تشكل العلاقة السرية بين بعض الأطباء والشركات الدوائية ظاهرة تتقاطع فيها القيمة الأخلاقية مع المصالح التجارية، ما يجعل الحديث عنها أمرًا محفوفا بالحذر والجدل، فالظاهرة المقلقة يجري تداولها بصورة علنية بين مختلف فئات القطاع الطبي، لكن في سياق لا يهدف إلى القضاء عليها أو التحذير من مخاطرها.
يذهب المريض إلى الطبيب آملًا في شفاء ألمه، غير أنه يصبح هامشًا في طرف المعادلة القائمة على دفع الشركات الدوائية مبالغ مالية للطبيب مقابل تصريف أدويتها في السوق، فيخرج المريض محملًا بكيس من الأدوية التي صرفها له الطبيب، وهو سلوك يحوّل مهنة الطب من رسالة إنسانية إلى وسيلة للربح والكسب.
تتشابك الخيوط بين طبيب يبحث عن مكسب إضافي وشركة دوائية تسعى إلى بيع أدويتها في السوق مضطرب منذ سنوات، في ضل غياب معايير الرقابة من قبل الجهات المختصة لضمان تقديم الرعاية الطبية للمرضى دون الإخلال بأخلاقيات المهنة الطبية.
اتفاقات سرية
يتحدث صيادلة في محافظة تعز(جنوب غربي اليمن) عن قيام بعض الأطباء وخاصة في العيادات التخصصية بأخذ مبالغ مالية من الشركات الدوائية مقابل تصريف أدويتها، بغض النظر عن وجود أصناف أخرى بنفس القوة لكنها بسعر أقل، بالأهم عند الطبيب ليس المريض الذي طرق الباب بحثًا عن دواء يخفف ألمه، حيث بات الطبيب ملزمًا بالاتفاق المبرم مع الشركة.
يقول أحد الصيادلة في تعز، رفض ذكر اسمه، عن هذا السلوك "لا يخدم سوى الطبيب والشركة الدوائية، بينما بات المريض هامشًا يكاد لا يذكر، تلك الممارسات تسيئ إلى سمعة الطبيب وتجعله موضع الشك، إلى جانب أنها تثقل كاهل الأسر التي تنفق ما تبقى من مدخراتها على وصفات طويلة لا يمكن التحقق من ضرورتها".
يضيف الصيدلي في حديثه لـ"يمن فريدم": " تكمن المشكلة عندما يكون هناك أصناف بديلة بنفس الفاعلية ونفس القوة وأحيانًا تكون أقل ثمنًا من الأدوية التي صرفها الطبيب، وإذا رجع المريض إلى الطبيب واختلف أحد الأصناف يرفض الطبيب الوصفة الدوائية كلها ويطلب من المريض إعادتها إلى الصيدلية والذهاب إلى صيدلية أخرى وهذا الموقف حدث معي سابقًا".
تزداد خطورة هذه الظاهرة حين تتقاطع مع هشاشة النظام الصحي وغياب الرقابة الدوائية الفاعلة ففي الوقت الذي تتنافس فيه الشركات الدوائية على ترويج منتجاتها عبر المندوبين وبصورة مباشرة، يجد الطبيب نفسه أمام إغراءات مالية يصعب مقاومتها، خصوصًا في ظل الأوضاع التي تعيشها البلاد.
الشركات بدورها لا ترى في ذلك خطأً أخلاقيًا بقدر ما تعتبره استثمارًا تسويقيًا، على غرار ما يحدث في أسواق أخرى، لكنها تتناسى أن السلعة هنا ليست غذائية أو تكنولوجية، بل دواءً يتناولُه مريض قد تتوقف حياته على جرعته.
مصدر في إحدى الشركات الدوائية طلب عدم ذكر اسمه، يقول "إن الشركة التي يعمل بها تتعامل مع أطباء في المدينة على تصريف أدويتها، حيث تقوم الشركة بدفع مبالغ تتراوح بين 500 إلى ألف دولار للأطباء، وتتخذ من هذا الأمر طريقًا لترويج أصناف الأدوية التي تستوردها، في ظل تنافس الشركات الأخرى على دفع مبالغ أكبر".
يضيف المصدر في حديث لـ"يمن فريدم"، " لا يمكن وضع كل الأطباء موضع التهمة، هناك أطباء كثر رفضوا المبالغ المالية التي عرضناها عليهم وبصورة قاطعة، ومع ذلك تبقى المشكلة قائمة، وفي الوقت الراهن لا يوجد أي وسيلة ترويج أخرى تتخذها الشركات، الأمر أصبح من المعتاد عليه في التعامل المستمر مع الأطباء".
الرقابة معدومة
وفي ظل تراجع الدور الرقابي، وعدم وجود آليات فعالة لمساءلة الأطباء أو الشركات المتورطة، تتكرر الظاهرة في الخفاء، لتشكل حلقة فساد في منظومة صحية منهكة بالحرب والظروف الاقتصادية، الأمر الذي يفقد ثقة المواطن في المؤسسات الطبية والأطباء، وتفرض تساؤلات أخلاقية حول حدود المهنة وأخلاقياتها، وعن الجهة التي يجب أن تتدخل لوضع حدٍ لهذه الممارسات قبل أن تتحول إلى قاعدة لا استثناء.
يقول رئيس لجنة المجلس الطبي الأعلى لمحافظة تعز، الدكتور مرتضى الهويش، إن موضوع الأطباء والشركات الدوائية يؤرق الجميع، لما يمثله من انحراف وظيفي لمقدم الخدمة الطبية الذي قطع عهدًا على نفسه لبذل كل ما يستطيع من أجل رفع المعاناة عن الإنسان، وعدم تحويل مسارها إلى الارتزاق الذي قد يؤدي إلى الإضرار المباشر على حياة المرضى.
ويضيف الهويش في حديثه لـ"يمن فريدم"، " للأسف الشديد ليس هناك ما يبرر مثل هذا العمل غير المسؤول والذي تقع مسؤولية حدوثه من وجهة نظري الطرفين: الأول الطبيب ذا النفس الضعيفة الذي اتخذ هذا السلوك لمبررات واهية، والطرف الآخر هي الشركات وممثليها التي أغفلت طبيعة عمل الطبيب وانجرفت به سلوك تجاري، الطرفين ساهموا بهذه الظاهرة التي تحتاج إلى تفعيل القوانين التي تحفظ حقوق المجتمع من هذه التصرفات غير المسؤولة".
من جانبه يقول رئيس نقابة الأطباء في تعز، الدكتور عبدالله الأهدل، إن هذه الممارسة تعرف بالترويج غير الأخلاقي وتعد مشكلة خطيرة في قطاع الرعاية الطبية ولها تأثيرات سلبية واسعة على الشركات الأخرى والمرضى.
يضيف الأهدل في حديث لـ"يمن فريدم"، " الكل يسمع بها ولكن تجري في السر، وبالتالي لا تستطيع معرفتها، وفي حالة إثبات على بعض الزملاء ممارسة مثل تلك غير الأخلاقية تقوم النقابة بتوجيه إنذار وإذا تكرر يتم سحب تصريح مزاولة المهنة".
يشير الأهدل إلى جملة من التأثيرات السلبية على الشركات الدوائية الأخرى من جانب وعلى المرضى من جانب آخر، من هذه السلبيات صعوبة المنافسة على الجودة، حيث يصبح خيار وصف الدواء مبنيًا على المقابل المادي وليس الفاعلية، بالإضافة إلى أن ذلك قد يؤدي إلى ممارسة بعض الشركات سلوكيات غير أخلاقية تحافظ على بقائها، في المقابل زيادة التكلفة على المرضة.
ويقترح الأهدل مجموعة من الحلول، تتمثل في إلزام الشركات الدوائية بعدم ممارسة تلك السلوكيات، فرض عقوبات كالغرامات وسحب التراخيص على الشركات والطبيب المشارك، بالإضافة إلى وضع حدود واضحة لتنظيم العلاقة بين مندوبي الشركات والأطباء.
يقع الصيدلي في مواجهة الواقع الاقتصادي الصعب، مضطرًا للتعامل مع الأطباء والشركات لتأمين دخله، مع إدراكه أن التزامه بالمعايير الأخلاقية لا يزال جوهر مهنته، وتؤكد الظاهرة على الحاجة الملحة لتفعيل الرقابة وتنظيم العلاقة بين الأطباء والشركات، لضمان أن يبقى المريض محور الاهتمام. تحسين ظروف الأطباء ودعم الشفافية يعيدان المصداقية للمهنة، ويحول الدواء إلى أداة علاجية لا سلعة تجارية.