"أردت فتح مشروع خاص بي (بوفية، أو صالة رياضية نسائية) لاستكمال دراستي الجامعية فلم استطع نظراً للظروف المادية الصعبة، فقررتُ العمل في حافلة لنقل الركاب".
بهذه الكلمات تحكي (سُهى الأشعري في العقد الثاني من العمر) من محافظة عدن تجربتها النادرة والاستثنائية والمتمثلة بالعمل في حافلة لنقل الركاب في مجتمع ذكوري حدد للمرأة أدواراً معينة وحصرها في زاوية ضيقة لكسب العيش وفقاً لأعراف مجتمعية تقيدها، وبالرغم من ذلك كان لأسرتها دوراً لمنحها الثقة لخوض هذه التجربة.
لم تستطع "سُهى" مواصلة تعليمها الجامعي تخصص طب بشري بسبب صعوبة الظروف، فقررت العمل في التمريض إلى جانب نقش الحناء، ثم انتقلت إلى العمل في إحدى الإذاعات تسجيل برامج ولمدة عامان، وعندما أرادت فتح مشروع آخر تعثر بسبب الإيجار وغلاء الأسعار، وبعد ذلك اتجهت للعمل في حافلة لنقل الركاب من مديرتي الشيخ عثمان و دار سعد بمحافظة عدن جنوبي اليمن.
تتابع سُهى "اخترت أن أعمل كسائقة حافلة بعد أن طرقت تجارب مختلفة ولم تسعني الظروف للعمل فيها، قد يبدو هذا العمل استثنائياً بالنسبة للمرأة في مجتمعنا، ولكنها رحلة للبحث عن لقمة العيش بالحلال".
وتؤكد أن عملها ساعدها على تحقيق الاستقلال المالي، وشراء احتياجاتها وأسرتها، واكسبها ثقتها بنفسها تضيف"كان هدفي الاستقلال المالي من خلال مشروع لا يحاسبك فيه أحد، وعندما بدأت العمل، شعرت أنه من الممكن تحقيق هذا الهدف، فلا شيء يضاهي شعور الاستقلالية وامتلاك مشروع تكون فيه سيد نفسك".
شباب على رصيف البطالة
وجدت "سُهى" نفسها كغيرها من الشباب على رصيف البطالة جراء تفاقم الوضع الاقتصادي في اليمن والذي أثر على حياة المجتمع بشكل عام والشباب بشكل خاص لكن وبرغم من مرارة الظروف التي وقفت عائقاً أمامها إلا أنها تخطت جميع تلك العوائق بدعم أسرتها ومساندتهم.
واجهت سُهى انتقادات من بعض الأشخاص الذين يرون أن العمل في هذا المجال مخالف للعادات والتقاليد، فيما البعض يثنون عليها ويشجعونها تقول" لا تخلو الطريق من الكلمات الجارحة من البعض فالعمل في هذا المجال لن يكون سهلاً، ولكني تجاوزت كل ذلك بدعم ومساعدة أسرتي و تغلبت عليها بالثقة واللامبالاة ولم أسمح لتلك التعليقات السلبية أن تؤثر علي، ونظرت لهذا العمل من كسب العيش الحلال، فقد اردت أن أكون مثالاً للمرأة القوية التي تستطيع التغلب على التحديات، وبكل استقلالية".
في ذات السياق تقول المحامية عفراء الحريري " إن البيئة المحيطة بالنساء تسمح لهن لمزاولة هذه المهنة، خصوصاً إذا كان المجتمع يشجع البحث عن لقمة العيش بطرق مسموحة و محلله مع وجود قانون يسمح بذلك".
"كما يجب أن تمتلك المرأة القدرة والإرادة لمواجهة التحديات التي قد تنجم عن هذه المهنة بالإضافة لثقتها بنفسها في جميع الأحوال والظروف"، بحسب الحريري.
فرص تتحدى التوصيفات النمطية
يشكل الشباب والفتيات في اليمن غالبية القوى العاملة في المجتمع المدني، وعلى الرغم من أن الفتيات يعيشن في بلداً يسوده الاقتتال و النزاع، وتنعدم فيه فرص العمل، إلا أنهن أظهرن انفسهن وزاولن أعمالاً ومهن كانت حكراً على الرجال في مجتمع ذكوري، وبهذا تحدين التوصيفات النمطية التي تمارس ضدهن.
ويقول الصحفي الاقتصادي ماجد الداعري " إن الأزمات فرضت على الجميع تحديات مصيرية للبقاء والحصول على قوت الحياة الضرورية، وكانت الفتاة من أكثر المتضررين باعتبار المجتمع مازال ذكوري يحارب المرأة التي وجدت نفسها مضطرة لمنافسة الرجال والعمل في مهن كانت حكرا على الذكور ومنها قيادة باصات نقل جماعي لإثبات وجودها وتقرير مصير حياتها وأسرتها".
"لدى سهى الرغبة في توسعة هذا المشروع بإمتلاك عدد من الباصات مخصصة لنقل النساء فقط، وتوظيف قريناتها من الفتيات فليس هناك أفضل من باص آمن تقلك فيه فتاة عند الذهاب إلى مشاوير مختلفة فهو مشروع جيد" حد تعبيرها.
إن قوة الشباب محدودة بسبب الافتقار إلى الفرص لتحسين ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن تساعدهم على تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وبناء مشاريعهم التي تحقق لهم الاكتفاء الذاتي، ومن المهم مراعاة المراحل الحياتية والتجارب المختلفة للشباب اليمني من قبل الأسرة والمجتمع ودعمها للتغلب على الظروف المحيطة بهم.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن اليمن شهد انخفاضاً بنسبة 54% في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي الحقيقي ما بين عامي 2015 و2023، حيث أضحى اليمنيين في دائرة الفقر، وأثر انعدام الأمن الغذائي على نصف السكان.
ومع استمرار الأزمات الاقتصادية تواجه النساء اليمنيات تحديات جمة أبرزها ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، توازياً مع عدم وجود فرص للتوظيف وغيرها من التحديات التي تفاقم معاناة النساء.
يوضح الداعري" في مجتمع فقدت فيه الفتيات الأمل بإمكانية إيجادهن فرص عمل أخرى تضمن لهن ولأسرهن حياة كريمة وعدم الانحراف والوقوع في مستنقع الاستغلال لحاجتهن، يلجأ الفتيات لأعمال ذكورية يأسا من وجود دولة يمكنها أن تمنحهن أي حقوق أو فرص كونها اليوم عاجزة عن إدارة البلد".
تختم "سُهى" كلامها برسالة إلى النساء وتقول " في العمل يجب مراعاة الخوف من الله، والحفاظ على الضوابط وتعاليم المجتمع، ووجود القوة والإرادة، ولا تسمحن للظروف والتقاليد أن تمنعكن من العمل، ولا تسمحن لأحد باستغلالكن".
تستطيع "سُهى" اليوم شراء كل ما تحتاجه هي و أسرتها، ولا تنتظر المساعدة من أي شخص، ولن تسمح لأحد باستغلالها، في بلداً تتوالى فيه الأزمات ووجد الفتيات فيه انفسهن بدون فرص عمل، ولم يقتصر أثر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة والفقر المستوطن في اليمن على فئة الشباب خاصة والفتيات عامة فقط، ولكن المختلف هو الطريقة التي تؤثر بها عليهم، وعلى الدولة توسيع البرامج التعليمية والتدريبية وتوفير فرص عمل لهن لتلبي احتياجاتهن الخاصة وأسرهن، وحمايتهن من أي استغلال.