27 سبتمبر 2024
25 سبتمبر 2024


1- تنصير

عشت أول خمس سنوات من حياتي في القرية (بني الحسام)، تفاصيل كثيرة أتذكرها، في الجبال والحقول والناس؛ لكن أول موضوع أتذكره -عن اليمن والشأن العام- في ذلك العمر المبكر بداية التسعينات؛ هو 26 سبتمبر.

تصبح القرية حالكة الظلمة منذ غروب الشمس فلا كهرباء ولا ضوء سوى فوانيس خافتة أهتدي بها لمكان النوم بعد أكل وجبة لا أراها جيدا.

ذات ليلة سمعت أمي تسأل إخوتي الكبار إلى أين؟ ردوا بحماس: طالعين ننصر.. كان تقليد التنصير (مشتق من النصر وهو إشعال نار كبيرة في أعالي الجبال غالبا تتوقد من إشعال إطارات قديمة لسيارات يتم الصعود بها بمشقة سيزيفية) كان تقليدا يقام كل سنة في ليلة ذكرى الثورة.

غادر الإخوة ولم يسمحوا لي بالصعود الشاق معهم لصغر سني وبعد شدي إلى داخل المنزل بيديّ أمي الحبيبة ثم إغلاق الباب قمت بمظاهرة احتجاجية في الفناء الداخلي للمنزل، حاولت أمي مراضاتي ثم غادرت ولحقتها خوفاً إلى الغرفة ولأواصل الاحتجاج ظللت أبكي في ركن الغرفة إلى أن رأيت زجاج النافذة يحمر، نهضت لأرى، فكان ليل القرية البهيم يضاء من عدة قمم تحتضن قريتنا.

لا يكتفي اليمنيون بالشعلة الرسمية في العاصمة والمدن فكل جبل هو شعلة بحد ذاته.. كان مشهدا مهيبا لم أكن أعرف أبعاده الوطنية والتاريخية لكن عينيّ ذلك الطفل كانتا تلمعان بشعلتين صغيرتين وفي الرأس تنمو شعلة مقدسة.

2- من الجبال للساحات

في المدينة -عدن- بعد عدة سنوات قلت لأبي: الليلة بأنصر." ضحك وتساءل: فين؟ مافيش جبال بحي المنصورة! ثم أكمل مشاهدة التلفاز بأسى حيث إيقاد الشعلة الرسمي الباهت في خضم انهيار الزمن الجمهوري!

رديت على تساؤل أبي: سأصعد لسطح العمارة بإطار سيارة وأحرقه. قال لي وهو جاد في كلامه: كنا ننصر عندما كنا نشعر بانتصار الثورة وكان للتنصير معناه.. الآن محتاجين لثورة جديدة تعيد الاعتبار لأهداف سبتمبر.

كان هذا في مطلع الألفية... وبعد قرابة عقد زمني واحد من تلك الكلمات، كانت الإطارات المشتعلة قد نزلت من كل الجبال لتملأ شوارع المدن الثائرة.

3- بردوني

قبل ذلك وكان عمري 6 سنوات، لي قصة عجيبة مع سبتمبر كان بطلها البردوني!

مبدؤها أني وفي طفولتي المبكرة كنت أكره الشعر، أحببت كرة القدم أكثر. يا لتلك الطاقة التي لا تنتهي طوال النهار في ساحة المدرسة ثم ملاعب الحواري.. أعود للمنزل مغرب كل يوم مغبرا كالحا من الشمس والملاعب الترابية لأجد دواوين الشعراء من امرؤ القيس حتى نزار مرورا بأهم شاعر يمني وعربي دواوينه ذات القطع الصغير، أقصد الدواوين الـ12 لعبدالله البردوني؛ أجدها في كل مكان ببيتنا. كرهت البردوني على وجه الخصوص.

حاليا حاولت أكتب قصائد حداثية للأطفال (ضمن مشروع كبير في أدب الطفل) فجوبهت بالرفض من أغلب المجلس الاستشاري الطفولي المكون من أولاد وبنات إخوتي وأصدقائي. قال لي صديق ناقد وبحسم: "المفهوم الشعري لا يدركه الأطفال. هم يريدون الإيقاع." ما علاقة هذا بالبردوني وسبتمبر؟ سأقول الآن!

ذات يوم رأيت أمام مقيل أبي ديوان عنوانه مركبا غريبا (ترجمة رملية لأعراس الغبار) سأفترض أننا كنا في شهر الغبار الذي يحجب سماء عدن أقصد أغسطس الذي ولدت فيه. الغبار يملأ الشوارع وأنا بملل وفضول أفتح أول صفحة من هذا الكتاب الذي شدتني إليه كلمة الغبار وربما الأعراس! أو ربما يد إلهية قادتني لهذا العالم العجيب المسمى بالشعر أو يد شيطانية.

المهم... وجدت في أول صفحة أبيات إيقاعها مختلف عن كل القصائد البردونية التي أسمع الكبار حين يرددونها دون أن أفهم شيئا فأزداد نفورا من البردوني والشعر.

هذه المرة كانت القصيدة بعنوان (خاتمة ثورتين) الأبيات الأولى تقول:

يا سبتمبر/ قُل لأكتوبرْ/ كُلٌّ مِنَّا أمـسى في قبرْ

بـين القـبرين/نحو الـشِّبرين/ أترى الحفار أطال الـشَّبرْ؟

أسرعتُ أنا/ ولحقتَ على/ خطِّ المجرى، طلَّقتَ الصبرْ


لاحظوا البردوني هنا يستخدم إيقاعا مركبا أقرب إلى الأهازيج الشعبية - والموشحات- بقواف داخلية في كل بيت ما يجعل موسيقى الأبيات أكثر تطريبا شدت الطفل الذي كنته، فسمعني أبي أرددها ويا لسعادته وورطتي.

ككل الآباء يضخمون أبسط ما يقوم به أولادهم كان أبي يقول لأي زائر أو ضيف: آدم يحفظ شعر البردوني فتبدأ جلسة تسميع ثقيلة أردد فيها الأبيات ولا داري ما المقصود بها المهم أن يفخر أبي بطفله الذي يحفظ لشاعره المفضل ولو اقتصرت على أبيات: يا سبتمبر قل لأكتوبر..إلخ

ثم كبرت وأحببت الشعر وعرفت مقصد القصيدة وليتني لم أعرف ولم أكبر.

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI