10 سبتمبر 2025
14 أغسطس 2025
يمن فريدم-اندبندنت عربية


على ظهر سفينة "كابيللا"، المتخصصة في مكافحة التلوث البحري، كان البحر هادئاً على غير عادته، بينما تعج السفينة بحكايات رجال ألفوا الموج كما يألفون أنفاسهم. كانت الجولة الصحافية فرصة لا تتكرر لسماع اعترافات البحارة، الذين يعيشون حياة لا تشبه أي شيء آخر، في واحدة من أكثر الفترات توتراً في تاريخ الملاحة، على خلفية تصاعد الهجمات على السفن التي أودت بحياة بحارتها، ودمرت ناقلات وغرقت أخرى، فيما ظل هؤلاء الرجال هنا، في الموج، يرفعون "نخب الحياة"، أثناء مهمة تمرين روتيني اعتاد "مركز الالتزام البيئي" تنظيمها بين حين وآخر في المياه السعودية.

كانت السفينة، مثل "حارة" نجيب محفوظ في عالم مواز، لا يشبه كثير منها ما ألفناه في الحياة على اليابسة من الظروف والطبائع. هنا ينام الرجال ويستيقظون على وقع الأمواج والذكريات، وتتداخل الوحدة مع الشجاعة، والغربة مع الانتماء، والمرح بالقسوة.

كان القبطان أرسينيو أيغوت واقفاً على الحافة، يحدق في الأفق الأزرق، ثم استدار إلي وابتسم كما لو أن الكلام ثقيل لكنه لا بد أن يقال. رفع يده، وكأنها نخب، وقال بصوت فيه رجفة دفء: "الحياة، لنرفع لها نخباً، إنها هنا شيء آخر. على اليابسة، أنت حر، يمكنك أن تخرج، أن تمشي، أن ترى السماء من أماكن مختلفة. أما هنا، فأنت مثل السجين، ثلاثة أشهر على هذه السفينة لا تبرح مكانك. نحن نأكل معاً، ننام متجاورين، نعمل معاً، وفي كل لحظة نعرف أننا معاً أو لا شيء".

توقف قليلاً في حديثه مع "اندبندنت عربية"، ثم أكمل بصوت أخفض "الإنترنت يجعلنا نعيش. نرى أطفالنا، زوجاتنا، نستمع إليهم ونحن نحتسي قهوة الصباح على متن السفينة. هذا وحده يجعل الألم أخف، نحن هنا لنرسل المال لهم في الفيليبين أو كوريا. ربما لسنا أحراراً، لكننا قادرون على أن نمنحهم حياة أفضل".

"هيأت قلبي لهذا لكن ميلاد ابنتي يكسرني"

وحين سألناه إن كان صعباً عليه أن يغيب كل هذا الوقت، ضحك بصوت خافت، وقال: "نحن نهيئ عقولنا قبل أن نركب البحر، نعرف أن العيد سيأتي ونحن هنا، وأن أطفالنا سيكبرون ونحن بعيدون، نهيئ قلوبنا لهذا. في البداية كان الأمر صعباً، لكن الآن اعتدنا. ومع ذلك، عندما يحين عيد ميلاد ابنتي، أو ذكرى زواجي، أو حفلة تخرج ابني، يوجعني قلبي وتكسرني الذكريات. لكني أخفيه، وأعود لأنظر إلى البحر. هذا عملي، والبحر لا ينتظر أحداً".

ليس سهلاً وأنت أب أو حتى أخ، أن تسمع آهات رجل بلغ الـ60 في خضم الأمواج، وهو يتحسر غيابه عن لحظات أطفاله السعيدة، لذلك حولنا بوصلة الحديث إلى العمل ذاته، عن الخطر، وكأنه أخف وطأة على قسوته من العائلة، ولذلك رد بسرعة كما لو كان يضع الكلام على الطاولة: "أصعب ما نواجهه ليس القراصنة ولا الصواريخ، أصعب ما في البحر هو البحر نفسه. العواصف التي تهز السفينة كما لو أنها ورقة، أمواج تبقى لأيام تصفعنا ونحن نحاول أن نصمد، حتى في الميناء يطلبون منا أحياناً أن نخرج إلى البحر لأن الموج قد يحطم السفينة إن بقيت. نحن نراقب الطقس طوال الوقت، البحر لا يرحم من يغفل".

قام بجولة على خريطة بين يديه وحاول الشرح لنا، نحن صحافيي اليابسة، مستعيناً بصور علقت على الجدار لأطوار أمواج البحر من طبيعية إلى خطرة وصولاً إلى الكارثة، ثم قال "هل ترى كل هذه الأطوار؟ لم تهزمني، فقد كنت القبطان فيها والمساعد لسنوات عدة تعايشت معها، لكن ألم فقد الأسرة، يكذب من قال لك إن التعايش معه ممكن إلى ما لا نهاية، كلما ظننت أنك تأقلمت دهمتك مناسبة ليست في الحسبان تعيد بعثرة كل شيء"!

يتماسك قبطاننا ونحن في عرض البحر، ثم يستدرك "نعم هناك المخاوف الطبيعية الأخرى، نحن نخاف أحياناً، خصوصاً حين نسمع عن هجمات في المنطقة. لكن السعودية آمنة حتى الآن، وهذا يمنحنا الطمأنينة. أي تهديد للبحر هو تهديد لنا شخصياً، البحر حياتنا".

"كنا 18 ولم يصمد منا غير ستة بحارة"

إلى جانبه كان حمدان الصحفي، كبير المهندسين من شركة "سيل" البحرية، يستمع بصمت قبل أن يتنحنح ويبدأ بالكلام. صوته كان عميقاً، يحمل سنوات من التعب والفخر. قال "أنا هنا في البحر منذ 1997، كنت واحداً من أول دفعة سعودية صعدت ناقلات البترول بواسطة ’أرمكو‘. كنا 18 شاباً في أول رحلة، بعد أربعة أشهر أصبحنا ستة أشخاص فقط. البقية لم يحتملوا البحر، شيء ما في البحر يختبرك: العزلة، والوحدة، والعمل الشاق، والبحر نفسه، البحر لا يتركك كما دخلت".

حكى عن رحلاته إلى أمريكا وآسيا، وعن الليالي الطويلة التي لا ترى فيها سوى السواد والنجوم. ثم، بصوت خافت، روى القصة التي ظلت تثقل ذاكرته: "كان معنا بحار فيليبيني، أمضى أربعة أشهر هنا، زوجته أو خطيبته في الفيليبين كانت تكلمه دوماً، تقول له إنها تحتاج إليه ليبني لها بيتاً، وتطلب منه أن يمدد العقد شهراً آخر، ثم آخر، ثم آخر. ظل يمدد وهو يرسل لها راتبه كاملاً، يحرم نفسه من كل شيء من أجلها. بعد سنة تقريباً، قبل أن ينزل بيومين، اتصل بها ليبشرها بأنه قادم، فقالت له بهدوء: لا تأت. أنا مع رجل آخر الآن، كنت فقط أحتاج المال، كل شيء انتهى".

توقف حمدان، بلع ريقه، ثم تابع: "تلك الليلة لم نره كثيراً، جلس صامتاً، يدخن وينظر إلى البحر. في الصباح، لم نجده. لم يترك لنا شيئاً غير معطفه عند الحافة، ورسالة يشرح فيها مأساته التي كان يصارع مقاومته من دون أن ندري. ابتلعه البحر، البحر قاس، لكنه لم يكن أقسى مما فعلته تلك المرأة بالرجل المسكين، وإن كنا نحن العرب جعلنا نقول في ما بيننا هو لم يكن موفقاً في رد فعله، إذ انتقم من نفسه وحقق لها هي ما تريد، بينما كان بوسعه الخروج ومقاضاتها وعيش حياة أفضل، لكنها الأقدار".

الطعام ليس مضموناً والموسيقى ليست ترفاً

في المطبخ كان الطباخ أليفين مورال يراقبنا بصمت، وهو يقلب قدور الطعام. قال لنا بفخر مثل قائد كتيبة عاد منها للتو منتصراً "أنا مسؤول عن 17 رجلاً هنا، أحياناً لا يشعر أحد بي، لكني أعرف أن الطعام هو الشيء الوحيد الذي يبقيهم بشراً هنا. أعد لهم وجبات تعيد لهم إحساسهم بالحياة، ولو للحظات". يهمس إلى أذني بحار في الجوار أراد ألا يسمعه الطباخ، قائلاً بتحد "هل تعرف أهم شخص على السفينة"؟ فقلت له بالتأكيد القبطان ومشغل المكائن، لكنه أبى وأضاف "بل هو هذا الطباخ، لو شاء قتلهم بالجوع أو بوضع أي شيء في طعامنا، علينا جميعاً أن نكون ودودين معه".

عدنا للطباخ نخبره بما قال، فضحكنا جميعاً، ليعلق ساخراً وهو يرفع سبابته نحو البحار "كونوا حذرين مني".

في زاوية أخرى، جلس الشاب بوسون على صندوق خشبي، يعزف على غيتار قديم. كانت النغمات تنساب على الأمواج فتجعلها أليفة، ابتسم وقال: "كنت أعزف في شوارع مانيلا. هنا، لم أستطع أن أترك الغيتار. البحر جاد وصامت، والموسيقى تكسر هذا الصمت. تجعل السفينة أقل قسوة، تجعلني أشعر أنني ما زلت إنساناً، أنا وزملائي".

صدى هجمات "البحر الأحمر"

على رغم كل هذه القصص، كان واضحاً أن الخوف الحقيقي عندهم لم يكن من الموج وحده. الأخبار القادمة من البحر الأحمر والمحيط الهندي عن الهجمات، السفن التي دمرت، البحارة الذين ماتوا، والصواريخ التي أحرقت المراكب، كلها تجعل قلوبهم ثقيلة. قال القبطان: "أي تهديد للبحر هو تهديد لنا، البحر حياتنا، وإذا أصابه شيء، نحن أول من يتألم. إذا حدث تسرب نفطي، نحن أول من يذهب لتنظيفه، إذا كان المكان آمناً".

مع تضاعف أسعار التأمين، واضطرار بعض السفن إلى تغيير مساراتها والالتفاف حول رأس الرجاء الصالح لتجنب الخطر، ظل البحارة، فوق الماء، يقفون كل صباح على سطح السفينة، يتطلعون إلى الأفق نفسه، يروون القصص نفسها، ويعودون لأعمالهم كأن البحر قد أخذ منهم كل شيء إلا كرامتهم.

على ظهر "كابيلا"، لم يكن البحر مجرد عمل. كان مصيراً، كان قدراً اختارهم قبل أن يختاروه، فأصبحوا جزءاً منه، بين العواصف والوحدة، بين الحب المفقود والموسيقى، بين الخوف والصمود. ظلوا هنا، يرفعون رؤوسهم في مواجهة الموج، مهما كان الثمن.

كان فريق السفينة محظوظاً، إذ لم يقم حتى الآن بأكثر من تمرينات الاستجابة لتهديدات التلوث، التي ظل المركز الوطني للرقابة على الالتزام البيئي في السعودية ينفذها عبر أسطوله كل بضعة أشهر على البحر الأحمر والخليج العربي، بصورة روتينية.

لكن المنظمة البحرية الدولية، ومقرها لندن، التي تراقب المشهد الدولي بصورة أوسع، كشفت عن تطورات لا بد أن تلقي بظلالها على كل راكبي البحر في المنطقة، ولذلك راجعت أخيراً في اجتماعها السنوي قواعد السلامة، وشددت بعض اللوائح والقيود.

وعبر أمينها العام أرسينيو دومينغيز عن استيائه أمام مجلس المنظمة في السادس والسابع من يوليو/ تموز الجاري، من مقتل بحارة إصابة آخرين وتعرض أعداد أكبر للإرهاب والتهديد من جانب الحوثيين، وقال "البحارة الأبرياء والسكان المحليون هم الضحايا الحقيقيون لهذه الهجمات والتلوث الذي تخلفه، وأناشدكم جميعاً تكثيف الجهود، لأن الطريقة الوحيدة لمواجهة هذه الصراعات الجيوسياسية التي تخنق الشحن، هي الحوار".

بيانات المنظمة البحرية الدولية أوضحت أن 69 هجوماً استهدفت الشحن الدولي منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2024، لكن دومينغيز حذر من الصمت الطويل، الذي قال إنه "لا يعني انتهاء الخطر، بل ربما اختباؤه إلى حين"، مؤكداً أن المنظمة ستواصل إشراك كل الأطراف الممكنة لتخفيف التهديدات.
 

(مصطفى الأنصاري، محمد غرسان)

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI