في أحد شوارع صنعاء المزدحمة، تجلس سيدة يمنية منهكة، تحدق في المارة بعينين غارقتين بالدموع وهي تروي قصتها: "كان زوجي معلمًا بالكاد يوفر لنا بالنصف الراتب ولا يكفي حاجاتنا، لكنه توفي وتركنا نكافح وحدنا. حاولت البحث عن عمل لكن دون جدوى، ولم أجد أمامي سوى مد يدي للناس. إنه أمر يجرح كرامتي، لكن جوع أطفالي أقسى من كبريائي".
الفقر والبطالة وقود الظاهرة
يقول الخبير الاقتصادي رشيد الحداد "انتشار التسول مرتبط مباشرة بتفاقم الفقر والبطالة وانقطاع المساعدات الإنسانية خلال السنوات الأخيرة. لكنه يشير إلى وجود شريحة أخرى امتهنت التسول رغم عدم فقرها، معتبرة أن دخله أكثر جدوى من أي برامج اقتصادية مطروحة.
وقد أظهرت تجارب "هيئة الزكاة" في صنعاء أن بعض المتسولين رفضوا حتى الإعانات الشهرية لكونها أقل مما يحصلون عليه من التسول ".
بحسب تقرير المركز المدني للدراسات والبحوث الذي أعده الباحث محمد السامعي (2024)، فإن سنوات الصراع منذ 2014 ألحقت خسائر بشرية واقتصادية واجتماعية عميقة، حيث تراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي بنسبة 52% بين عامي 2015 و2022، فيما بات 21.6 مليون يمني يعتمدون على المساعدات الإنسانية، وفق تقديرات البنك الدولي. كما أوضح التقرير أن 80% من سكان اليمن يعيشون تحت خط الفقر، في ظل أعلى معدل بطالة بالمنطقة العربية وصل إلى 60%، وغالبيتهم من الشباب المؤهلين (المركز المدني للدراسات والبحوث، 2024).
وأشار معهد صنعاء للدراسات الاستراتيجية أن النزاع دمر الاقتصاد اليمني، حيث انكمش بنسبة 50%، وانخفضت عمالة الذكور بنسبة 11% والإناث بنسبة 28%. اللافت أن عمالة النساء تراجعت في صنعاء بـ 43%، بينما ارتفعت في عدن بـ 11%، نتيجة اختلاف الظروف الاقتصادية بين المدينتين.
وبحسب مؤشرات الفقر في اليمن (2024) الصادرة عن مركز اليمن والخليج للدراسات، فإن 82.7% من السكان يعانون من فقر متعدد الأبعاد، ما يعني أن ثمانية من كل عشرة أشخاص يعيشون الحرمان بأشكاله المتعددة. وهو ما أكده أيضًا تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومبادرة أكسفورد للفقر والتنمية (OPHI) استنادًا لبيانات البنك الدولي لعام 2021 (UNDP-OPHI، 2023).
استغلال منظم وانتهاك للكرامة الإنسانية
تقول رئيسة مؤسسة "دفاع للحقوق والحريات" المحامية هدى الصراري: "ظاهرة تسول النساء والأطفال في اليمن تمثل شكلًا واضحًا من الاستغلال وانتهاك حقوق الإنسان، وغالبًا ما تُدار من شبكات منظّمة أو حتى من داخل الأسرة نفسها".
وتشير الصراري إلى أن هذه الممارسات تدخل ضمن الاتجار بالبشر وفق بروتوكول باليرمو، حيث يُستغل الضعف والفقر لإجبار النساء والأطفال على أنشطة مهينة تدر دخلًا لغيرهم ".
وتضيف الصراري "الآثار النفسية والاجتماعية لهذه الظاهرة كارثية. على الأطفال، يتحول الشارع إلى "مدرسة بديلة" مليئة بالعنف والتحرش، فيما تتشكل لديهم مشاعر نقص ودونية تؤثر على هويتهم النفسية. أما النساء، فيعانين من انتهاك كرامتهن واحتمالية تعرضهن للتحرش أو الاستغلال الجنسي، ما يعمّق مشاعر العجز واليأس. وعلى مستوى المجتمع، ترسخ الظاهرة صورة سلبية للنساء والأطفال كـ "متسولين" بدلًا من كونهم مواطنين ذوي حقوق، وترتبط بارتفاع معدلات الجريمة الصغيرة وتعميق الفجوة الطبقية ".
بين قصص النساء والأطفال.. المأساة تتكرر
قصص النساء والأطفال في شوارع اليمن تعكس فصول المأساة. في صنعاء، تقول نازحة فقدت مساعداتها الإنسانية: "كنت أعيش على ما يقدمونه من غذاء وسلل، لكن حين توقفت المساعدات لم أجد أمامي سوى التسول لإطعام أطفالي".
أما الطفلة سمية، ذات الأحد عشر عامًا، فتروي بصوت مبحوح ما يشبه صرخة استغاثة: "يجبرنا والدي على الخروج جميعًا، أنا وإخوتي، للتسول حتى نوفر لقمة نسد بها جوعنا".
بين التمكين والحماية
تقول هدى الصراري إن الحل لا يكمن في ملاحقة المتسولين بقدر ما يكمن في برامج حماية وتمكين. وتشمل: دعم الأسر الأكثر فقرًا، إنشاء مراكز إيواء وإعادة تأهيل، تمكين النساء اقتصاديًا عبر مشاريع صغيرة، وتوفير برامج تعليمية بديلة للأطفال. كما دعت إلى حملات توعية مجتمعية تُظهر أن التسول القسري ليس "مساعدة للفقراء "بل جريمة استغلالية.
وتنهي الصراري حديثها "لتحقيق هذه الحلول يتطلب بيئة مستقرة ودولة قادرة على تبني برامج اجتماعية واسعة، وهو ما يفتقر إليه اليمن حاليًا. ومع ذلك، يبقى الأمل معقودًا على جهود المنظمات الحقوقية والإنسانية للحد من اتساع الظاهرة، وإعادة الاعتبار للنساء والأطفال كضحايا بحاجة إلى حماية لا وصمة".