تؤكد ما يمكن تسميته بقضية حضرموت، فيما ظهر عن مكوناتها سواء عبر "لقاء سيئون التشاوري" أو ما تبعه من "لقاء الرياض للمكونات الحضرمية" مدى إصرار أبناء محافظة حضرموت / شرق اليمن، على تأكيد موقفهم الرافض لتوجهات المجلس الانتقالي الجنوبي؛ وهو ما وضع قضيتهم، حاليًا، في مواجهة مع مشروع "الانتقالي"، ومحاولاته فرض هيمنته على كافة محافظات الجنوب، وفي مقدمتها حضرموت كمخزون جغرافي واقتصادي، لا يمكن أن يستقيم مشروع الانتقالي (الانفصالي) بدونه؛ ولهذا يبذل جهودًا كبيرة في سبيل تحقيق اختراقات تمكنه من السيطرة على هذه المحافظة التي تمثل مساحتها ثلث مساحة اليمن.
في قراءة أخرى للمشكلة اليمنية تنطلق من حضرموت، وتناوش مشروع الانتقالي في سياق محاولة لفهمه مجددًا تتجلى عديد من الأسئلة تتطلب، فيما تتطلبه أولًا، تقديم قراءة واضحة لموقع حضرموت في خريطة المشكلة اليمنية، وبخاصة عندما نضع هذه القراءة على جدار الوحدة اليمنية، وما تتعرض له من تهديدات، باتت على قدر من الخطورة؛ لاسيما وقد صارت تكشف عن نفسها بوضوح، ومن أبرز هذه التحديات تراجع مفهوم الوحدة في الخطاب الحكومي؛ وهو الخطاب الذي يأتي في سياق "تساهل" غير مبرر مع خطوات انفصالية تصعيدية.
ظهرت هذه التحديات بوضوح فيما أعلنه الانتقالي في "اللقاء التشاوري الجنوبي"، والذي انتهى بإصدار ما أسماه "الميثاق الوطني الجنوبي" مستهل مايو/أيار، وتكرّس فيما صدر عن اجتماع ما تسمى بالجمعية الوطنية (العمومية) للانتقالي في المكلا عاصمة حضرموت منتصف الشهر ذاته، وحديثها عن خطوات عملية للانفصال عن شمال اليمن.
قبيل انعقاد اجتماع جمعيته العمومية في المكلا دخل "الانتقالي" إلى حضرموت بمعية أرتال من العربات المدرعة، وهو ما مثل استفزازًا لأبناء حضرموت، واعتبر عُمر بن هلابي، رئيس التكتل الموحد للإعلاميين والصحافيين والنشطاء في المحافظات الشرقية، دخول هذه القوات، يهدف "لإرسال رسائل بأن ذلك يتم بموافقة التحالف لإسقاط حضرموت، ورسالة أخرى تقول إنهم على استعداد لاستخدام القوة متى ما استدعى الأمر، وعلى أبناء حضرموت أن يقبلوا بذلك".
وتابع بن هلابي لـ "القدس العربي": "في نفس الوقت هو مسعى من الانتقالي وداعميهم في أبوظبي، للأسف الشديد، لتفجير الوضع في منطقة رخوة وحساسة جدًا للمملكة العربية السعودية لإشعال الحرب الأهلية بعد أن فشلوا بإشعالها بطريقة أخرى، فأرادوا إشعالها الآن بهذا الشكل الاستفزازي انطلاقًا في حضرموت".
ردًا على ذلك، وقبيل انعقاد الجمعية الوطنية للانتقالي، عقدت مكونات حضرمية "لقاء سيئون التشاوري". وأصدر اللقاء بيانًا واضحًا رفض فيه دخول هذه القوات، واعتبرها استفزازًا واضحًا، وحمّل التحالف، “ومَن يقف خلف الانتقالي"، مسؤولية ذلك.
وقال بن هلابي: "لقد حدد البيان أن حضرموت إقليم مستقل في أي تسوية قادمة، أو أن حضرموت ستذهب باتجاه دولة مستقلة عن الشمال والجنوب؛ لأن القضية الحضرمية منفصلة ولا علاقة لها بالقضية الجنوبية، مع الاحترام للقضية الجنوبية وعدالتها، لكن قضية حضرموت قضية أساسية بين جملة من القضايا اليمنية كقضية تهامة وقضية صعدة وغيرها من القضايا، والحضارم يسعون لحلها على طاولة مستديرة للحوار اليمني اليمني… وفي حال لم يتفق الشركاء فحضرموت ستذهب لدولة مستقلة، وهذا ما أظهره لقاء سيئون التشاوري، الذي أوضح ،أيضًا، أنه سيشكل وفدًا للذهاب للسعودية، وبالفعل أتت استجابة المملكة سريعة، وتمت دعوتهم للرياض".
واعتبر "الاستجابة السعودية السريعة لدعوة المكونات الحضرمية إلى الرياض تؤكد مدى إدراك السعودية بأن هذه الخاصرة تتعرض للتهديد، وأن الانتقالي ومَن يقف خلفه يستهدف ضرب هذه الخاصرة، ولذلك تنبهت ودعتهم وأعطتهم الفرصة لعقد مشاوراتهم الحضرمية للوصول لمشروع وقيادة وتوجه يفصل حضرموت عن جميع القضايا الأخرى".
ويرى بن هلابي أن هذا "معناه أن هناك جبهة حضرمية سعودية ستواجه هذا الاتجاه، وهو ما تجلى فيما انتهت له المشاورات، وهي رؤية متكاملة توافقت عليها المكونات الحضرمية، وتفصل قضية حضرموت عن جميع القضايا، وتضعها قضية أساسية مقابل تحجيم الانتقالي".
ولفت إلى أن "المملكة استدعت في نفس الوقت عيدروس الزبيدي وفرج البحسني إلى الرياض، ولم تترك لهم المجال لاختتام جمعيتهم العمومية، وعندما حاول البحسني أن يؤثر على هذا اللقاء التشاوري رفضت جميع قيادات حضرموت اللقاء به".
وأشار إلى ما اعتبره "صمتًا وتساهلًا” من رئيس وأعضاء مجلس القيادة الرئاسي إزاء ما اعتبرها “تجاوزات” المجلس الانتقالي الجنوبي، مطالبًا “كل القوى الوطنية بأن تضع تساؤلاتها أمام مجلس القيادة، وتطالبهم أن يحددوا موقفًا واضحًا مما يجرى".
مقاربة أوسع
في هذا المحور، سنحاول تقديم مقاربة أوسع نفهم، من خلالها، ما يحدث على صعيد تشكل رؤية جديدة باسم القضية الحضرمية وصولًا إلى مساءلة علاقة التحالف بالقضية اليمنية. هنا يقول عبدالكريم غانم، أستاذ علم الاجتماع السياسي في مركز البحوث والدراسات اليمنية بعدن لـ "القدس العربي": "مع الاعتراف بأن لحضرموت خصوصيتها الثقافية والتاريخية ومقوماتها التي تؤهلها لتبني رؤية سياسية لمشروع دولة مستقلة، إلا أن بروز هذه الاتجاهات في هذا التوقيت بالذات لها دلالات مختلفة، أبرزها الشعور بمخاطر تنامي نفوذ المجلس الانتقالي الجنوبي الذي يوشك أن يبتلع آمال وطموحات حضرموت وغيرها من المحافظات الشرقية".
كما اعتبر "بروز القضية الحضرمية في هذا الوقت بمثابة إعلان رفض لمغامرة المجلس الانتقالي الساعية لفرض الانفصال بقوة السلاح، وهو نهج لا تقره مواثيق الأمم المتحدة، ولا يقره الدستور الذي تم على أساسه إعادة تحقيق الوحدة اليمنية، وخضع لاستفتاء شعبي في الشمال والجنوب".
وقال إن "رؤية حضرموت جاءت بمثابة طوق نجاة ترفعه القوى الحضرمية في وجه جماعة سياسية مسلحة تسعى لصهر كل المكونات السياسية في المحافظات الجنوبية والشرقية في بوتقة مشروع سياسي قائم على استخدام القوة المسلحة… وفرض رؤيته للحل السياسي".
تجاوب سعودي
أما بخصوص تجاوب السعودية السريع لدعوة قيادات المكونات الحضرمية إلى الرياض. فيرى غانم أن "وصول رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي، على متن عربة عسكرية إلى مدينة المكلا كان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، بما حملته من رسائل صادمة ومستفزة أثارت غضب نخب ومكونات حضرمية عديدة التي سارعت لإعلان رفضها لهذه الخطوات التصعيدية، والتوجه إلى السعودية، التي تقود التحالف العربي في اليمن، وبناءً على هذه المعطيات جاءت استجابة الرياض سريعة وحاسمة، وهي استجابة مدفوعة، ليس فقط بمخاوف القيادات الحضرمية من توغل المجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت، بل أيضًا، لمعرفة الرياض بما في جعبة الانتقالي من مفاجآت، ربما منها إعلان الانفصال من جانب واحد".
أوراق ضغط
باتجاه تقديم قراءة لنتائج ورسائل "لقاء الرياض للمكونات الحضرمية" الذي اختتم مؤخرًا، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي: "على الرغم من عدم الإعلان عما دار في كواليس لقاءات الرياض، إلا أن المؤشرات التي تلت هذا اللقاء توحي بأنه وجه رسائل قوية للمجلس الانتقالي الجنوبي، تحذره من الإقدام على المزيد من الخطوات التصعيدية التي تخل بالتوازنات السياسية والعسكرية التي تحرص الرياض على بقائها. وكما يبدو أن المجلس الانتقالي الجنوبي لم يبد موافقته على تنفيذ الأوامر السعودية، الأمر الذي سيدفع الرياض لاستخدام أوراق ضغط أخرى من شأنها كبح جماح المجلس الانتقالي، ومنها إنعاش مؤسسات الدولة الرسمية، أي الحكومة والمجلس الرئاسي، ومجلسي النواب والشورى، بما تمثله من مشروع جامع يلتف حوله معظم اليمنيين، ومن غير المستبعد أن تدعم الرياض، إلى جانب مؤسسات دولة الوحدة، مشروع القضية الحضرمية لمواجهة مشروع انفصال الجنوب بانفصال حضرموت".
لكن كيف يمكن قراءة توالي لقاءات السفراء بمحافظ حضرموت؟ يقول غانم: "لقاءات سفراء الدول الغربية بمحافظ حضرموت، ليست بالجديدة، فقد اعتاد سفراء الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا زيارة حضرموت، في ظل ضعف الدولة، وغالبًا ما تأتي هذه الزيارات بغرض تعزيز قدرات القوات المحلية على مكافحة نشاط تنظيم القاعدة، فمن المبكر الحديث عن تأييد غربي لدعوات استقلال حضرموت، لاسيما وأن مطلب استقلال الجنوب لم يحظ بالتأييد من قبل أي دولة في العالم".
تقسيم اليمن
في المحصلة؛ إلى أين سيذهب البلد؟ يقول عبدالكريم غانم: "مسألة تقسيم اليمن إلى دولتين أو أكثر هي أمر بعيد المنال، ولن يحظى بأي تأييد إقليمي أو دولي، وفي حال تم فرض أيٍ من هذه المشاريع، تحت قوة السلاح، لن يُمنح الاعتراف الدولي ولن يكون له أي صفة قانونية تخوله سك عُملة نقدية أو إصدار جوازات سفر وبطاقات هوية، إلخ، تحت أي مسمى غير الجمهورية اليمنية".
وأضاف: "وفي مواجهة التصعيد الذي يقوم به المجلس الانتقالي الجنوبي من المتوقع على القريب أن تعزز السعودية دور رئيس المجلس الرئاسي والحكومة اليمنية، وأن تدفع باتجاه الإصلاحات التي كانت قد أعلنت عنها الحكومة اليمنية سابقًا، ومن المتوقع أن تقوم السعودية بتقديم دعم اقتصادي يعزز من سلطة المجلس الرئاسي والحكومة في حال استمر توغل المجلس الانتقالي في حضرموت، وأغراه اتساع نفوذه للذهاب أبعد مما هو مسموح به من قبل السعودية، الفاعل الإقليمي الأبرز في الملف اليمني".
واستطرد: "أما على المدى المتوسط، فتبدو ملامح ظهور جبهة وطنية بدأت تتشكل من نشطاء ومثقفين وحركات اجتماعية غير المرتبطة بأجندات أو دعم خارجي، نابعة من وعي سياسي مستقل يتكون في الشمال والجنوب، ومن شأن تنامي فاعلية هذه الجبهة الوطنية أن يدفع بالمشروع الوطني، المتمثل في استعادة الدولة واستئناف مسار الانتقال السياسي، إلى الواجهة مجددًا، ووجود مثل هذا الاصطفاف الوطني سيسهم في تعزيز موقع الحكومة اليمنية، ويمنحها الفاعلية والقدرة على قول لا لأي توجهات تسعى لإطالة أمد الأزمة اليمنية وجعلها تراوح مكانها، إن لم يتبن تشكيل قيادة سياسية وطنية بديلة، غير مرتهنة لقوى خارجية".
(صحيفة القدس العربي)