يعيد مقتل جندي وإصابة آخرين بمحافظة أبين (جنوب اليمن) على يد تنظيم "القاعدة" يوم الجمعة بالأنشطة المتكررة للتنظيم في بقع جغرافية معينة في البلاد من دون أخرى تعزز من الفرضيات التي تربط نشاطه وفق نهج سياسي.
الهجوم الذي جرى في منطقة أورمة التابعة لمديرية مودية استهدف بمكمن نفذه مسلحون تابعون لتنظيم "القاعدة" دورية عسكرية تابعة للواء الثالث الموالي للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يتبنى مشروع فك الارتباط بين جنوب وشمال اليمن.
وأسفر الهجوم عن مقتل الجندي شكري اللحجي وجرح قائد السرية الأولى في الكتيبة الثالثة حنش الكلدي اليافعي، وذلك عقب اشتباكات عنيفة بين الطرفين نتج منها بالمقابل سقوط عدد من المهاجمين بين قتلى ومصابين.
وبين حين وآخر تشهد محافظة أبين المحاذية للعاصمة الموقتة عدن تكرر أنشطة التنظيم المحظور دولياً بعمليات هجومية خاطفة ومباغتة، يسقط ضحيتها جنود وضباط في القوات اليمنية في المحافظة التي بات الحضور الأبرز فيها للمجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يتزعمه عضو مجلس القيادة الرئاسي المعترف به دولياً عيدروس الزبيدي.
لماذا الجنوب اليمني؟
ومنذ ظهور تنظيم "القاعدة" نهاية ثمانينيات القرن الماضي مثل اليمن الوقود الأبرز لمفاعيل انطلاق هذا المشروع لعوامل عدة ليس لموقعه الجغرافي وثقة المؤسس أسامة بن لادن في العنصر اليمني فحسب، ولكن لهدف جهادي عقائدي مبدئي لدى التنظيم تمثل بمساعي فرض سطوته على جنوب اليمن خلال تجربة حكم اليسار تحت عنوان مكافحة المد الشيوعي.
وعلى رغم تغيير وجهة التنظيم إلى أفغانستان والسودان كحاضنتين بديلتين عقب توحيد اليمن عام 1990 وإسقاط تجربة العهد الاشتراكي جنوباً بقوة السلاح على يد نظام الرئيس علي عبدالله صالح وحلفائه الإخوان المسلمين عام 1994، فإن نشاط التنظيم لم يكف عن مشروعه السابق، وبين وقت وآخر يعاود نشاطه حصراً في المناطق الجنوبية التابعة لسيطرة الحكومة الشرعية المعترف بها، متى ما استدعت الحاجة لدى محركيه ودافعيه وفي أبين تحديداً.
يقول الباحث السياسي محمد الصعر إن تنظيم "القاعدة" لم يتم القضاء عليه ولهذا فعودة نشاطه من جديد كانت متوقعة لعوامل عدة.
ويرى الصعر في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن عملية أبين أمس والتحركات الأخيرة "تأتي تفعيلاً للخلايا النائمة لـ'القاعدة' واختباراً لقدراتها استغلالاً لحال الصراع السياسي الذي يعم مجلس القيادة الرئاسي والانفلات الأمني الذي يشوب المناطق التابعة للحكومة، كون مناطق الحوثي مجالاً حصرياً له لا يسمح أن ينازعه فيها أحد فيما الحكومة منشغلة بأزماتها الذاتية المتعددة".
ونتيجة لسلسلة من التخادمات يتوقع أن تشهد الفترة المقبلة عمليات انتقامية ضد قوات المجلس الانتقالي الذي تولى مهمة محاولة اجتثاث التنظيم الإرهابي في فترات سابقة كونه يمتلك القوة والإرادة العسكرية لهذه المهمة الشاقة، ولذلك يسعى "القاعدة" إلى هزه وإحداث زلزال بداخله، إضافة إلى ما يمكن تصنيفه ضمن التحرك السياسي المنسق مع القوى المناوئة للمشروع الإيراني في اليمن.
اتفاق وتنسيق
ولم تكن هجمات الجمعة الأولى من نوعها في أبين التي ينتمي إليها ثلاثة من رؤساء اليمن التاريخيين، وهم سالم ربيع علي (سالمين) وعلي ناصر محمد، وعبدربه منصور هادي، بل سبقتها محاولات عدة تعزى وفق مراقبين إلى الأهمية الجيوسياسية التي تتميز بها كونها بوابة عدن الشرقية ولديها شريط ساحلي طويل يطل على أهم الممرات البحرية العالمية في المحيط الهندي على رغم سلسلة العمليات العسكرية التي شُنت ضده منذ 2015 على يد قوات الحزام الأمني مسنوداً بالتحالف العربي التي أسهمت في تشتيت قواه من دون القضاء عليه تماماً.
وبالكشف عن دلالات انتشار أنشطة التنظيمات الإرهابية في مناطق سيطرة الشرعية والنأي عن مناطق من لا تتماثل معها أيديولوجياً كالحوثيين، سبق واتهمت الحكومة اليمنية الحوثيين بدعم الجماعات الإرهابية والتخادم معها في مناطق الحكومة اليمنية، بهدف تقويض السلطات ونشر حال عدم الاستقرار في المناطق التي طُردوا منها.
وكشفت الحكومة الشرعية على لسان رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي في فبراير/شباط 2023 عن امتلاكها "أدلة توثق تخادم ميليشيا الحوثي مع تنظيم 'القاعدة'"، وهي إشارة ضمنية إلى تبني عمليات ضد الحكومة الشرعية والقوات التابعة لها. ويومها قال العليمي في جلسة حوارية أجراها على هامش المؤتمر الـ59 للأمن بمدينة ميونيخ الألمانية، إن الاتفاق بين الحوثيين و"القاعدة" "تضمن الإفراج عن عشرات المحكومين بقضايا الإرهاب بمن فيهم متهمون بتفجير البارجة الأمريكية (يو أس أس كول)، التي كانت ترسو بميناء عدن في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2000 وأسفرت عملية 'القاعدة' حينها عن مقتل 17 بحاراً أمريكياً".
وكشف عن أن الحوثيين "يمولون عناصر 'القاعدة' بالمال والسلاح ويوجهونهم لمناطق سيطرة الحكومة الشرعية ليزايدوا لاحقاً بوجود الإرهاب في مناطق الحكومة".
الصومال دور مقبل
ونتيجة لعوامل محلية ودولية جديدة لا يزال لتنظيم "القاعدة" الذي اتخذ تسمية جديدة هي "أنصار الشريعة" وجود قوي في اليمن على رغم الحملة المكثفة التي تشنها منذ 10 أعوام كل من القوات اليمنية والطيران الأميركي والتحالف العربي، مستغلاً في ذلك حال الفوضى التي تعيشها البلاد ووجود مساحات شاسعة خالية في جنوب اليمن، إضافة إلى عامل آخر تعززت أهميته أخيراً ويتمثل في تنامي قدرات "الشباب المؤمن" في الصومال القريبة من السواحل اليمنية، التي من الممكن أن تشكل همزة وصل واعدة لتنامي نشاط التنظيم في قادم الأيام.
و"أنصار الشريعة" اسم استحدثه التنظيم للمرة الأولى في يناير/ كانون الثاني عام 2009 بعد تصنيفه على قوائم الإرهاب العالمية، وعاد إلى استخدامه أخيراً عقب ارتفاع وتيرة الضربات التي تلقاها مسلحوه جنوب شرقي اليمن على يد قوات الحزام الأمني بدعم من التحالف العربي.
وعام 2012 أدرجت واشنطن "أنصار الشريعة" على قوائم الإرهاب كاسم آخر لتنظيم "القاعدة" في جزيرة العرب باليمن، واعتبرته "أخطر فروع التنظيم على مستوى العالم".
بالنظر إلى واقع الحال في اليمن فإن عوامل عدة تساعد على تنامي وتمدد نشاط "القاعدة" جنوباً حيث المساحات الجغرافية الشاسعة وضعف القبضة الأمنية وقدراتها المشتتة غير الفاعلة وانعدام القرار العسكري المركزي الواحد، في حين يشدد الحوثيون من قبضتهم الأمنية في المناطق التي يسيطرون عليها شمالاً للاستئثار بالساحة الأيديولوجية والفكرية والسياسية لصالح مشروعهم فقط، وهو ما يعني ارتفاع احتمال نجاح مساعي التنظيم إلى استعادة نشاطه في المنطقة العربية.
(اندبندنت عربية)