في مرتفعات محافظة إب اليمنية، تَهُبُ نسمة هواء باردة على وادٍ كان ذات يوم منسياً. الأرض التي تلاشى لونها وتشققت بفعل سنوات الجفاف، باتت اليوم تتلألأ باللونين، الأخضر والذهبي. يتمايل الشعير تحت شمس الصباح، وتحوم النحل فوق الأزهار البرية. هذه ليست صورة على بطاقة بريدية من جنة بعيدة – بل قصة نهوض من أرض خيم عليها الصمت بفعل الحرب ونُدرة المياه وظروف الطقس القاسي.
يقف عبدالعزيز، البالغ من العمر 45 عاماً، في منتصف هذا المشهد، ويظلل عينيه بقبعة القش. يقول: "كنت أستيقظ على صمت مطبق: لا شيء سوى الغبار والرياح الجافة. أما الآن، أستيقظ على منظر زاخر بالألوان".
يحمل صوته ثقل سنوات قضاها وهو يشهد وطنه يذبل أمامه. كان عبدالعزيز عاملاً مهاجراً في السابق بالمملكة العربية السعودية، ثم عاد إلى اليمن عام 2017 خلال فترة الحرب، بحثاً عن الأمان ومعنى للحياة. لكنه وجد دماراً واسعاً، وانهياراً اقتصادياً، وحقولاً قاحلة، وقرية شفير الاستسلام.
يتذكر قائلاً: "كانت هناك أيام لم يستطع فيها جيراني شراء الخبز. الناس كانوا يأكلون بعد اقتراض الطحين وما يمكن إيجاده من بقايا الطعام. كانت لدينا أرض، لكنها بلا فائدة. فبدون الماء، لا يمكن أن يكون هناك أمل".
في بلد يعاني فيه أكثر من 17 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويواجه أكثر من 15 مليون شخص صعوبات في الحصول على المياه وخدمات الصرف الصحي، كانت قرية عبدالعزيز، "الحجر"، انعكاساً لأزمة على مستوى الوطن فقد تضرر قطاع الزراعة، الذي يدعم حوالي 70% من السكان، بشدة جراء سنوات الصراع، والأمطار غير المنتظمة، والاستخدام غير المستدام للمياه الجوفية. وأصبحت الزراعة بمياه الأمطار غير مضمونة، ومع غياب نظام ري جيد، لم يكن أمام المزارعين سوى مشاهدة أراضيهم تجف تحت حرارة الشمس المتصاعدة.
لكن ذلك تغيّر في عام 2024، عندما تم تنفيذ نظام مائي يعتمد على جاذبية الأرض – وهو مبادرة من المنظمة الدولية للهجرة تهدف إلى تجميع مياه الينابيع والأمطار وتوزيعها على السكان مستفيدة من الانحدار الطبيعي في التضاريس. نظام بسيط ومستدام يُديره المجتمع، ويُمثل حلاً ذكياً لتغير المناخ في الذي يمثل أزمة متفاقمة.
يقول صالح تيسير، مهندس المياه والصرف الصحي الميداني في المنظمة الدولية للهجرة، الذي أشرف على المشروع: "استخدمنا تصميماً يعتمد على طبيعة التضاريس. حيث أنشأنا خزاناً من الخرسانة المسلحة متصلاً بنبع جبلي، ثم مدّدنا قناة توزيع تجري كالنهر عبر أراضي القرية الزراعية. لا ديزل، لا مضخات – فقط الجاذبية والتنسيق".
لكن، وكما يوضح صالح، فإن العنصر الأهم لم يكن الهندسة فقط – بل المشاركة المجتمعية. "لم نبنِ نظاماً فقط، بل جددنا الأمل واستمعنا إلى الناس. كل متر من هذه القناة خُططَ بمساعدة المزارعين. وهذا ما جعل المشروع ناجحاً."
أصبح عبدالعزيز متطوعاً في مجال الحشد المجتمعي، وساهم في توحيد جهود المجتمع – حيث نظم الاجتماعات، وساهم في حل النزاعات على الأراضي، وشجع الناس على المشاركة. ويقول: "كان الناس متشككين في البداية، لكن عندما رأوا الماء يجري، بدأوا يؤمنون من جديد".
أحدث المشروع تحولاً حقيقياً.
يسير عبدالعزيز بين الحقول التي تزخر الآن بالشعير الأخضر وصفوف من شُجيرات الطماطم. ويشير إلى المحاصيل قائلاً: "كانت هذه أرضاً ميتة، والآن تُطعم عدة عائلات، أحد جيراني حصد أكثر من 25 كيساً من الشعير، تكفيه لعام كامل."
"خلال موسم واحد فقط، وجدت كل أسرة تقريباً في القرية وسيلة جديدة لكسب الرزق. بعضهم زرع البطاطس، وآخرون البامية، وبدأ عدد منهم ببيع الخضروات في السوق المحلي. يقول عبدالعزيز، وقد أضاءت الابتسامة وجهه: "شعرت بشعور رائع عندما رأيت الفرح في أول موسم حصاد. لأول مرة منذ سنوات، لم نكن نكافح للبقاء فقط – بل لنحيا حياة كريمة".
يوضح عبدالعزيز لنا أنه ولفترة طويلة، كانت الأسر هنا تقيس المياه بالدقائق. "عشر دقائق لكل أسرة في الأسبوع خلال موسم الجفاف"، ويضيف: "هذا كل ما كان لدينا. تخيل أن تضطر للاختيار بين الشرب أو سقي محاصيلك".
اليوم، وبعد تخزين المياه وتوزيعها بكفاءة، أصبح شعورنا تجاه الوقت مختلف. يقول عبدالعزيز: "لم أعد مضطراً لجلب الماء قبل الفجر. أقضي ذلك الوقت الآن في الحقول، مع أطفالي".
إعادة إحياء قرية الحجر ليس فقط انتصاراً محلياً – بل تذكير بما هو ممكن عندما يُمنح المجتمع الأدوات اللازمة لمواجهة الصدمات المُناخية بشكل مباشر. اليمن هو ثالث أكثر البلدان عرضة لتأثيرات تغير المناخ. ففي عام 2024 وحده، نزح أكثر من 538,000 شخص بسبب صدمات مناخية مثل الفيضانات والجفاف. وهناك حاجة ملحة إلى حلول عملية قائمة على الموارد والتضاريس الطبيعة.
يُظهر هذا المشروع كيف أن المياه – وهي المورد الأساسي للحياة – يمكن أن تدعم الحياة بأكثر من طريقة. حيث يمكنها أن تحفظ الكرامة، وتعيد بناء سبل العيش، وتجلب الطمأنينة بعد سنوات من اللايقين. بدلاً من انتظار صهاريج المياه أو انتظار هطول الأمطار، يستخدم المزارعون الآن نظام ري خاص بهم، وتديره لجنة مائية محلية تم تدريبها على استدامته.
يقول صالح: "هذه ليس مجرد هندسة – بل هو صمود، وطريقة المجتمعات للتكيّف".
اليوم، يستفيد أكثر من 11,000 شخص من هذا النظام، وهناك خطط لتوسعته. تُجلب المواد من مصادر محلية، والتكنولوجيا المستخدمة مُنخفضة التكاليف، والمنهجية قابلة للتكرار في المناطق الريفية التي تواجه تحديات مماثلة. التعاون بين الوكالات الإنسانية والخبراء الفنيين وسكان القُرى مثل عبدالعزيز، دليل على أن الحلول المؤثرة لا تولد في عزلة عن بيئتها، بل من خلال الشراكات.
ومع دخول الصراع في اليمن عامه الحادي عشر، يبدو الأمل بعيد المنال. وما يزال السلام هشاً، والاحتياجات مستمرة في التزايد. لكن في هذا الوادي الهادئ في إب، هناك شيء آخذ في التحول.
يقول صالح: "قبل هذا النظام، كانت 90٪ من الأراضي هنا جافة. والآن تنتج الغذاء، وتدعم العائلات، وتُعيد الكرامة. أخبرني أحد المزارعين: ’لم أعد أخاف المطر – بل أدعو الله أن يهطل علينا، وهذا، بالنسبة لي، هو التغيير الحقيقي".
ينظر عبدالعزيز إلى التلال الخضراء المتدرجة أمامه ويقول:"لا أريد لأطفالي أن يرثوا الجفاف. أريدهم أن يرثوا الأمل. كانت هذه الأرض صامتة. واليوم، تهمس لنا، وتنبت المحاصيل، وتعطينا الغذاء. كل ما احتاجته هو الماء".
في اليوم العالمي للبيئة 2025، الرسالة واضحة: عندما نستثمر في الطبيعة وفي الإنسان، لا نستطيع مواجهة تغيّر المناخ فحسب – بل نغرس بذور الأمل. قصة عبدالعزيز هي قصة واحدة فقط، لكنها تعكس تجارب الملايين في اليمن الذين يواصلون زرع الصمود في وجه الأزمات.
يختم عبدالعزيز قائلاً: "قناة المياه هذه بالنسبة لنا أكثر من مجرد جزء من بٌنية تحتية. إنها شريان حياة – للأرض، ولأطفالنا، ولمستقبلنا".
المصدر:IOM YEMEN