23 نوفمبر 2024
2 يوليو 2023
يمن فريدم-بلومبرغ

 

يمتد أغلب البنية التحتية الحالية للغاز الروسي جهة الغرب. لكن لسوء حظ موسكو، يتواجد معظم عملاء غازها حالياً جهة الشرق، وجزء كبير من البنية التحتية التي تحتاجها لنقل إمداداتها إليهم لم تُبنَ بعد.

 

يشكل هذا الاختلاف بين اتجاه خطوط الأنابيب وموقع العملاء -والمرجح أن يستغرق أعواماً لحله- جزءاً من سؤال أهم طرحه هجوم موسكو على أوكرانيا؛ حيث عزلت الحرب روسيا عن أوروبا، أكبر سوق لصادراتها من الغاز. إذاً، ماذا تفعل روسيا صاحبة أكبر احتياطيات في العالم بكل ذلك الغاز الفائض؟

 

عام 2021، ضخت روسيا نحو 150 مليار متر مكعب من الغاز عبر خط الأنابيب إلى أوروبا، وهو حجم أكبر مما يكفي لتلبية الاستهلاك السنوي لألمانيا وفرنسا والنمسا معاً.

 

شكلت التدفقات إلى أوروبا ثلثي صادرات موسكو من الغاز، شاملة تدفقات الغاز الطبيعي المسال. وحيث إن غزو أوكرانيا أضر بتلك التجارة بشكل حاد، تبحث موسكو عن أسواق جديدة، وتوسعت في أسواق أخرى، وتعهدت بتوفير الغاز لمناطق في روسيا لم تصل إليها الشبكة المحلية بعد.

 

حتى مع تلك الجهود، لم تجد روسيا عملاء لنحو 90 مليار متر مكعب من الغاز الذي يُضخ عبر خطوط الأنابيب، ما يعادل التراجع المقدر في التدفقات إلى أوروبا في العام الماضي، وهو ما فاقم الضغط الواقع على اقتصادها المثقل بالعقوبات.

 

أدى انهيار أسعار الغاز بأكثر من 50% في العام الجاري إلى انخفاض أكبر في الأرباح. شكل النفط والغاز معاً أكثر من ثلث إيرادات موازنة روسيا قبل الحرب، وبينما استمر تدفق النفط، كان قطاع الغاز الروسي في قلب عاصفة أحدثت انخفاضاً كبيراً في إيرادات الدولة وأكبر منتجي الغاز في البلد، شركة "غازبروم".

 

تراجع الإنتاج وانخفاض إيرادات الغاز

 

انخفض إنتاج الغاز أكثر من 13% في الشهور الخمسة الأولى من هذا العام، مقارنة بالفترة نفسها من 2022. وتسببت "غازبروم"، التي صدّرت عبر خطوط الأنابيب الغاز المتجه إلى أوروبا، في معظم هذا التراجع الذي كانت شدته ستتفاقم لولا شركة "نوفاتك" (Novatek PJSC)، أكبر منتجي الغاز الطبيعي المسال في روسيا والتي واصلت إنتاجها بمعدل ثابت، وشركة "روسنفت" (Rosneft PJSC) التي ضخت إمدادات إضافية إلى السوق المحلية.

 

اتهم الزعماء الأوروبيون موسكو باستخدامها تدفقات الغاز كسلاح في بداية الحرب باستغلالها للذرائع لإيقاف الإمدادات لمعاقبة الدول الداعمة لأوكرانيا. نتيجة لذلك، قفزت الأسعار وملأت أوروبا خزاناتها في فصل الصيف الماضي بالغاز بأعلى سعر لم تشهده المنطقة من قبل، وذلك جزئياً بسبب فرض سقف لتدفقات الغاز المنقول عبر منظومة خط أنابيب "نورد ستريم" الذي تضرر لاحقاً نتيجة لانفجارات، وتوقف إلى أجل غير مسمى في سبتمبر الماضي.

 

ساعد الشتاء المعتدل أوروبا على تجنب أزمة طاقة كبيرة. لكن بالنسبة لموسكو، لم يكن استبدال أوروبا بتلك السهولة. تراجعت إيرادات الغاز 45% تقريباً ما بين يناير ومايو إلى 710 مليارات روبل (8.3 مليار دولار)، مقارنة بالفترة ذاتها في 2022، وفقاً لبيانات وزارة المالية.

 

بيتر ترتزاكيان، العضو المنتدب بشركة "إيه آر سي فاينانشيال" (ARC Financial)، وهو مستثمر مخضرم في مجال الطاقة، قال: "عندما تُفرض عقوبات على الدول، تكون هناك فترة تكافح فيها للتأقلم مع الوضع الجديد، في البداية. مع ذلك، كلما زادت شدة العقوبات، يزيد إبداع الدولة عادة فيما يتعلق باكتشاف كيفية التغلب عليها"، مشيراً إلى أثر العقوبات الأوسع نطاقاً على القطاع.

 

سارعت روسيا بتحويل مسارها إلى الصين. ففي وقت سابق من العام الجاري، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين أن تطوير مرافق إنتاج الغاز ومعالجته وشحنه في شرق روسيا، قرب الحدود مع الصين، له "أهمية استراتيجية حقيقية". مع ذلك، فشلت زيارة الرئيسي الصيني شي جين بينغ إلى موسكو في مارس في التوصل إلى التزام مباشر من بكين بشراء كمية أكبر من الغاز الروسي.

 

تحول الكرملين نحو الصين سيتطلب إنشاء خطوط أنابيب جديدة لإكمال خط "باور أوف سيبيريا"، الذي بدأ تشغيله في ديسمبر 2019. تمثل الشحنات إلى الصين جزءاً ضئيلاً من الشحنات التي تدفقت إلى أوروبا قبل الحرب، لكنها زادت ويُتوقع أن ترتفع 42% في العام الجاري لتبلغ 22 مليار متر مكعب، قبل أن تزيد إلى 38 مليار متر مكعب سنوياً بحلول 2025، وهو حجم يكفي لتلبية الاستهلاك السنوي لفرنسا.

 

صعوبة استبدال أوروبا

 

قبيل غزو أوكرانيا، وقّعت "غازبروم" اتفاق توريد ثانياً مع الصين، ستسلم الشركة بموجبه 10 مليارات متر مكعب أخرى من الغاز سنوياً على مدى 25 عاماً عبر خط أنابيب آخر يُعرف باسم "طريق الشرق الأقصى"، والذي لم يُبنَ بعد.

 

ما تزال المحادثات حول ما يطلق عليه مشروع "باور أوف سيبيريا 2"، والذي سيضاعف تدفقات الغاز الروسي إلى الصين إلى نحو 100 مليار متر مكعب، في المرحلة الأخيرة لشهور، حسب موسكو.

 

حتى لو توصل الطرفان إلى اتفاق بنهاية 2023، سيستغرق إنشاء خط الأنابيب 5 أعوام على الأقل، ما يوضح الصعوبة التي تواجهها موسكو في استبدال أوروبا بين ليلة وضحاها.

 

"يبدو أن الصين لا مشكلة لديها في طول فترة المفاوضات، بينما يشكل الوقت عاملاً حاسماً لروسيا، حيث تواجه انخفاضاً حاداً محتملاً في حجم صادرات الغاز"، وفق قول فيتالي يرماكوف، كبير الباحثين بمعهد أكسفورد لدراسات الطاقة.

 

بينما يتوقع البعض في السوق إمكانية استئناف التدفقات إلى أوروبا، يشير الواقع إلى أن الاتحاد الأوروبي كان سيتخلى عن الغاز الروسي في مرحلة ما. لكن ظنت الأغلبية أن الدافع سيكون هدف الاتحاد الأوروبي للوصول إلى صافي صفري لانبعاثات الغازات الدفيئة في 2050، بدلاً من المغامرة العسكرية، ويظنون أن التأقلم سيحتاج لمزيد من الوقت.

 

في هذا الشأن، تقول كاترينا فيليبنكو، مديرة بحوث الغاز العالمية في شركة "وود ماكنزي": "حتى لو انتهت الحرب غداً، وتغيّر النظام في روسيا، وعادت للالتزام بإطار القانون الدولي، فقد خانت روسيا ثقة الشركات والحكومات في أوروبا. إن إعادة بناء الثقة والعودة إلى أي شكل من الكميات الإضافية من الغاز سيستغرق وقتاً".

 

بيع الغاز مباشرة

 

حظرت بعض الدول، مثل المملكة المتحدة ودول بحر البلطيق، الغاز الروسي تماماً، بما يتضمن الغاز الطبيعي المسال، وطالب عدد أكبر من حكومات المنطقة الشركات بتقليل اعتمادها عليه. لكن الحظر الكامل المفروض على تدفقات الغاز من روسيا ما يزال غير مستساغ سياسياً في الاتحاد الأوروبي.

 

مع ذلك، فإن السرعة التي تأقلمت بها أسواق غرب أوروبا مع تراجع الغاز الروسي المنقول عبر خط الأنابيب وجهت ضربة قوية بالأخص إلى "غازبروم". فقد انخفض الإنتاج 20% في 2022 إلى 412.6 مليار متر مكعب، وهو المستوى الأدنى في 15 عاماً على الأقل، وتدهور صافي دخل الشركة العائد على المساهمين أكثر من 41% ليصل إلى 1.23 تريليون روبل.

 

عادة ما تكون تركيا بين أكبر 3 مشترين من "غازبروم". بلغ حجم صادرات روسيا من الغاز المنقول عبر الأنابيب إلى تركيا 27 مليار متر مكعب في 2021، بعدما كان 16.4 مليار متر مكعب في 2020، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن "غازبروم".

 

تسعى روسيا حالياً للاستفادة من تلك العلاقة باستخدام تركيا فينقل الصادرات إلى أوروبا. الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي اعتبر نفسه وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا، رحّب بفكرة بوتين بإنشاء مركز للتجارة في تركيا، حيث يمكن تسويق الغاز الروسي، لكن التفاصيل ما تزال مبهمة.

 

كشفت "غازبروم" لأنقرة خططها التصورية لإنشاء مركز التجارة. كما تخوض الشركة أيضاً محادثات مكثفة مع بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، ووقعت عقد توريد مع أوزبكستان في يونيو، وتناقش مع أذربيجان وتركمنستان فرص التعاون. يبدو أن المحادثات مع كازاخستان تقدمت بشكل أكبر، إذ وقع الطرفان اتفاقية تعاون في مطلع 2023 قد تزيد واردات الغاز الروسي، لكنها ستؤدي أيضاً إلى إنشاء خطوط أنابيب جديدة لنقل الوقود إلى الصين.

 

كل تلك الخيارات -مركز التجارة التركي والأسواق الجديدة في آسيا الوسطى وخطوط الأنابيب الإضافية إلى الصين- تحتاج إلى سجال سياسي كبير لتتقدم، ما سيتيح لروسيا خيارات محدودة في المدى القصير فيما ستفعله بالغاز الفائض.

 

يشير خفض الإنتاج إلى أن أغلب الغاز سيبقى في باطن الأرض.

 

مع ذلك، تنتعش صادرات الغاز الطبيعي المسال من روسيا، رغم أن الارتفاع جاء من قاعدة منخفضة للغاية، لتشكل 12% من إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال إلى غرب أوروبا في العام الجاري. حيث استوردت فرنسا، وبلجيكا، وإسبانيا كميات قياسية من روسيا في 2022، وهي حقيقة بدأ المسؤولون الأوروبيون في إيلائها اهتماماً كبيراً.

 

 تتخذ هولندا وإسبانيا خطوات لحظر وارادت الغاز الطبيعي المسال من روسيا، لكن يُستبعد أن تتوقف المنطقة ككل عن شراء الوقود شديد البرودة من موسكو في المدى القريب.

 

تريد روسيا أن ترفع إنتاج الغاز الطبيعي المسال 3 أضعاف بحلول نهاية العقد، ويمكنها استخدام السعة الإضافية لخطوط الأنابيب بعد انخفاض التدفقات إلى أوروبا لتحقيق هذا الهدف. ترغب "نوفاتك" في ربط مرفق الغاز الطبيعي المسال في مورمانسك بشبكة "غازبروم" لنقل الغاز، في خطوة قد تسمح للشركة بتسييل الغاز الذي كان يُضخ إلى أوروبا في السابق.

 

اعتادت شركة "إم إي تي إنترناشيونال" (MET International)، ومقرها في سويسرا، المتاجرة في الغاز الروسي المنقول عبر الأنابيب. لكنها، مع تجار آخرين، تعتمد حالياً على الصفقات العالمية للغاز الطبيعي المسال لسد الفجوة في احتياجات أوروبا من الغاز، وهي مهمة وصفها الرئيس التنفيذي للشركة، غيورغي فارغا، بأنها "بالغة الأهمية".

 

وقال فارغا: "هناك اختلاف في نوع العلاقات، ففجأة يجب عليك أن تتواصل مع التجار العالميين، والمرافق الآسيوية، والشركات الأميركية والأفريقية. إنه تحول كبير لمشتري الطاقة في جميع دول أوروبا".

 

تلبية الاحتياجات المحلية

 

كانت روسيا توسع شبكة توزيع الغاز المحلية قبل بداية الحرب. ويجري تسريع وتيرة العملية في أنحاء مناطق روسيا الشاسعة لتعزيز الطلب ودعم الإنتاج. قال بوتين في العام الماضي: "أينما كان هذا ممكناً، يجب أن يصل الغاز، سواء عبر الأنابيب أو مسال، إلى المستهلك". والطموح هنا هو زيادة المعدل المحلي لإمكانية الحصول على الوقود من 73% في العام الماضي إلى 83% بحلول 2030.

 

لتحقيق ذلك الهدف، سيحتاج قطاع الغاز إلى ربط منازل، مثل المنزل الذي يملكه ألكسندرا وأناتولي أليكوف، اللذان يعيشان في قرية بمنطقة لينينغراد، بشبكة نقل الغاز.

 

 تلقى الزوجان في يناير زيارة من ديمتري ميدفيديف، الرئيس السابق ونائب بوتين في مجلس الأمن الروسي. وخلال تناول الشاي والكعك -صور الإعلام الحكومي الأمر كله بعناية ودقة- كشف ميدفيديف عن سبب زيارته: ربط الكوخ للتو بشبكة الغاز، بعد 15 عاماً من بنائه.

 

وقال ميدفيديف عبر كاميرات التلفزيون: "هناك ابتسامة على أوجه من حصلوا لتوهم على الغاز، شاهدناها حالاً. يمكنكم تمييز الفرق، كما يقولون"، متهكماً على العائلات الأوروبية التي أُجبرت على استبدال الغاز الروسي.

 

بعيداً عن الدعاية، الأرجح أن روسيا وقطاع الغاز بها سيشعران "بالفرق" في السنوات المقبلة.

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI