في عصر ذات يوم من عام 1964، وأنا في صف رابع ابتدائي رأيت الناس يقفون في باب أحد المحلات في سوق الطويل وحين اقتربت منهم لأعرف سبب وقوفهم بباب المحل وتزاحمهم تناهى إلى مسامعي صوت جمال عبد الناصر وهو يخطب من مدينة تعز وسمعته يقول إن على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل، ويومها رأيت الناس في غاية الفرح يبشرون بعضهم البعض قائلين:
"جمال عبد الناصر في تعز.. جمال عبد الناصر خطب في تعز وقال لبريطانيا تشل عصاها وترحل ".
وكنت أنا أفكر في عصا بريطانيا واقلِّبها في رأسي وخُيّل لي بأن بريطانيا معها عصا مثل عصا السيد محمد تلك التي ضرب بها بن حيدرة وسلخ بها جلده وجعله يتبول فوق نفسه.
كان ذلك هو مافهمته يومها وفي الأيام التالية حين رايت المظاهرات تخرج للشوارع وتطالب برحيل الاستعمار عرفت بأن بريطانيا هذه دولة احتلال وأن الشعب يريدها أن تخرج من عدن وكنت أفرح بالمظاهرات وأخرج مع المتظاهرين واهتف بخروج الاستعمار:
- برع برع يا استعمار
وذات يوم وأنا في بيت كافيتا سمعت امها تقول بأنها وابنتها في حال خروج البريطانيين من عدن سوف يغادرن عدن إلى الهند.
وكان كلام الأم هذا قد أثار استغرابي فقد ولدت هي وبنتها في عدن وتتكلمان اللهجة العدنية وكنت أحسبهما عدنيتين وحتى بعد أن عرفت انهما من كشمير الهند لم أجد مبررا للمغادرة، ورحت اتساءل بيني ونفسي عن سبب رغبة أمها في الرحيل وهل السبب هو الخوف من أن تتعرض هي وبنتها للأذى بعد خروج الإنجليز وفي مغرب ذات يوم وكافيتا تذاكر لي إنجليزي تناهى إلى مسامعنا صوت إطلاق نار وخرجت أجري إلى سوق الطويل ورأيت الناس يتحلقون حول شخص ملقى في الشارع وكان من أصل هندي اغتاله الثوار بتهمة أنه عميل للإنجليز وحين عدت وأخبرت أم كافيتا بمارايته شحب وجهها وأختفى منه ذلك الألق ونفس الشيئ رأيت وجه كافيتا قد شحب هو الآخر واكتسى بالفزع.
وفي مساء نفس اليوم طلبت مني الأم أن أمر عند ذهابي للمدرسة على كافيتا وأرافقها إلى مدرستها "البادري "وشعرت من كلامها بأنها خائفة على بنتها ومع أن كلامها أشعرني بالقلق إلا أنني فرحت بهذه المهمة التي طالما تمنيتها وكانت أمها قد طلبت مني ذلك اعتقادا منها بأن ابنتها سوف تشعر بالأمان وأنا بجانبها فيما الحقيقة هي أنني من شعر بالأمان ذلك لأن الشياطين.
الخمسة الذين بطحوني في الشارع وضربوني كانوا مازالوا يتحرشون بي وكنت على يقين من انهم سيعاودون ضربي عند اقرب فرصة سانحة ويومها وقد أبصروني أمشي بصحبة فتاة جميلة شعروا بالغيرة والغضب وحتى يهينونني أمام كافيتا راحوا يتحرشون بي وينادونني:
-يابو الروتي
وكنت أنا أغتلي من الداخل وأكتم زعلي وأخاف لو رددت عليهم أن يهجموا علي ويضربوني أمامها كما حدث في المرة الاولى وفي أول يوم اذهب فيه للمعهد العلمي الإسلامي.
وعندما سمعتهم كافيتا ينادوني : يابو الروتي قالت لي:
- ليش تزعل لما يقولوا لك أبو الروتي؟
قلت لها وأنا أكتم زعلي بأنني لا أزعل
وسألتني عن السبب الذي جعلني أتعارك معهم في المرة السابقة ؟!
وكان جوابي على سؤالها هو أن العراك حدث لأن كبيرهم خطف حقيبتي وهرب ورفض أن يعيدها لي وليس لأنه قال لي : يابوالروتي ".
وبعد أن عرفت السبب قالت لهم بأنها سوف تذهب لتشكوهم لمدير مدرستهم أن هم تعرضوا لي ثانية.
وفي اليوم التالي والأيام التي تلتها توقف الشياطين الخمسة عن التحرش بي ولم يعودوا ينادونني:
- يابو الروتي
ثم انهم وبسبب حظر التجول وشدة زحام الزبائن على الروتي ولخوفهم من ان يبدأ حظر التجول قبل ان يحصلوا على الروتي راحوا يتملقوني لحاجتهم للروتي وصاروا ينادونني باسمي عبدالكريم وأما كافيتا فكانت خجولة وتستحي ان تناديني ولولم انتبه لوجودها لظلت واقفة تنتظر دورها وربما يكمل الروتي قبل ان تتكلم.
وحدث اكثر من مرة ان أتت الى الفرن والزحام على أشد مايكون وكنت أشيرلها أن تعود إلى بيتها، وبعد أن يبدأ وقت حظر التجول وتغلق ابواب الفرن اكسر الحظر واذهب إلى بيتها ومعي الروتي وذات مرة تأخرت في الذهاب لأسباب لم أعد أذكرها وظنت أم كافيتا بأنني نسيت أو انني خفت من المجيئ وراحت تلوم بنتها وتقول لها بأنه ماكان يجب عليها أن تعود للبيت من دون الروتي، وفيما كانت الأم قد فقدت الأمل بحضوري كانت كافيتا تؤكد لها بأنني سوف أحضر.
وبمجرد ان طرقت الباب نزلت كافيتا السلم تجري لتفتح لي الباب وفرحت امها بمجيئي وعزمتني على عشاء وكانت تلك اول مرة تعزمني فيها على عشاء وبعد العشاء مباشرة تناهى الى اسماعنا اصوت انفجارات واصوات اطلاق نار وحين نهضت للخروج اعترضت أمها على خروجي وقالت بأن من الأفضل ان أبيت عندهن بدلا من أخرج وأعرّض نفسي للخطر وطلبت من ابنتها كافيتا أن تذاكر لي الإنجليزي، لكنني ليلتها لم أتحمس للمذاكرة وإنما كنت متحمسا للكلام مع كافيتا وكان بي رغبة أن أكلمها عن مشاعري نحوها وأن اقترب منها وألامسها وبعد أن خرجت أمها راحت كافيتا تسألني عن كلمات إنجليزية كانت قد كتبتها لي لاحفظها ولأنني لم أكن قد حفظتها قلت لها:
- كيف أقول أحبك بالإنجليزي؟
ولحظتها نظرت إليّ كافيتا نظرات فيها الكثير من اللوم والعتاب وقالت لي بأن هذه الكلمات غير مؤدبة فضلا عن أنها ليست موجودة في المقرر، ولن يمتحنوني بها وأنه من الأفضل أن أحفظ الكلمات الموجودة بالكتاب والتي سوف ترد في الامتحان.
وعندئذٍ لذتُ بالصمت وحين رأتني صامتا صمتا يشي بزعلي وحزني قالت لي: love
معناها حب
وأحبك معناها : I love you
وليلتها بدت لي هذه الجملة أعظم وأهم جملة في اللغة الإنجليزية وحتى لا تعيدني للدرس قلت لها:
-أقول لك بسر
قالت: ايش من سر؟
قلت لها: دخلت السينما
وبمجرد أن قلت لها بأنني دخلت السينما اتسعت حدقتا عينيها من الدهشة وقالت لي:
- من صدق دخلت السينما !
قلت : دخلت سينما هريكن وشفت فيلم :" صراع في الوادي ".
ورحت احكي لها قصة الفيلم وهي تصغي بتركيز شديد وشعرت وانا أحكي لها بتفوقي عليها وبأنها وهي المتفوقة علي بالدراسة وباللغة الإنجليزية تجهل لغة السينما وكانت تلك اول مرة اتحدث فيها عن السينما وعن الفيلم الذي شاهدته مع فتاة وعندما حدثتها عن الحب بين أمل – فاتن حمامة – وأحمد – عمر الشريف انطفأ حماسها لتعليمي اللغة الإنجليزية وتحمست لسماع قصة الحب ورحت أواصل سرد أحداث القصة وعندما وصلت إلى الحديث عن القُبلة نهضت كافيتا من مكانها وخرجت تسير على رؤوس أصابعها لترى ما إذا كانت أمها قد نامت أم لا.
وعند عودتها قالت لي بصوت خفيض:
- من باس الثاني؟
قلت لها: أمل باست أحمد
وبدت كافيتا مستغربة ومذهولة وغير مصدقة وقالت بإن الرجل هوالذي يقبل المرأة وليس العكس لكني اقسمت لها بأن الذي حدث في الفيلم هو العكس.
وسألتني عما اذا كنتُ قد قبّلتُ فتاة أوأن فتاة قبلتني وكان سؤالها هذا قد أثار ذاكرتي وذكرني بالبنت شمس في وادي الشويفة ورحت أحدثها عن" شمس الوادي "، وقلت لها:
-" علمتها القراءة والكتابة وهي علمتنا البوس"
قالت بصوت لايكاد يسمع : بوستك!
قلت: علمتنا البوس
وبعد ان قلت لها ذلك أشارت الي أن أخفض صوتي ومالبثت ان نهضت للمرة الثانية وخرجت تمشي على رؤوس أصابعها وبعد عودتها قالت لي وهي زعلانة بأنها علمتني اللغة الانجليزية وعلمتني كيف اقول : احبك بالانجليزي، فيما أنا لم أعلمها شيئا من الأشياء التي تعلمتها في السينما وعندئذ أرتبكت وقلت لها وقد تملكني شعور بالذنب:
-مو تشينا أعلمك؟
قالت: علمني البوس
وفي اللحظة التي هممت بتقبيلها وتعليمها البوس تناهى إلى أسماعنا صوت انفجار وقامت أمها من النوم ودخلت علينا وهي مرعوبة وسألتني عن الإنفجار وأين حدث؟!
قلت : بالميدان عند مقهاية زكُّو
قلتها هكذا من راسي ومن دون علم
ولحظتها طلبت من بنتها كافيتا أن تذهب إلى غرفتها وتنام لكن كافيتا قالت لأمها بأنها لن تنام إلا بعد أن تنتهي من تعليمي الدرس وبعد أن احفظ الكلمات الجديدة التي كتبتها لي، وتتأكد من أنني حفظتها مع الإسبيلينج لكن أمها قالت لها وهي تشير إليّ بأنني استيقظ باكرا للعمل وعليها أن تتركني أنام وعندئذٍ نهضت كافيتا وذهبت إلى غرفتها لتنام.
وليلتها لاهي علمتني انجليزي ولا انا علمتها البوس.