اليمن بلغ 1.8 مليون شخص ويمثلون 13.5% من مجموع الوافدين الأجانب، وتأتي الجالية اليمنية بالمرتبة الرابعة بعد الهند وبنجلاديش وباكستان، ويرجع ذلك إلى السياسات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة السعودية لمعالجة وتصحيح الأوضاع القانونية لإقامة المغتربين اليمنيين، إضافة إلى فتح المجال لجذب العمالة اليمنية من الشباب رغم إرتفاع تكاليف التأشيرات ورسوم الإقامات وغيرها، ويمكن القول أن تحويلات المغتربين، خلال فترة الحرب ساعدت في الحفاظ على استقرار سعر الصرف للريال اليمني، وخاصة في مناطق صنعاء، ذلك أن نسبة عالية من المغتربين ينحدرون من تلك المناطق والتي تشكل قرابة ثلثي السكان، كما أن البنك المركزي بصنعاء لا يمتلك الاحتياطيات من النقد الأجنبي حتى يجعل سعر الصرف مستقرا خلال الأربع السنوات الماضية.
وبالتأكيد، فإن المغترب اليمني يواجه تحديات صعبة للعمل في السوق السعودي، منها نظام سعودة الوظائف أي منع الوافدين من ممارسة العمل في وظائف معينة والتي تزداد وتتغير كل فترة وأخرى، إضافة إلى الرسوم الباهضة للإقامة، وخاصة إذا رافق المغترب الزوجة والأولاد، فتصبح تلك الرسوم كابوسا تؤرقه وتستنزف كل مدخراته، والأمل معقود على صانعي القرار بالسعودية لإعادة النظر في الوظائف المسموحة للوافد اليمني، وأيضا في رسوم الإقامة وتخفيفها أو إلغائها على المغترب اليمني، بحكم عوامل الجوار والترابط الاجتماعي والثقافي بين المجتمع اليمني والسعودي.
ويلاحظ أن الهجرة إلى السعودية، في الوقت الراهن، انتشرت بين أوساط الشباب المؤهل تعليميا والحاصلين على مؤهل الثانوية أو الجامعة، وفتحت مجالا أمام الشباب الباحث عن فرص العمل ولم تتوفر له بالداخل وخاصة أثناء الحرب، وهذا مؤشر لنوعية الطلب على القوى العاملة في السوق السعودي أو الخليجي بشكل عام، وهذا يتطلب من الجانب الحكومي اليمني أن يتخذ سياسات وإجراءات تهدف إلى تحسين وتطوير جودة التعليم في مراحله المختلفة، وخاصة التعليم الجامعي، حتى تكون مخرجات المؤسسات التعليمية ملبية لمتطلبات سوق العمل المحلي والإقليمي، فالاقتصاد السعودي، مثلا، لديه خطط مستقبلية طموحة لا تتطلب، بالتأكيد، إلى القوى العاملة المؤهلة والمدربة من فئة الشباب.
ولذلك، يعول على هذه الشريحة من الشباب اليمني أن تكون قادرة على اكتساب المهارات الفنية والتقنية حتى تساهم بشكل فعال في النشاط الاقتصادي والتجاري، محليا وإقليميا، ويكون لها دور فاعل في تحسين مستوى الدخل والمعيشة ورفد الاقتصاد الوطني عبر التحويلات النقدية إلى الداخل اليمني.
ثالثا: التعاون التنموي
بعد إعلان ثورة سبتمبر عام 1962، تباينت مواقف دول الخليج نحوها، فالكويت كانت السباقة في تقديم الدعم التنموي لليمن وأرسلت أول بعثة رسمية إلى صنعاء في عام 1963م، لتقييم الاحتياجات التنموية للدولة الوليدة، وكان ثمرة ذلك بناء العديد من المشاريع التنموية خلال عقد الستينيات، شملت مجالات التعليم والصحة وغيرها في معظم المحافظات.
وبالمقابل، خلال عقد الستينيات، ظلت السعودية تقدم الدعم للطرف المعادي للثورة، وتأجيج الحرب الأهلية بين الجمهوريين والملكيين، وحيث أن قيادات الأطراف المتحاربة كانت عند مستوى المسؤولية فقد جنحوا للحوار وتوافقوا على تحقيق المصالحة والسلام بينهما في عام 1970، حينها بداءت السعودية في تقديم الدعم التنموي والمالي للحكومة اليمنية في صنعاء.
وبعد الطفرة النفطية، عام 1973، زادت وتيرة الدعم التنموي من كل من الكويت والسعودية والإمارات عبر صناديق التنمية التابعة لهم، بما في ذلك صناديق التمويل الإقليمية، مثل الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والبنك الإسلامي للتنمية، واستمر ذلك الدعم خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات، حيث أنجزت العديد من المشاريع التنموية في قطاعات التعليم والصحة والطرقات والكهرباء والمياه وغيرها، "من أبرزها، جامعة صنعاء، محطات الكهرباء في الحديدة والمخا وسد مأرب"، وقد كان لذلك الدعم التنموي أثرا بالغا في تطوير معالم الحياة الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية للمواطنين في معظم مناطق البلاد.
تحديات الوحدة
بعد إعلان الوحدة اليمنية في مايو 1990، أصيب التعاون التنموي بين اليمن الموحد ودول الخليج بإنتكاسة كبيرة عقب غزو العراق للكويت، في أغسطس 1990، بسبب موقف اليمن المحايد من الأزمة، وفُسر حينها أنه تنكر لعمق العلاقات الأخوية بين اليمن والكويت ودول الخليج الأخرى، وكرد فعل لذلك، اتخذت دول الخليج إجراءات قاسية ضد اليمن شملت ترحيل مئات الألآف من المغتربين اليمنيين، معظمهم من السعودية، وتجميد برامج الدعم التنموي من القروض والمساعدات المقدمة من صناديق التمويل الخليجية، إضافة إلى العزلة السياسية لليمن مع دول الإقليم، وقد نتج عن تلك الإجراءات، بالإضافة إلى عوامل داخلية أخرى، بروز أزمة اقتصادية حادة خلال النصف الأول من عقد التسعينيات.
وخلال الفترة 1995-2000، عملت الحكومات المتعاقبة على معالجة تلك الأزمة بالعمل على أكثر من مسار، أولهما: تحسين التقارب اليمني السعودي بتوقيع مذكرة التفاهم بين البلدين بشأن ترسيم الحدود بينهما، وتعززت العلاقات أكثر بعد توقيع إتفاقية الحدود عام 2000، مما خفف التوتر بين اليمن ودول الجوار الخليجية، وخاصة دولة الكويت، وفتح المجال أمام تطوير العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية بين اليمن ودول الخليج، وعادت صناديق التنمية الخليجية، باستثناء الكويت، إلى تقديم القروض والمنح لليمن، وإن كانت بشكل محدود، وفي المسار الآخر تم التوافق مع كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على تقديم الدعم الفني لمساعدة اليمن في تبني وتنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري مصحوبا ببرنامج التمويل المالي لدعم مشاريع التنمية ومعالجة العجز في ميزان المدفوعات، وتمكنت الحكومات اليمنية، حينها، من تحقيق التعافي الاقتصادي والاستقرار المالي والنقدي، والولوج إلى عتبات الألفية الثالثة بعلاقات مثمرة مع دول الجوار وبتحسن في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واستقرار نسبي في الأوضاع السياسية والأمنية.
خطط التنمية والدعم الخليجي
خلال الفترة 1996-2014، أقرت الحكومات اليمنية المتتالية، أربعة خطط تنموية، وعقدت أربعة مؤتمرات للمانحين، (في بروكسل، 1997، وفي باريس، 2002، وفي لندن، 2006، وفي الرياض، 2012،) بهدف حشد الموارد لتمويل المشاريع التنموية في تلك الخطط، وبلغ إجمالي تعهدات المانحين في تلك المؤتمرات حوالي 18.4 مليار دولار، وشكلت مساهمات دول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي والبنك الإسلامي للتنمية وصندوق الأوبك، قرابة 50 % من تلك التعهدات، إلا أن تخصيص التعهدات في تمويل المشاريع التنموية، تفاوت بشكل كبير، فخلال تلك الفترة، تمكنت اليمن من تخصيص كل تعهدات السعودية والكويت وعمان، بينما لم يتم تخصيص أي مبالغ من تعهدات الإمارات وقطر، وظلت تعهداتهم معلقة وشبه مجمدة، كما أن اليمن لم تتمكن من استغلال كل تلك القروض والمساعدات، بسبب القدرة الاستيعابية المحدودة للاقتصاد، وبسبب عوامل أخرى تتعلق بالجوانب القانونية والمؤسسية في أجهزة الدولة. وبالمقابل تم تخصيص كل تعهدات الصندوق العربي في مشاريع تنموية مختلفة أبرزها مشروع محطة الكهرباء الغازية الأولى والثانية بمأرب بالشراكة مع الصندوق السعودي، ومشاريع المياه والصرف الصحي والجسور والأنفاق في العاصمة صنعاء، إضافة إلى مشاريع الطرق الرئيسية والفرعية في معظم المحافظات.
تداعيات الحرب
مع إندلاع الحرب في 2015، جمدت الدول الخليجية والجهات المانحة الأخرى القروض والمساعدات التنموية لليمن، ولم يتم الاستفادة من تعهدات المانحين في مؤتمر الرياض 2012، والتي بلغت 8 مليار دولار، وخلال فترة الحرب، 2015-2022، ساهمت الدول الخليجية وبشكل متفاوت في دعم خطط وبرامج الاحتياجات الإنسانية والإغاثية، إما عبر منظمات الأمم المتحدة أو من خلال المنظمات الخيرية التابعة لها. كما ساهمت دول التحالف "السعودية والإمارات" بالإضافة إلى الكويت في تمويل مشاريع تنموية محدودة في مناطق سلطة عدن، شملت قطاعات التعليم والصحة والطرقات والمياه وغيرها، ومن المفارقات، أن دول التحالف كانت تدمر المرافق والبنية التحتية بالغارات الجوية من جانب، وتقدم المساعدات الإنسانية لبعض مناطق اليمن من جانب آخر.
رابعا: سراب الإنضمام إلى مجلس التعاون الخليجي
ظل موضوع إنضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي مادة إعلامية ولم تتخذ خطوات عملية لإندماج الاقتصاد اليمني في اقتصادات الخليج، واقتصر إنضمام اليمن إلى بعض المنظمات المتخصصة في إطار مجلس التعاون وتشمل مجالات التعليم والصحة والعمل والرياضة والتقييم والمحاسبة والبريد، وكلها منظمات هامشية وبعيدة عن الشأن الاقتصادي والتجاري والاستثماري وغيرها.
وخلال عام 2005، رُفع شعار "اليمن والخليج: من الجوار إلى الشراكة والإندماج" وقدمت اليمن الخطة العشرية 2006-2015 لتحسين مستوى التنمية البشرية في اليمن إلى قيادة السعودية، بهدف تأهيل الاقتصاد اليمني للإنضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، وتضمنت توجهات استراتيجية أهمها:
- تأهيل تنموي شامل لتحسين مستوى التنمية البشرية في اليمن إلى المستوى السائد في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي بحلول عام 2015.
- تأهيل الاقتصاد اليمني بهدف إيجاد مناخ وبيئة مواتية لتشجيع الاستثمار المحلي والخليجي والدولي.
كما أن منطلقات الخطة العشرية كانت قائمة على أن اليمن يواجه تحديات وصعوبات كبيرة تعيقه عن إمكانية تحسين مستوى التنمية البشرية، وأن إندماج الاقتصاد اليمني مع اقتصادات دول مجلس التعاون يمثل "فرصة" وقيمة مضافة للتنمية والاستقرار في المنطقة وليس "عبئا" عليها.
وفي نهاية عام 2005، صدر بيان قمة دول مجلس التعاون الخليجي ليؤكد على "دعم تمويل المشاريع التنموية في اليمن، والتوجه لعقد مؤتمر لاستكشاف فرص الاستثمار في الجمهورية اليمنية".
ومتابعة لذلك، أقر وزراء الخارجية لدول المجلس وبمشاركة وزير الخارجية اليمني تشكيل اللجنة الفنية اليمنية الخليجية المشتركة، يرأس الجانب اليمني نائب وزير التخطيط والتعاون الدولي ويرأس الجانب الخليجي الأمين العام المساعد لمجلس التعاون، مهمتها القيام بدراسة الاحتياجات التنموية لليمن للفترة 2006 ــ 2015م، ولهذا الغرض تقوم بالإعداد لمؤتمرات المانحين، ومتابعة تنفيذ المشاريع التي تم التعهد بتمويلها. وتجتمع اللجنة بصفة دورية بالتناوب بين الرياض وصنعاء.
وخلال الفترة 2006-2014، مثلت اللجنة الآلية المناسبة لمعالجة التحديات والمعوقات التي تواجه عملية تخصيص تعهدات المانحين من جانب وتسريع السحوبات لتنفيذ المشاريع الممولة من دول المجلس، كما ساهمت اللحنة في اقتراح الحلول المناسبة لاستيعاب القروض والمساعدات الخارجية وتسريع الصرف على المشاريع المتفق عليها.
وبالمقابل، فإن اللجنة أخفقت في تقديم التصورات لتأهيل اليمن للإندماج في اقتصادات دول مجلس التعاون، رغم الإصرار المتكرر للجانب اليمني على ذلك، بل إن الجانب الخليجي كان يرفض مطلقا حتى ذكر كلمة "تأهيل الاقتصاد اليمني" في محاضر اللجنة، بحجة عدم وجود قرارات أو توجيهات عليا بذلك، كما أن تمثيل دول مجلس التعاون في اللجنة لم يكن من المستويات الإدارية العليا أو من متخذي القرار في مؤسساتهم، مما أثر على نوعية القضايا المطروحة للنقاش وعلى مستوى تنفيذ قرارات وتوصيات اللجنة.
ومع إندلاع الحرب المدمرة لأكثر من 8 سنوات، ودخول دول التحالف "السعودية والإمارات" طرفا فيها، أزدادت هوة التباعد اليمني الخليجي، واتسعت فجوة التنمية بين الاقتصاد اليمني واقتصادات دول الخليج، مما يجعل فرص التقارب والإندماج صعبة المنال، ناهيك، أن القرار السياسي الخليجي غير وارد في هذا الأمر، وقد يبرر البعض أن صعوبة إنضمام اليمن إلى مجلس التعاون يعود إلى طبيعة النظام السياسي المختلف عن الجيران وإلى الاضطرابات السياسية المتكررة وإلى ندرة الموارد التي تجعله بعيدا عن مستوى النمو الاقتصادي والاجتماعي السائد في دول الخليج.
خامسا: حركة الاستثمار الخليجي في اليمن
يمثل الاستثمار الأجنبي المباشر أحد الركائز الأساسية لتمويل المشاريع التنموية في الاقتصاد، وقد كانت الكويت السباقة للاستثمار المباشر في اليمن خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، من خلال الشركة الكويتية للاستثمارات العقارية، وتركزت تلك الاستثمارات في العاصمة صنعاء، كما أن السعودية كان لها استثمارات مباشرة محدودة في قطاع الطيران من خلال المساهمة في رأس مال الخطوط الجوية اليمنية، وخلال تلك الفترة، لم تعرف أي استثمارات مباشرة لدول الخليج الأخرى، مثل الإمارات أو قطر أو غيرها، رغم الفرص الاستثمارية المتاحة في قطاع الزراعة أو الصناعة أو الخدمات الأخرى.
وبعد تحقيق الوحدة المباركة في عام 1990، لم يشهد الاقتصاد اليمني أي مساهمات خليجية جادة في مجال الاستثمارات المباشرة، باستثناء استثمارات محدودة في قطاع النفط، ومن جانب آخر، تم تجميد بعض المشاريع الاستثمارية الكويتية، بسبب الأزمة المرافقة لغزو العراق للكويت، وتم تصفيتها في وقت لاحق.
وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة، ساد جو من التفاؤل في انتعاش فرص الاستثمارات الخليجية في اليمن، توج بعقد مؤتمر فرص الاستثمار في صنعاء، عام 2007، بالتنسيق بين الحكومة اليمنية والأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي، حيث تم عرض حوالي 35 فرصة استثمارية واعدة في قطاعات النفط والطاقة والصناعة والسياحة والنقل وغيرها، بلغت قيمتها بحدود 7 مليار دولار. وللأسف، لم يتحقق منها شيء، ويعود ذلك إلى أن المستثمر الخليجي لديه خيارات واسعة للاستثمار في اقتصادات أخرى، بالإضافة ألى العديد من العوائق التي لا توفر البيئة الملائمة والحاضنة للاستثمار الوطني أو الأجنبي.
ورغم ذلك، تدفقت بعض الاستثمارات الخليجية في قطاع النفط أو في المنطقة الحرة، عدن، من خلال الشراكة الاستثمارية بين اليمن والإمارات لتطوير وتشغيل ميناء الحاويات، والتي كانت، للأسف، نموذجا للاحتيال والإهمال، فقد تراجع نشاط الميناء بصورة مخيفة مقارنة بما كان عليه الوضع قبل الشراكة، مما دفع الحكومة الإئتلافية، 2011-2014، إلى إلغاء إتفاقية الشراكة مع شركة موانىء دبي القابضة، بعد تكبد اليمن خسائر فادحة جراء تلك الإتفاقية.
وخلال فترة الحرب أنهالت على اليمن تدفقات من نوع آخر، في شكل غارات وقذائف وصواريخ من دول التحالف دمرت جزءا كبيرا من الاستثمارات العامة والخاصة في مختلف القطاعات. وحسب تقديرات البنك الدولي، فإن إعادة الإعمار لما دمرته الحرب وتعافي الاقتصاد الوطني تتطلب استثمارات عامة بحوالي 54 مليار دولار واستثمارات خاصة بحدود 46 مليار دولار، ولذلك تقع على دول التحالف المسؤولية التأريخية والأخلاقية للمساهمة الفاعلة في عملية إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد اليمني في الآجال المتوسطة والبعيدة.
وبالمقابل، توضح البيانات أن الاستثمار اليمني المباشر في الدول الخليجية تزايد بوتيرة ملموسة خلال العقود الماضية، وتحديدا في الإمارات والسعودية، من خلال استثمارات القطاع الخاص اليمني أوالمغتربين اليمنيين في تلك الدول، خاصة بعد تعديل القوانين والإجراءات الهادفة إلى إزالة العوائق أمام المستثمر الأجنبي في السعودية وتقديم الحوافز التشجيعية المتعلقة بالإقامة الدائمة أو الجنسية للمستثمرين الوافدين، وهنا يمكن القول أن الدول الخليجية أصبحت منافسا قويا لجذب استثمارات المغتربين التي كانت في السابق تتدفق إلى الداخل اليمني، مما تسببت في تعميق حالة الركود التي يعيشها الاقتصاد الوطني والذي يعاني من تحديات جمة جراء الحرب العبثية لقرابة عقد من الزمن.
وختاما، فإن تمتين العلاقات الاقتصادية، بمساراتها المتعددة، بين اليمن ودول مجلس التعاون الخليجي، في المستقبل المنظور، تتطلب جهودا فائقة يبذلها الجانب اليمني، وتشمل توافق أطراف الحرب والصراع على الإنتقال إلى مرحلة السلم والاستقرار لليمن الجمهوري الموحد، واعتماد برنامج تنموي شامل لإعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي ووضع الأسس المتينة لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتنفيذ إصلاحات جوهرية في المجال الاقتصادي والإداري، وإيجاد بيئة حاضنة وملائمة للاستثمار الوطني والخارجي، ولا بد أن تترافق هذه الجهود مع تعاون ودعم دول الجوار الخليجي، وعلى رأسها دول التحالف "السعودية والإمارات" لحشد الموارد اللازمة لتمويل برامج التنمية وإعادة الإعمار، بالتنسيق والشراكة مع المانحين من الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها البنك الدولي والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، باعتبارها أهم الممولين لعملية التنمية خلال الثلاثة عقود الماضية.
المد والجزر في العلاقات الاقتصادية اليمنية الخليجية.. دروس الماضي وتداعيات الحرب والآفاق المستقبلية