تعيش مدينة تعز، جنوب غربي اليمن، صيفًا استثنائيًا هذا العام، يختصر مفارقات مناخية ومأساة إنسانية مركبة. فبينما كانت الأمطار الغزيرة في سنوات سابقة تتحول إلى سيول مدمرة تجرف الأخضر واليابس، تواجه المدينة اليوم جفافًا غير معهود وحرارة خانقة تزيد من أزمة العطش وتسرّع وتيرة نضوب المياه.
حرارة قياسية وجفاف غير مسبوق
حتى نهاية يونيو 2025، لم تشهد تعز سوى هطولات مطرية شحيحة بالكاد تُذكر، في مقابل ارتفاع درجات الحرارة مقارنة بالأعوام الثلاثة الماضية. هذا التغير الحاد في نمط المناخ يعمق أزمة المياه، ويهدد ما تبقى من الموارد الجوفية والسطحية.
بحسب بيانات أممية وتقارير وزارة الزراعة اليمنية، كانت المرتفعات المحيطة بتعز تسجل معدلات أمطار سنوية تتراوح بين 400 و600 ملم، بل وصلت في بعض السنوات مثل 2022 إلى أكثر من 700 ملم، لكن صيف 2025 جاء ليكسر هذه القاعدة، ويطلق جرس إنذار من مخاطر تغير المناخ على واحدة من أكثر مدن اليمن اكتظاظًا بالسكان وأشدها حصارًا من قبل الحوثيين.
صيف 2025.. العطش القاتل
اليوم، تواجه تعز خطرًا جديدًا "الجفاف القاتل"، الحرارة المرتفعة ترفع معدلات التبخر إلى مستويات خطيرة، فيما شح الأمطار يجعل تأمين المياه اليومية مهمة شبه مستحيلة.
هذه المفارقة – من طوفان مدمر إلى عطش مميت - تلخص مأساة مدينة تعيش على حافة الانهيار البيئي والإنساني. وهو إنذار صارخ بضرورة التحرك العاجل لوضع استراتيجيات للتكيف مع التغيرات المناخية وإدارة الموارد المحدودة بشكل أكثر كفاءة قبل فوات الأوان.
حقول المياه وآبار تعز.. من عمود حياة إلى شريان مقطوع
لم تكن أزمة المياه في تعز وليدة التغير المناخي وحده، الحرب الحوثية المستمرة منذ 2015 عمّقت الجراح، الحصار المفروض على المدينة قطع خطوط الإمداد، وأوقف العديد من محطات الضخ، خاصة تلك الواقعة في مناطق سيطرة الحوثيين أو على خطوط التماس.
قبل الحرب، كانت تعز تعتمد على منظومة آبار موزعة على عدة حقول مائية لتلبية احتياجات أكثر من نصف مليون نسمة في المدينة. كانت الموارد تنقسم إلى:
-حقول الحوجلة والعامرة (شمال غرب): 18 بئرًا بطاقة إنتاجية تصل إلى 7 ملايين لتر يوميًا.
-حقول الحيمة وحبير (شمال): 23 بئرًا تنتج بين 4 و5 ملايين لتر يوميًا.
-حقول الضباب - حذران (غرب): 9 آبار تنتج قرابة 4 ملايين لتر يوميًا.
-الآبار الإسعافية داخل المدينة: 38 بئرًا كانت تغطي نحو 30% من الاحتياج المائي، بينما كانت الحقول الثلاثة الرئيسية تغطي 70%.
انفوجرافيك موّلد بالذكاء الاصطناعي
الحرب غيرّت كل شيء، توقف الضخ من الآبار في مناطق سيطرة الحوثيين أو خطوط التماس، وانخفض الإنتاج اليومي الإجمالي من أكثر من 20 ألف متر مكعب إلى أقل من 6 آلاف متر مكعب.
بحسب المهندس محفوظ أحمد منصور، أحد المسؤولين في قطاع المياه بتعز، قال "إن قطاع المياه في تعز تعرض لأضرار جسيمة خلال سنوات الحرب. من أبرز الخسائر تدمير وسرقة ونهب معدات الضخ ومحطات الإنتاج. إضافة إلى انقطاع الكهرباء عن المحطات الرئيسية مثل الضباب والحيمة والحوجلة، ما تسبب بتوقف ضخ المياه بشكل شبه كلي".
وأضاف "حتى اليوم، نعتمد على تشغيل بعض الآبار بالطاقة الشمسية أو المولدات، لكن ما يقارب نصف الآبار داخل المدينة ما زال بحاجة إلى تأهيل وتشغيل مستدام. ومن الحلول الممكنة دعم مشاريع الطاقة البديلة، ومنع الحفر العشوائي، والحفاظ على تغذية المياه الجوفية من خلال حصاد مياه الأمطار، وبناء سدود وحواجز مائية بدعم المنظمات".
ومع استمرار الحرب والحصار، تشير تقديرات مؤسسة المياه إلى أن 60% من أحياء المدينة لم تصلها قطرة ماء منذ سنوات، وأن 72% من شبكة الضخ والتوزيع والمنشآت المرتبطة بها تعرضت للدمار، ما يجعل تحدي تأمين المياه أحد أكبر الملفات الإنسانية في مدينة تعز اليوم، حيث يستخدم الحوثيون الموارد المائية كورقة ضغط لتحقيق أهداف سياسية وعسكرية واقتصادية.
شهادات من قلب المعاناة
يقول المواطن مروان طارق، لـ"يمن فريدم "، "أكثر ما يؤثر على حياتنا اليومية كآباء هو انعدام المياه. نحتاجها للغسيل والتنظيف والوضوء. نشتري ألفي لتر 15000 ألف ريال بعد انتظار طويل. المياه غير نظيفة أحيانًا، حتى ماء الكوثر ليس صحيًا وأصبح شعر 20 لتر ب ألف ريال".
أما بلال سعيد، فيضيف "نعاني أزمة مياه منذ أكثر من عشر سنوات. نشتري ألفي لتر ب 30 آلاف ريال تكفينا أسبوعين فقط. أعيش قرب بئر لكن أخشى انقطاع الماء أو أزمة مفاجئة، أما عن مياه الشرب فقد وصل سعر ألف لتر إلى 35000 ولم نحصل عليه إلا بعد أسبوع على الأقل من المعاناة".
مبادرات وحلول ممكنة
رغم التحديات، تستمر أعمال الحفر والتأهيل. المؤسسة تعمل على استكمال حفر 10 آبار جديدة في منطقة طالوق، مع تشغيل 5 حقول مائية حتى الآن. لكن هناك عوائق متعلقة بغياب التمويل الكافي، إضافة إلى اعتراضات بعض المواطنين في مناطق الحفر.
وفق المهندس وليد الحاج، نائب المدير الفني لمؤسسة المياه، يتم اليوم تشغيل بعض الآبار بالطاقة الشمسية، وتوصيل المياه إلى خزانات رئيسية، وتوزيعها وفق جدول زمني محدد.
اتفاق وجهود محلية وأممية
ومع استمرار أزمة المياه، قادت جهود محلية وأممية للتوصل لاتفاق بين الحكومة والحوثين بهد إدارة منظومة المياه في خطوط التماس، وهو ما رحب به فريق الأمم المتحدة في اليمن بالاتفاق الذي يعد هو الأول منذ ما يقرب من عقد من الزمن لإدارة منظومات إمدادات المياه بشكل مشترك عبر خطوط التماس.
وقال فريق الأمم المتحدة في اليمن في بيان أصدره اليوم الخميس 3 يوليو 2025، إن الاتفاق الفني بين المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي في مدينة تعز والحوبان يعد خطوة هامة نحو استعادة الخدمات الأساسية في واحدة من أكثر المحافظات اليمنية معاناة من شح المياه، الأمر الذي سيخفف من معاناة مئات الآلاف من السكان.
وأضاف أنه من المتوقع أن يسهم هذا الاتفاق في إعادة ربط شبكات المياه والصرف الصحي في محافظة تعز واستعادة خدمات أساسية كانت معطلة منذ ما يقرب من عقد من الزمان نتيجة النزاع والانقسام المؤسسي.
وأوضح البيان أن هذا الاتفاق يعتمد على جهود متواصلة بذلتها منظمات وجهات مانحة عديدة قدمت دعما فنيا وماليا وساهمت في تيسير الحوار والتنسيق على مدى السنوات الماضية.
وأضاف الفريق أنه من أجل تعزيز توفير المياه الآمنة في المناطق ذات الأولوية، سيستثمر صندوق اليمن الإنساني مبلغ مليوني دولار أمريكي لربط 90.000 شخص بمن فيهم النازحون داخليا بشبكات المياه وذلك في إطار دعم الانتقال من الاحتياج الإنساني إلى مسار التنمية المستدامة.
وأشاد فريق الأمم المتحدة في اليمن بجهود السلطات المحلية للمياه في تعز، داعيا المانحين والشركاء إلى تعزيز الاستثمارات في البنية التحتية للمياه لضمان وصول أكثر من 600.000 شخص إلى مياه آمنة ونظم صرف صحي موثوقة.
تطلعات لحل الأزمة
إن أزمة المياه في تعز ليست مجرد مشكلة خدماتية، بل قضية حياة أو موت لمئات الآلاف من المدنيين العالقين بين حصار الحرب وتغيرات المناخ. ومع استمرار النزاع وتعثر الحلول، يبقى الأمل معقودًا على وعي جماعي وتدخلات جادة تضمن حق السكان في مياه نظيفة وآمنة، وتعيد لهذه المدينة المحاصرة أبسط مقومات الحياة.