في أحد أرياف محافظة تعز، لم تكن السيدة (أ. ع)، التي تجاوزت الأربعين من عمرها، تتوقع أن تتحول ليلة هادئة إلى مأساة حقيقية. فبينما كانت الخراف ترقد في حظيرتها، باغتتها الكلاب الضالة تحت جنح الظلام، لتكبدها خسائر كبيرة.
وقالت (أ.ع) في حديثها: "صحيت الصباح على فاجعة كبيرة، خمس من أغنامي أكلتها الكلاب، وما قدرت أنقذها. ولم أكن الوحيدة التي تعرضت لذلك، فكل جيراني يشتكون من نفس المشكلة. الكلاب الضالة منتشرة بكثرة وقد أصبحت تهدد حياتنا واغنامنا كل يوم.".
وأضافت السيدة: "لا يوجد أي تدخل من الجهات البلدية أو الصحية، والكلاب الضالة تتجول بحرية في الطرقات والحقول، خاصة في الليل، وهذا يجعل كل الناس معرضًا للخسارة والخطر".
هذه الظاهرة لا تهدد المواشي فقط، بل قد تشكل خطرًا على حياة الأطفال والسكان، بسبب احتمالية الإصابة بداء الكلب أو الهجمات المفاجئة.
أرقام مسجلة تكشف حجم الكارثة
تشير تقارير رسمية صادرة عن البرنامج الوطني لمكافحة داء الكلب في وزارة الصحة العامة والسكان إلى أن المرض ما يزال يشكّل خطرًا حقيقيًا على حياة المواطنين في مختلف المحافظات اليمنية، خصوصًا في الأرياف والمناطق التي تفتقر إلى خدمات الرعاية البيطرية والصحية.
وبحسب البيانات المرفوعة من 23 وحدة لمكافحة داء الكلب في 15 محافظة يمنية من أصل 21، تم تسجيل 7.485 حالة عَضّ في عام 2011، تسببت في وفاة 36 شخصًا.
ويؤكد البرنامج أن معظم الضحايا من الأطفال الذين غالبًا ما يتعرضون لهجمات الكلاب الضالة أثناء اللعب أو بسبب الاقتراب منها دون وعي بخطورتها.
وتُظهر الإحصاءات الواردة من المختبر المركزي البيطري في الإدارة العامة للصحة الحيوانية والحجر البيطري أن عدد العينات (رؤوس الكلاب) التي خضعت للفحص خلال عام 2011، بلغ 330 عينة، تبيّن أن 284 عينة منها إيجابية لداء الكلب بنسبة 86%، مقابل 46 عينة سالبة بنسبة 14%.
جاءت محافظة ذمار في المرتبة الأولى من حيث عدد العينات المفحوصة، تلتها أمانة العاصمة ثم عمران وصنعاء والمحويت، ما يعكس انتشارًا واسعًا للمرض في المحافظات الوسطى والشمالية.
وتُظهر تقارير البرنامج الوطني لداء الكلب أن عدد الذين تعرضوا للعض في اليمن ارتفع بشكل ملحوظ خلال الفترة من عام 2000 إلى 2017.
فبعد أن بلغ عدد الحالات 4.474 حالة عام 2000، ارتفع إلى أكثر من 14 ألف حالة عام 2016، فيما سُجلت 70 حالة وفاة عام 2017، وهي الأعلى منذ بداية الرصد.
أما تقارير المختبرات البيطرية للفترة من 2001 إلى 2018، فتشير إلى نسب إصابة مرتفعة جدًا، تراوحت بين 67% و85% من العينات المفحوصة، ما يدل على انتشار واسع للفيروس في أوساط الحيوانات، خاصة الكلاب الضالة.
ويؤكد الأطباء أن الفئات الأكثر عرضة للإصابة هم الأطفال، بسبب جهلهم بخطورة التعامل مع الحيوانات المجهولة أو استفزازهم للكلاب أثناء اللعب.

تحذيرات بيطرية وتقصير في المكافحة
تشهد عدد من المناطق الريفية انتشارًا متزايدًا للكلاب الضالة، وسط مخاوف من تفشي داء الكلب (السعار) الذي يُعد من أخطر الأمراض المشتركة بين الإنسان والحيوان.
ويقول الدكتور أحمد الحاج، الطبيب البيطري في كلية الطب البيطري بجامعة ذمار، إن الخطر الرئيس يتمثل في انتقال داء الكلب من الكلاب المصابة بالسعار عبر العض أو اللعاب إلى الإنسان أو الحيوانات الأخرى.
وأشار إلى أن مكافحة الكلاب الضالة بالطريقة الصحيحة تقع ضمن مهام الإدارة المختصة في وزارة الزراعة والبلديات في المديريات، داعيًا إلى تكثيف الجهود والتنسيق بين الجهات المعنية للحد من الظاهرة قبل تفاقمها.
مشكلة ونقص في الخدمات
من جانبه، قال الدكتور عامر البوصي، مدير إدارة التمريض في المستشفى اليمني السويدي والمنسق العام لبرنامج مكافحة داء الكلب في محافظة تعز، إن داء الكلب يعد مشكلة ذات حجم كبير تعاني منها كل محافظات الجمهورية اليمنية، لاسيما الأرياف، حيث تتكتل وتتموضع كثير من الكلاب كون الأرياف بعيدة عن المدينة.
وأوضح أن الإصابات تكثر في القرى والأرياف كون الأعمال الريفية مناطة بالمرأة والطفل والرجل، مشيرًا إلى أن كثيرًا من الحالات التي تتعرض لعضّات الكلاب في الأرياف والقرى هي النساء بحكم أعمالهن الريفية كالرعي ونقل المياه والاهتمام بالأرض والزروع، يليهن الأطفال ثم كبار السن.
وأضاف أن الإحصائيات الواردة من القرى كبيرة، إلا أنها لا تمثل الحجم الكامل للإصابات، خاصة في ظل انتشار القمامة في المديريات المدنية وعدم التخلص منها يوميًا، ما يجعلها بيئة مثالية لتجمع الكلاب الضالة القادمة أحيانًا من الأرياف إلى المدن بسبب الأوضاع المتردية.
وبيّن الدكتور البوصي أن محافظة تعز لا يوجد فيها سوى مركزين علاجيين ووقائيين لداء الكلب: الأول في مديرية القاهرة بالمدينة، والثاني في مديرية التربة، فيما تفتقر بقية المديريات إلى مراكز تطعيم، بسبب عدم توفر اللقاحات والأمصال بشكل دائم من قبل وزارة الصحة، إذ تعتمد على الدعم الخارجي والمنظمات.
وأضاف: "نحن لنا حوالي ثمانية شهور إلى الآن بدون لقاحات أو أمصال"، مرجعًا السبب أيضًا إلى غياب الكادر المدرب، وعدم وجود اهتمام بتأهيل فرق طبية متخصصة للتعامل مع حالات العَضّات، فضلًا عن انقطاع الكهرباء الذي يمنع حفظ اللقاحات في درجات تبريد مناسبة، مما يتطلب حلولًا بديلة كأنظمة الطاقة الشمسية.
وأشار إلى أن أي كميات محدودة من اللقاح تصل عادة إلى مراكز المدينة فقط، مما يضطر المصابين في القرى للسفر بتكاليف مرتفعة تصل إلى أكثر من 150 ألف ريال يمني لتغطية ثمن اللقاحات والأمصال والتنقلات، وهو ما يجعل كثيرين يتأخرون أو يمتنعون عن العلاج في الوقت المناسب، مما يؤدي إلى وفيات.
واختتم الدكتور البوصي حديثه بالقول: "نناشد وزارة الصحة الاهتمام ببرنامج مكافحة داء الكلب وتوفير اللقاحات ودعم المراكز الريفية لتقليل الخسائر في الأرواح".
خطوات الوقاية والعلاج
وعن الإجراءات الواجب اتخاذها عند التعرض للعض، يشير الدكتور أحمد الحاج إلى أن الخطوة الأولى هي غسل المنطقة المصابة جيدًا بالماء والصابون، ثم نقل المصاب فورًا إلى أقرب مركز صحي مختص لتلقي المصل واللقاح الخاص بداء الكلب، مؤكدًا أهمية الالتزام بأخذ الجرعات في مواعيدها المحددة.
وأضاف أن أي مصاب لم يتلق العلاج الفوري بالمصل واللقاح، ثم ظهرت عليه أعراض المرض، يُعد بحكم الميت، لعدم وجود علاج فعّال بعد ظهور الأعراض العصبية.
وبيّن أن الأعراض تختلف من شخص لآخر، وتبدأ حسب موقع العضة، إذ إن العضّات القريبة من الرأس أو الدماغ تُسرّع من ظهور الأعراض، التي تشمل الخوف من الماء نتيجة شلل عضلات البلعوم، والخوف من الضوء، والميل إلى العزلة، وظهور اضطرابات عصبية وتشنجات متكررة.
ويؤكد الأطباء أن الوقاية والتبليغ المبكر ومكافحة الكلاب الضالة بطرق آمنة تمثّل الخطوات الأساسية لحماية المجتمع الريفي من مخاطر هذا المرض القاتل، مشددين على أهمية توفير الأمصال واللقاحات بشكل دائم في المراكز الصحية، ورفع مستوى الوعي بضرورة التعامل السليم مع حالات العضّ أو الخدش التي تتسبب بها الحيوانات المجهولة.