على استحياء، وبخطوات مترددة، كان الصحفي "محمد دماج" يتجه نحو"المخبز" القريب من منزله، ليضم اسمه إلى كشف المستفيدين من مساعدات الكدم "الخبز البلدي" المجانية، التي يوزعها على الفقراء، ويتمنى أن لا يصادف شخصاً معرفاً من عمال الفرن، لكن سرعان ما تسمرت قدماه أمام الباب، وعجز عن الحديث عندما خابت أمنيته، وواجهه عامل"المخبز" المعروف بالترحيب.
تعثر لسان دماج مرات عديدة، وهو يحاول أن يخبر العامل سبب حضوره، وبصعوبة بالغة حدثه عن رغبته أن يكون ضمن المستفيدين من الكدم المجانية، فوافق العامل بسرعة حتى يخرجه من الإحراج الذي كان غارقا به، وأكد له أن بإمكانه استلام حصته من اليوم التالي.
هروب من شبح الموت
في الساعة الخامسة يصحو دماج من نومه مسرعا نحو "المخبز" ليقف في طابور من الفقراء والمحتاجين، ويحصل على 18 كدمة، لا تكفي أسرته وجبة واحدة، إلا أنه يرى أنها تخفف الضغط على كيس القمح الذي لم يعد قادرا على شرائه.
"دماج" صحفي لديه سبعة من الأبناء والبنات، وموظف حكومي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عاش حياة ميسورة حتى اندلعت الحرب نهاية 2014، واقتحم الحوثيون العاصمة صنعاء، واستولوا على الحكم، فتبدلت أحواله وانقطع راتبه كغيره من موظفي الدولة منذ ما يقارب الست السنوات، وأضطر إلى بيع كل مدخراته، وغرق في الديون.
لم يكن دماج يفكر يوماً أن يصل به الحال إلى البحث عن الخبز المجاني والاصطفاف مع عشرات الفقراء، للبحث عن اللقمة الجافة، إلا أن الأوضاع الاقتصادية المتردية جعلته يستنفذ كل الوسائل، ويطرق كل الأبواب، ليهرب من شبح المجاعة، كما يقول لـ"يمن فريدم".
البحث عن الصدقات
ارتفعت أسعار المواد الغذائية إلى حد لم يعد بمقدور الكثير من الناس شرائها، ووصل ثمن كيس القمح المطحون "50 كجم" إلى 20 ألف ريال – ما يقارب 36 دولار أمريكي- في ظل انقطاع شبه تام للدخل عند أغلب الأسر اليمنية.
ليس دماج وحده من أجبرته الظروف على البحث عن الخبز المجاني، وكثير من الموظفين الذين كانوا مستوري الحال، ولا يحتاجون إلى المساعدات، جارت عليهم الظروف، ووجدوا أنفسهم في طوابير المعوزين على أبواب المخابز والأفران والمطاعم.
"أم محمد" -معلمة في مدرسة حكومية- تعيش الأوضاع ذاتها، وأُجبرت في السنوات الأخيرة على البحث عن الخبز المجاني، و كمية صغيرة من الأرز في مطعم يقع بالشارع الذي تقطنه لتقي عائلتها من الموت جوعا.
تقول "أم محمد" لـ"يمن فريدم": "في الحرب فقد الموظف الحكومي كرامته، ودفعه الفقر إلى الاستجداء والبحث على المساعدات والصدقات، بعد أن كان الراتب يغطي احتياجاته ويصون ماء وجهه".
اتساع دائرة الفقر
تواجه اليمن أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ المعاصر بسبب الحرب التي أشعلها الحوثيون، وتؤكد الأمم المتحدة أن 80 % من اليمنيين يحتاجون للمساعدة الماسة الضرورية للحياة.
وتقدر الأمم المتحدة حاجة اليمن إلى مساعدات سنوية تصل إلى 4 مليارات دولار، إلا أنها لم تجمع سوى مليار و300 مليون دولار في مؤتمر المانحين الماضي، مما جعلها تقلص من حجم المعونات المقدمة للأسر الفقيرة والنازحة لتتسع دائرة الفقر إلى أعداد أكبر.
وبحسب مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن فإن نقص التمويل يهدد بقطع الدعم المنقذ للحياة لملايين الأشخاص، وسيضطر 11 مليون شخص إلى الاعتماد على حصص غذائية مخفضة.
وهذا ما أكدته المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، التي أشارت في شهر ابريل الماضي في تغريدة على "تويتر" إلى أن أكثر من 25.5 مليون يمني من إجمالي 30 مليون نسمة، باتوا يعيشون تحت خط الفقر، جراء تداعيات الحرب في البلاد، المستمرة منذ أكثر من سبع سنوات.
ووسط دوامة الفقر والمجاعة، يسقط المواطنين وموظفي الدولة من حسابات الأطراف المتصارعة التي كرست قياداتها ومسئوليها جهدهم لتحقيق مصالح شخصية، فضاعت حقوق الأغلبية العظمى من الشعب ومن ضمنهم موظفي الدولة الذين صارت حياتهم ومرتباتهم ورقة سياسية للمناورة وتسجيل المواقف.
مواطنون يقفون في طوابير أمام أحد المخابز المخصصة للفئات الأشد فقرا في صنعاء