في بلد يعاني ويلات الحرب والدمار منذ 8 سنوات، وأوضاع إنسانية صعبة ومعقدة، جعلت 80% من المواطنين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، يظهر في الجانب الآخر فسادا أرهق الدولة، ومحسوبية جعلت أبناء وأهالي النافذين والمسيطرين على القرار يستأثرون بالوظيفة العامة، والمناصب العليا في الهيئات والمؤسسات، على حساب الكفاءات وذوي الاختصاص.
ويعد السلك الدبلوماسي أبرز بؤر الفساد في الأجهزة التابعة للحكومة الشرعية، حيث كيّفت الوظائف والمناصب على مقاسات أهالي المسؤولين، واستحدثت العديد من الملحقيات إرضاء لأصحاب النفوذ والمصالح في خروقات صريحة وواضحة للقوانين المنظمة للعمل الدبلوماسي اليمني.
وليست الملحقيات الفنية التابعة للبعثات الدبلوماسية إلا واحدة من المرافق التي استشرى فيها فساد النافذين في الدولة وحولها إلى مظلة لتغطية العبث الحاصل في وظائف السلك الدبلوماسي، بعيدا عن وظيفته المهنية لاسيما منذ العام 2015 وما بعدها.
مغريات الدبلوماسية
يرجع مراقبون إلى أن أسباب انتشار الفساد في السلك الدبلوماسي أكثر من باقي الأجهزة الأخرى إلى المكانة الاجتماعية المرموقة التي تضفيه الوظائف الدبلوماسية على الأشخاص باعتبارها ضمن المناصب العليا علاوة على المرتبات الكبيرة التي لا تقل عن 4000 دولار شهرياً في الحدود الدنيا.
ويرى الصحفي نبيل الاسيدي-والذي كان له دور كبير في نشر فساد البعثات الدبلوماسية في السنوات الأخيرة- أن تفشي الفساد في الوظائف الدبلوماسية لا يقتصر على هذه الأسباب، ويعتقد أن كثير من المسؤولين الذين استثروا من أموال الدولة بسبب غياب الأجهزة الرقابية والقضاء، وأموال حصلوا عليها من دول خارجية جعلهم يستغلون الوظائف في الخارجية ليقومون بعمليات غسيل أموال من خلال شراء العقارات والاستثمارات، وتثبيت أبنائهم فيها لإدارتها بطريقة أو أخرى، وتكون الوظيفة الدبلوماسية أولى هذه الخيارات.
ويؤكد الاسيدي في حديثه لـ"يمن فريدم" أن النافذين يرغبون في البعد عن اليمن إلى دول أكثر أمنا وتساهم في استقرارهم وحصولهم وعائلاتهم على الجنسيات، وترتيب أوضاعهم.
عبث ومحسوبية
في العام 2021 شُكلت لجنة بقرار من رئيس الوزراء،معين عبدالملك، لمراجعة شروط وحيثيات إنشاء الملحقيات الفنية وقرارات التعيين والطلبات، وأظهر تقرير نتائج اللجنة حجم العبث الحاصل في التوظيف والمخالفات القانونية.
وبحسب التقرير فإن عدد الملحقيات التابعة للجمهورية اليمنية 78 ملحقية بالسفارات، والمعينين فيها 127 منهم 101 موظف، انتهت فترات عمل بعضهم من 8 سنوات و26 موظف فقط لم تنتهي فترتهم.
وأوضح التقرير، وجود 13 ملحقية ثقافية موزعة على 13 بعثة، ويعمل فيها 27 موظفا، و18 ملحقية إعلامية في 10 بعثات، ويعمل فيها 14 موظفا، كما توجد 13 ملحقية عسكرية في 13 بعثة، ويصل كادرها إلى 29 موظفا، و5 ملحقات أمنية وملحق شُرطي، علاوة على 10 ملحقيات تجارية موزعة على 10 بعثات.
استحداث ملحقيات
الفساد في الملحقيات الفنية لم يقتصر على المحسوبية في توظيف أقارب المسئولين وذويهم، وإنما وصل إلى استحداث ملحقيات خارج القانون لتلبية مصالح ورغبات بعض النافذين، حيث أكد التقرير أنه بعد 2015 تم تعين 29 موظفا في 9 ملحقيات متنوعة جميعها لم تنشأ وفقا لقانون السلك الدبلوماسي وليست البلد بحاجة إلى وجودها كالملحقيات التجارية في الكويت وقطر الذي لا يوجد بينها وبين اليمن أي تبادل تجاري.
وتتعارض كثير من الملحقيات المستحدثة مع قرار رئيس مجلس الوزراء رقم "421" للعام 2003 بإصدار اللائحة التنفيذية للقانون رقم "19" لسنة 2003 بشأن البعثات والمنح الدراسية والذي يشدد على أن تنشأ الملحقية الثقافية عندما يكون عدد الطلاب المُبتعثين 250 طالبا وأكثر ويكون البلد مرشحا لاستقبال مزيدا من الموفدين.
وتعد الملحقيات المستحدثة ضرب من العبث والفساد ولا تؤدي أي وظيفة حقيقية لصالح البلد، ويتم استحداث الملحقيات والوظائف كإكراميات نهاية خدمة وتوزع الوظائف عن طريق المحاصصة لذوي النفوذ بعيدا عن الاحتياج الحقيقي، كما يؤكد مصطفى الجبزي - موظف سابق في وزارة الخارجية-.
ويقول الجبزي لـ"يمن فريدم": "العمل القنصلي يتطلب كوادر مؤهلة وكفاءات ولديها معرفة بالعمل والمهام والتشريعات والقوانين اليمنية بعيدا عن العبث والمجاملات وتكديس الموظفين".
انتهاك القانون
القانون رقم 2 لسنة 1991، بشأن السلك الدبلوماسي والقنصلي في المادة (15) يشترط عند تعيين الموظف بالملحقيات الفنية التابعة لإحدى البعثات الدبلوماسية أن يكون مستوفياً للشروط الواجب توافرها في عضو السلك، وتطبق عليه القواعد المحددة في القانون واللائحة والأنظمة والقرارات الأخرى التي تصدر في هذا الشأن، ويحدد ترتيب اسبقية الملحقين الفنيين مع باقي أعضاء البعثة الدبلوماسية بحسب القائمة الدبلوماسية.
وعلى الرغم من النصوص القانونية الواضحة والشفافة التي تحدد طريقة التعيين في السلك الدبلوماسي إلا أن التوظيف في الوقت الراهن يتم بطريقة سرية وغامضة، وتتحكم فيه التوصيات والوساطات بعيدا عن المعايير القانونية المحددة في القانون الدبلوماسي والقنصلي الذي يشترط في المادة (28) : أن على من يلتحق بالعمل الدبلوماسي يجب أن يجتاز بنجاح امتحان القبول الذي يصدر بقرار من الوزير.
وتؤكد المادة (30) أن الوزير يحدد أسماء أعضاء اللجنة المشرفة على الامتحان وتاريخ ومكان انعقاده، ويتم الإعلان عنه رسمياً قبل الموعد المحدد لإجرائه بوقت كاف، وتعتمد نتيجة الامتحان بقسميه التحريري والشفوي بقرار من الوزير، وتحدد أحقية الناجحين وفقاً لترتيب نجاحهم في الامتحان، وإذا تساوى اثنان أو أكثر قدم الأعلى مؤهلاً، فالأقدم تخرجاً، فالأكبر سناً.
توصيات مهملة
تتنوع الخروقات القانونية في التعيينات بالعمل الدبلوماسي، وتتشعب لدرجة يصعب حصرها، فمن المحسوبية والاستئثار بالوظائف، واستحداث ملحقيات بلا جدوى، إلى تمديد عمل موظفي البعثات مدد قياسية، كما أكد تقرير اللجنة المكلفة مراجعة شروط وحيثيات إنشاء الملحقيات الفنية وقرارات التعيين.
وبحسب التقرير، تجاوزت بعض مدد التمديد 8 سنوات وما يزال أصحابها يمارسون أعمالهم في مخالفة صارخة للمادة رقم (17) من قانون السلك الدبلوماسي التي تحدد فترة العمل لموظفي الملحقيات الفنية المنتدبين في البعثات الدبلوماسية، بما لا يزيد على أربع سنوات ، يعودون بعدها للعمل بالجهات التابعين لهم.
ولهذا اقترح تقرير تقييم الملحقيات على مجلس الوزراء إعادة النظر في الملحقيات وتصحيح وضعها القانوني، واشتراط بقاء الملحقية بوجود الحاجة لها، وأوصى بإلغاء تمديد كل من انتهت فترة ابتعاثه المعروفة بخمس سنوات منذ القرار الأول لتعينه، بالإضافة إلى إلغاء الملحقيات التي أنشئت بعد عام 2015 خارج القانون وجميع وظائف نواب ومساعدي الملحقيات.
وعلى الرغم من مرور قرابة عام على تقديم اللجنة لتقريرها إلا أنه لم يتغير شيء، وما يزال الفساد يتمدد، وتنفق الدولة من خزنتها ما يزيد عن 5 مليون دولار شهريا رواتب لموظفين يعملون بطريقة مخالفة للقانون كما يؤكد الصحفي فتحي بن لزرق في منشور عبر حسابه الشخصي في فيس بوك.
دبلوماسية بلا هدف
التعيينات الكثيرة وتكدس الموظفين في البعثات الدبلوماسية لم يقدم شيء في خدمة القضايا الوطنية وإنهاء الانقلاب وما تزال كثير من الدول تتعامل مع جماعة الحوثي وكأنها الممثلة الشرعية للشعب اليمني والمدافعة عن حماه وأرضه.
ويرجع نبيل الاسيدي أسباب فشل الدبلوماسية إلى كونها مشتتة كحال الدولة في الوقت الراهن وغياب الرؤية الواضحة لتقديم القضية الوطنية، علاوة على أن الدبلوماسية مخترقة ما تزال من قبل جماعة الحوثي من سفراء وموظفين، ويؤكد أن التعيينات من خارج السلك الدبلوماسي، وتغييب الكفاءات أسهمت في إضعاف الرسالة الدبلوماسية.
يتعاظم الفساد ويستشري في كل مفاصل الدولة، في الوقت الذي لا يستلم الجنود والمرابطين في الجبهات الذين يضحون بأرواحهم من أجل البلد وأسر الشهداء والجرحى سوى راتب واحد كل 8 أشهر في الغالب.
وكشفت الحرب هشاشة القيم الوطنية السياسية والحزبية لمسئولي الدولة وعرت ضمائرهم الفاسدة، وأظهرت جشعهم في الحصول على المال والمنصب على حساب الوطن وأظهرت أن لديهم أهداف غير متناسقة مع أهداف البلد ومصالحها.