10 سبتمبر 2025
6 سبتمبر 2025
يمن فريدم-اندبندنت عربية-عزالدين أبو عيشة
ما حدث من تفجير برج "مشتهى" تستعد إسرائيل لتكراره يومياً في غزة (أ ف ب)


بعد أن فقدت مدينة غزة عمرانها وحياتها المدنية وتحولت إلى كومة ركام، بدأت إسرائيل مرحلة تدمير المباني المتعددة الطبقات، إذ نسفت برج "مشتهى" السكني وهددت "برج مكة"، وتوعدت جميع المباني الشاهقة بالمصير نفسه، ولتفجير "الأبراج السكنية" قصة طويلة لها بعد سياسي وعسكري ومدني.

بينما كان سكان برج "مشتهى" مشغولون في قضاء متطلباتهم اليومية، اتصل ضباط الجيش الإسرائيلي بأحد السكان وأمروه بإخلاء المبنى الشاهق الذي يرتفع عن سطح الأرض 55 متراً ويضم 16 طابقاً، وما يزيد على 80 شقة سكنية، ويعيش فيه أكثر من 400 غزي.

ويقع "برج مشتهى" غرب مدينة غزة ويطل على البحر ويعد من أبرز المعالم العمارية لأكبر مجمع حضري في القطاع، ويضم داخله مطاعم ومحال تجارية ومكاتب مؤسسات ومقار لشركات ووحدات سكنية، وتحيط به ساحة "الكتيبة" الكبيرة المساحة.

خلال الحرب الحالية قصف الجيش الإسرائيلي الطبقات العالية منه، وبرر ذلك بمنع الكشف عن الجنود ومراقبتهم، وعندما عاد النازحون لمدينة غزة تحول المبنى الشاهق المدمر جزئياً إلى مجمع سكني للنازحين الذين هدمت بيوتهم، ومحيطه بات أكبر معسكر خيام يضم ما يزيد على 2500 عائلة.

بعد ساعات قليلة من تهديد البرج، أغارت الطائرات الحربية الإسرائيلية بأربع قنابل جو أرض على المبنى ودمرته بصورة كاملة وحولته إلى كومة ركام، وتشرد سكانه والنازحون الذين يعيشون حوله في الشوارع من دون مأوى.

ليست أبراجاً شاهقة

ما حدث من تفجير برج "مشتهى" تستعد إسرائيل لتكراره يومياً في غزة، إذ أعلن الجيش عن عملية تدريجية لتدمير المباني متعددة الطبقات في مدينة غزة المركزية، وادعى المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي إيفي ديفرين أن مهاجمة المباني المرتفعة جاءت بعدما حولتها "حماس" إلى بنى تحتية عسكرية.

ولا توجد في قطاع غزة بأكمله عمارات سكنية شاهقة الارتفاع أو أبراجاً بالمعنى الحرفي، إذ تمنع إسرائيل تشييد أبنية ضخمة في القطاع بحجة أن تلك العمارات تكشف أراضيها، وقد تشكل خطراً على أمنها.

لكن في غزة ثمة مباني متعددة الطبقات، وتختلف كل بناية في عدد طبقاتها، أعلى وأكبر تلك المباني مكون من 16 طبقة فقط، وفي كل طبقة توجد شقق ووحدات سكنية، على الغالب كل طبقة مكونة من أربع إلى ستة وحدات.

في مدينة غزة وحدها هناك 1540 مبنى سكنياً متعدد الطبقات يعرف محلياً بأنه برج سكني، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني (مؤسسة حكومية)، ودمرت إسرائيل خلال الحرب المستمرة منذ 23 شهراً عدداً كبيراً منها، لكن من غير المعروف كم عدد الأبراج التي فجرت بالفعل، إذ تعجز فرق وزارة الإسكان عن القيام بجولات الإحصاء.

ما أهمله الدمار

خلال المرحلة الأولى والثانية من الحرب الإسرائيلية على غزة، كان الجيش مشغولاً بتفكيك قدرات حركة "حماس"، وبالتأكيد دمر كثيراً من المباني، لكن في المرحلة الثالثة من القتال ركزت تل أبيب عمل قواتها على نسف المنازل وتفجيرها.

وبالنظر إلى جغرافيا غزة، فإن إسرائيل دمرت شمال القطاع (بيت حانون وبيت لاهيا وجباليا) بالكامل، ولا يوجد أي مبنى في تلك البقعة قائماً، إذ سحقت الحياة هناك، وشمل ذلك البنى التحتية بمختلف تفاصيلها، وكذلك سحق الجيش مدينة رفح بالكامل، ودمر قرابة 70 في المئة من محافظة خان يونس.

حالياً تبقى في القطاع منطقتان لا يزال فيهما جزء بسيط من المباني غير المدمرة، وهما محافظة دير البلح وأجزاء من مدينة غزة المركزية، وفي المنطقتين يعيش الغزيون البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة يتزاحمون ضمن بقعة ضيقة للغاية.

تعرف إسرائيل ما بقي في قطاع غزة قائماً، لذلك أطلقت عملية "عربات جدعون 2" وخصصتها لاحتلال محافظة غزة ودير البلح، وهدد وزير الدفاع يسرائيل كاتس "حماس" بتحويل غزة إلى كومة أنقاض مثل رفح وبيت حانون.

ويقول كاتس "الآن تفتح بوابات الجحيم على غزة، مقاتلاتنا تشن غارات مكثفة تستهدف عدداً من الأبراج السكنية بمدينة غزة، لن يغلق الجحيم حتى تقبل ’حماس‘ شروطنا لإنهاء الحرب، وإلا ستدمّر المدينة وسحق بالكامل".

بالنسبة إلى مدينة غزة، فإن جزءاً كبيراً منها دمره الجيش بالفعل أثناء عملية "عربات جدعون 1"، وخلال المرحلة التمهيدية لاحتلال غزة، إذ سحق الجيش الأحياء الشرقية، وهي الشجاعية والزيتون والصبرة والتفاح والبلدة القديمة والدرج والشيخ رضوان، ما نسبته 40 في المئة من إجمال مساحة مدينة غزة.

وما بقي في أكبر مجمع حضري فقط أحياء تل الهوى والرمال الجلاء والنصر والشاطئ، وجميع تلك المناطق تقع غرب مدينة غزة، وفيها تنتشر الأبراج السكنية والعمارات متعددة الطبقات، ومن بين المناطق غير المدمرة أيضاً محافظة دير البلح وتضم (دير البلح والنصيرات والمغازي والبريج والزوايدة).

نهج قديم منذ 2014

في المحصلة، لا يزال في غزة بعض المعالم العمرانية التي تميزها، وأيضاً عدد قليل من الأبراج السكنية والبنايات المتعددة الطبقات التي لم ينسفها الجيش الإسرائيلي، وجميع تلك العمارات مهددة الآن بالنسف الكامل.

وتعد سياسة تدمير الأبراج نهج إسرائيلي قديم شرعت فيه تل أبيب عام 2014، وكانت تلك السياسة جزئية ولكنها تحولت إلى شاملة وثابتة خلال الحرب الحالية.

ويقول أستاذ العلوم السياسية منصور أبو كريم "تعتقد إسرائيل بأن استهداف الأبراج يزيد الضغط العسكري على الفصائل المسلحة، ويدفعها في بعض الأحيان إلى القبول بتقديم تنازلات في المفاوضات التي يديرها الوسطاء لوقف القتال".

ويضيف أن "تفجير المباني المتعددة الطبقات شكّل عام 2014 وسيلة ضغط قوية على ’حماس‘ والفصائل، لقد كانت الأبراج آخر جولات الحرب حينها، في ذلك الوقت طالب عضو المكتب السياسي للحركة موسى أبو مرزوق الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالتدخل لإنهاء الحرب، وبالفعل أعلن الرئيس وقفاً لإطلاق النار بين الطرفين بناء على تفاهمات حرب عام 2012".

ويتابع أبو كريم أن "إسرائيل ستواصل سياساتها المتعلقة باستهداف الأبراج السكنية، المرحلة الحالية من الحرب على غزة ستركز بصورة أساس على استهداف تلك الأبراج وتدميرها، ومن الممكن أن تدفع تلك السياسة ’حماس‘ إلى تقديم تنازلات كبيرة".

أبعاد مدنية

لتدمير الأبراج السكنية أبعاد اجتماعية كبيرة، يقول حكمت يوسف "قصف الأبراج ليس مجرد فعل عسكري، بل رسالة مروعة هدفها كسر إرادة شعب بأكمله وتدمير الحياة واجتثاث الشعور بالأمان وزرع الخوف في قلب كل طفل وامرأة وشيخ، إسرائيل لا تقصف الحجارة بل معنى الانتماء، وتحاول تفكيك الروابط ونزع الناس من جذورهم لتجعلهم غرباء في وطنهم، أو لاجئين في العدم. تل أبيب تريد للغزي أن يستيقظ كل يوم على سؤال، أين سنموت اليوم، وليس كيف سنحيا".

أما رجائي، فيوضح أن "تدمير المباني المرتفعة في غزة يهدف بالدرجة الأولى إلى ترهيب السكان المدنيين ودفعهم قسراً إلى النزوح، ويزداد هذا التأثير عندما تكون خيام النازحين قريبة من تلك الأبنية، مما يجعل مشهد الدمار الهائل عاملاً إضافياً في تحطيم معنوياتهم وزيادة خشيتهم من مواجهة الموت".

بدوره يشرح خليل أن "إسرائيل لا تكتفي بتدمير المنازل المتفرقة في الأحياء والمخيمات، بل تصر على هدم الأبراج التي تمثل معالم بارزة في ذاكرة المدينة وهويتها، الأبراج التي كانت قبل الحرب شاهدة على تطور عمراني نسبي في غزة المحاصرة، تحولت إلى شاهد على عملية محو منظمة لكل ما يربط المكان بماضيه وحاضره".

ولتفجير المباني المرتفعة أيضاً أبعاد سياسية استراتيجية، فيقول الباحث السياسي رفيق هاني "تحولت الأبراج السكنية إلى رمز لنهج جديد في هذه الحرب الدامية قائم على التدمير المنهجي لكل مقومات الحياة، إسقاط برج تلو آخر لا يعكس فقط إصراراً إسرائيلياً على توسيع نطاق الدمار، بل يكشف عن استراتيجية أعمق هدفها إفراغ المدينة من سكانها وقطع الطريق على أية تسوية سياسية محتملة".

ويضيف أن "قصف الجيش للأبراج السكنية يأتي لتحقيق سلسلة من الأهداف، أبرزها تحويل القطاع إلى منطقة غير صالحة للعيش بعد الحرب، فتلك الأبراج هي العامل الوحيد الذي يخفف التكدس السكاني في القطاع، على اعتبار أنه البقعة الجغرافية الأكثر تكدساً في العالم، بالتالي فإن تدميرها سيؤدي إلى زيادة الضغط السكاني الذي تعانيه غزة".

ويوضح أن إسرائيل تريد من التدمير أن يكون مدخلاً للتهجير، على غرار ما جرى عام 1948، إذ استخدم الرعب لاقتلاع مئات آلاف الفلسطينيين، والهدف الآن دفع الناس إلى النزوح الجماعي ثم إبقاؤهم بلا أفق عودة أو إعمار.

الناس منهكون وإسرائيل تبرر

أما عسكرياً، فيقول الباحث في العلوم الأمنية واصف عريقات إن "الأبراج السكنية تمثل هدفاً استراتيجياً لإسرائيل في عملياتها العسكرية، باعتبارها نقاط ارتفاع يمكن للفصائل المسلحة الاستفادة منها في تنفيذ أية هجمات".

ويتهم المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني محمود بصل، إسرائيل بتنفيذ سياسة ممنهجة للتهجير القسري بحق المدنيين باستهدافها المباني المرتفعة، ويردف أن "هذا ليس مجرد قصف للحجر، بل سياسة تهجير قسري لعائلات كاملة ترمى في العراء بلا مأوى، في غياب أية مساحات آمنة".

ويقول متحدث الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك إن "مدينة غزة التي كثيراً ما ارتبطت في الوعي الجمعي بصورتها على البحر وأبراجها الجميلة التي شكلت ملامحها الحديثة، تبدو اليوم بلا ملامح، وهذه التطورات في قطاع غزة تجبر أعداداً متزايدة من الناس على الفرار في مكان نزح فيه الجميع تقريباً بالفعل".

لكن، ما هي رواية الجيش الإسرائيلي؟ يرد المتحدث العسكري أفيخاي أدرعي أن "المباني المتعددة الطبقات تحولت إلى بنى تحتية عسكرية تابعة لحركة ’حماس‘، سنهاجم خلال أيام تلك المباني تمهيداً لتوسيع العملية بمدينة غزة".

ويقول "رصدنا نشاطاً مسلحاً مكثفاً لـ’حماس‘ في مدينة غزة، بخاصة في الأبراج المتعددة الطوابق، لقد دمجت الحركة وسائل استخباراتية ومواقع قنص وإطلاق صواريخ، وأنشأت مراكز سيطرة في أبراج بغزة".

ويشير إلى أن "إسرائيل ملتزمة قواعد الحرب، لذلك اتخذت جميع الإجراءات لتفادي إصابة المدنيين قبل قصف المبنى، بما في ذلك توجيه تحذيرات للسكان واستخدام ذخيرة دقيقة، إضافة إلى الاستطلاع الجوي وجمع المعلومات الاستخباراتية".

لكن "حماس" المتهمة باستخدام المباني لأنشطتها تنفي ذلك، ويقول عضو المكتب السياسي فيها عزت الرشق إن "محاولات تبرير استهداف الأبراج السكنية في غزة ذرائع واهية وأكاذيب، نحن لا نستخدم المنشآت المدنية لأغراض عسكرية، إسرائيل تواصل سياسة الإبادة والتدمير الشامل للقطاع".
 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI