مع موسم الأمطار وصدور تحذيرات للمواطنين بشأن المنخفضات الجوية، يحرص براء باسويدان، أحد سكان مدينة شبام التاريخية بمحافظة حضرموت شرقي اليمن، على تفقد سطح منزله وإجراء المعالجات اللازمة لتفادي تسرب المياه، الذي قد يؤدي إلى تشققات وشروخ في الأسطح والجدران، خصوصًا أن منزله مبني من الطين ويحتاج إلى ترميم دوري ومستمر.
يقول باسويدان لـ "يمن فريدم":
"أحرص على تفقد مزاريب الأسطح المسؤولة عن تصريف مياه الأمطار، وتنظيفها باستمرار من الأعشاب التي تجلبها الطيور أو أوراق الأشجار، حتى لا تتجمع المياه وتتسبب في تلف السطح والجدران".
ويضيف: "يقع منزلي في الجهة الجنوبية بمحاذاة سور المدينة، ما يجعله أكثر عرضة للأمطار، وأيضًا للهزات الأرضية في حال حدوثها، نظرًا لارتفاعه وبقية المنازل هناك، مقارنة ببقية المنازل وسط المدينة، الأمر الذي يستدعي اهتمامًا دائمًا".
ويتابع: "كان أجدادنا يحرصون على تخزين مواد البناء في مخازن خاصة داخل المنازل، ليتمكنوا من الترميم في أي وقت. لكن اليوم، ومع ارتفاع أسعار مواد البناء، بات الكثير من سكان شبام غير قادرين على توفيرها".
معالم مهددة بالاندثار
في قلب حضرموت، وتحديدًا في شبام وتريم، تقف المعالم الأثرية شامخة تروي تاريخًا عريقًا يتنوع بين المباني والقصور والمتاحف الطينية. غير أن هذه الثروة باتت تواجه خطر الزوال؛ إذ ينهشها الإهمال من جهة، والعوامل الطبيعية من جهة أخرى، ما ينذر بخسارة جزء مهم من هوية اليمن الحضارية.
في مدينة شبام وحدها، هناك نحو 500 منزل طيني يتراوح ارتفاعها بين 5 و11 طابقًا، متلاصقة على نحو هندسي فريد، لكن كثيرًا من هذه المباني باتت مهددة بالانهيار، وبعضها تهدم بالفعل أو أصيب بتشققات، في ظل الحاجة الماسة إلى الترميم العاجل.
ويؤكد مدير إدارة الثقافة بمديرية شبام، محمد فيصل باعبيد، لموقع "يمن فريدم" أن نسبة المباني المهدمة أو الآيلة للسقوط بلغت نحو 11% من إجمالي مباني المدينة، أي ما يتراوح بين 48 و51 مبنى، بعدما كانت لا تتجاوز 18 مبنى في السابق.
أسباب التدهور والحلول المقترحة
يوضح باعبيد أن هجرة السكان وترك المنازل مهجورة من أبرز الأسباب، إلى جانب تعقيدات وراثية تحول دون تدخل الدولة في الترميم. كما يشير إلى غياب كيان رسمي يدير ملف "الخرائب"، فضلًا عن العوامل الطبيعية مثل الأمطار والرياح، وعدم وجود صيانة دورية أو اهتمام جماعي.
ويطرح باعبيد حلًا يتمثل في إطلاق مشروع بإشراف اليونسكو والهيئة العامة للآثار، يهدف إلى ترميم المباني المهددة بالشراكة مع الملاك، بحيث تتحمل الدولة أو "اليونسكو" جزءًا من التكاليف، مقابل إعادة توظيف المنازل كمنشآت عامة أو لصالح جمعيات محلية.
قصور تريم.. ذاكرة على وشك الزوال
مدينة تريم ليست في حال أفضل؛ فهي الأخرى تواجه الخطر ذاته، إذ تضم أكثر من 30 قصرًا طينيًا، كثير منها مهمل أو مهجور. بعض القصور اندثرت بالفعل، مثل قصر "عبدالرحمن بن شيخ الكاف" الذي تهدم عام 2025، وقصر الرياض الذي تحول إلى محلات تجارية، إضافة إلى قصر الشاعر حداد بن حسن الكاف الذي جرفته السيول عام 2022.بحسب أحمد باحمالة، مندوب الهيئة العامة للآثار والمتاحف بوادي حضرموت.
ويحذر باحمالة من أن غالبية القصور في تريم مهددة بالسقوط، بفعل الإهمال، مشيرًا إلى أن الحرب وتدهور الأوضاع الاقتصادية أدت إلى نقص الميزانيات الحكومية، ما حال دون ترميمها وأثر على حركة السياحة في المنطقة.
ويضيف أن قصورًا عدة لم تعد مأهولة مثل قصر "حمطوط"، قصر "دار السلام"، قصر "المنيصورة"، قصر "عشة"، قصر "الخضيب"، قصر "سلمانة"، قصر "بخيتة"، قصر "القبة"، وقصر "فيصل"، جميعها تواجه خطر الانهيار.
غياب الدعم وتعدد الملاك
التحديات لا تتوقف عند العوامل الطبيعية أو ضعف الإمكانيات، بل تمتد إلى مشكلة الملكية الخاصة؛ إذ أن معظم القصور مملوكة لأفراد، ما يعيق تدخل الدولة. وهو ما يؤكده باحمالة الذي أوضح أن ضعف إمكانيات الجهات المختصة، إلى جانب كون معظم القصور مملوكة لأفراد، حال دون تدخل حكومي مباشر لترميمها.
وأوضح أن بعض الملاك بدأوا بالفعل بهدم قصورهم أو بيعها كأراضٍ سكنية، بينما ساهمت التغيرات المناخية كالفيضانات في تضرر المباني الطينية.
أما أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة حضرموت، محمد يسلم عبدالنور، فيشير إلى أن حملة "تريم عاصمة الثقافة الإسلامية" عام 2010 شملت ترميمات سطحية لعدد من القصور دون اتفاقات قانونية واضحة مع الملاك، ما تسبب لاحقًا في نزاعات. ويضيف أن كثيرًا من القصور بيعت لمستثمرين، وهو ما يعني أنها معرضة للهدم والتقسيم إلى أراضٍ سكنية.
مقترحات للحفاظ على التراث
يطلب الحفاظ على التراث تدخلا عاجلا يضمن بقائها بعيدة عن الإهمال والتدهور، وهذا ما يطرحه "باحمالة" الذي قدّم جملة من الحلول لإنقاذ ما تبقى من قصور تريم، منها تدخل المنظمات الدولية لشراء أو استئجار القصور وترميمها وإعادة توظيفها كمراكز ثقافية وسياحية، ومعالجة إشكاليات الملكية الخاصة عبر الشراء أو التعويض أو التنسيق مع الملاك.
كما دعا إلى إعادة توظيف القصور بعد ترميمها لتكون مزارات سياحية أو مراكز ثقافية وفنية تخدم المجتمع، بالتوازي مع وقف الحرب، وتوفير ميزانيات حكومية للترميم، وسن قوانين تمنع منح تراخيص لهدم القصور أو تحويلها إلى مخططات سكنية.
اليوم، تقف القصور والمباني الطينية في محافظة حضرموت على حافة الانهيار، تنتظر من الجميع إنقاذها قبل فوات الأوان.
فما تبقى من جدرانها لا يختزل فقط طينًا وحجارة، بل ذاكرة اليمن العمرانية، وشهادة حية على حضارة صنعت من البساطة ومن الطين ناطحات سحاب تروي حكايات الأجداد.