كشفت ليالي الشغب التي تعيشها جميع أنحاء فرنسا مرة أخرى عن التوترات الاجتماعية الحادة في البلاد في وقت يتزايد فيه الاستقطاب السياسي، بما يذكر بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور بالأحياء الفقيرة والإرث الطويل من إهمال الحكومة، وذلك بحسب تحليل نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز" البريطانية.
وكانت الليلة الخامسة قد شهدت اعتقال ما مجموعه 322 شخصا، بينهم 126 في العاصمة، باريس، وضاحيتها القريبة، بحسب وزارة الداخلية، مع تراجع حدة أعمال العنف التي أثارها مقتل المراهق، نائل، برصاص شرطي.
وذكرت وكالة "فرانس برس" أن قوة كبيرة من عناصر إنفاذ القانون انتشرت على طول جادة الشانزليزيه باريس، في حين انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي منذ الجمعة دعوات إلى التجمع.
ووفقا لوكالة "رويترز" فإن النقطة الأكثر سخونة في مرسيليا حيث أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق مثيري شغب وخاضت اشتباكات مع شبان في محيط وسط المدينة في ساعة متأخرة من الليل.
من جانبه، قال وزير العدل الفرنسي، إريك دوبون موريتي، إن 30 في المئة من الذين ألقي القبض عليهم لا تتجاوز أعمارهم 18 عاما.
وفي سياق متصل، أوضح وزير المالية، برونو لو مير، أن أكثر من 700 متجر ومطعم وفرع بنكي تعرضت "للنهب والسرقة وأحيانا للحرق حتى دُمرت تماما منذ يوم الثلاثاء".
"على برميل بارود"
وبحسب التحليل الذي خطه مراسل الصحيفة البريطانية للشؤون الأوروبية، بين هيل، فإن الاحتجاجات الأخيرة تظهر أن الأحياء الفقيرة والمختلطة عرقيا في فرنسا لا تزال "على برميل بارود"، وأن مشاعر سكانها تعاني "الشعور بالظلم والتمييز العنصري وإهمال الحكومة لهم".
ورغم فداحة أعمال الشغب التي تشهدها فرنسا، إلا أنها لم تصل بعد إلى مستوى عنف الاحتجاجات التي وقعت في عام 2005، عندما جرى إحراق أكثر من 10 آلاف سيارة وتضرر أكثر من 230 مبنى عام في موجة شغب استمرت ثلاثة أسابيع.
بيد أن السلطات تخشى تكرار ما حدث قبل نحو 18 عاما، إذ أن أعمال الشغب التي اندلعت في 2005 كانت حدثت أيضا بسبب مقتل مراهق غير أبيض عقب مطاردته من بعض عناصر الشرطة.
وما يهدد بزيادة وتيرة الاحتجاجات، الدور المؤثر لوسائل التواصل الاجتماعي في التشجيع على نشر الاضطرابات، ناهيك عن أن اليمين المتطرف أضحى أقوى مما كان عليه في عام 2005.
وفي هذه المرة سعى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وحكومته إلى نزع فتيل التوترات قدر الإمكان بدلا من تأجيجها، وذلك على عكس ما حدث في عام 2005، عندما وصف وزير الداخلية آنذاك، نيكولا ساركوزي، الشبان الذين تورطوا بأعمال شغب في المجمعات السكنية خارج باريس بأنهم "حثالة"وينبغي "التخلص منهم".
وبعد أيام قليلة من تصريحات ساركوزي تعرض شابان (موريتاني ومن أصل تونسي) للصعق بالكهرباء أثناء اختبائهما من الشرطة في محطة كهرباء فرعية في إحدى الضواحي شمال شرقي العاصمة.
ووقتها، وقف ساركوزي ورئيس وزرائه، دومينيك دوفيلبان، إلى جانب الشرطة وأشارا إلى أن الصبيين كانا من اللصوص الخارجين على القانون.
وعلى النقيض من ذلك، وصف ماكرون إطلاق الشرطة النار على نائل، الذي كان يبلغ من العمر 17 عاما، عندما كان يقود سيارته في نانتير، شمال غربي باريس، بأنه أمر "لا يغتفر" و"لا يمكن تفسيره"، وجرى إيقاف الضابط المتهم عن عمله، وذلك قبل اعتقال وتوجيه تهمة "القتل العمد" له.
وبناء على ذلك تعرض ماكرون لانتقادات عنيفة من قبل الأحزاب اليمنية ونقابات الشرطة لتقويضه مبدأ افتراض براءة العنصر وجرى اتهام الرئيس الفرنسي بـ"خيانة" جهاز الشرطة.
لكن ضرورة قاطن قصر الإليزيه اتضحت عندما ظهر مقطع فيديو لإطلاق النار على وسائل التواصل الاجتماعي، يتناقض بوضوح مع الرواية الأولية من مصادر الشرطة بأن الضابط أطلق النار من بندقيته، لأن حياته كانت في خطر.
ووفقا للتحليل، فإن عدم التغاضي عن عنف الشرطة هو خطوة أولى ضرورية، وإن لم تكن كافية، نحو استعادة النظام العام.
فقد ألقى بعض الخبراء باللوم في إطلاق النار يوم الثلاثاء على قانون صدر في عام 2017 قبل تولي ماكرون السلطة، والذي يمنح الشرطة مزيدا من الصلاحيات لإطلاق النار على سيارة إذا رفض ركابها الامتثال لأمر الشرطة وعرضوا حياة عناصر إنفاذ القانون للخطر.
وفي هذا السياق، يرى بعض منتقدي ماكرون أن محاولة تعطيل دور الشرطة والتخفيف من صلاحيتها سوف يكون في مصلحة اليمين المتطرف.
ولكن الأدلة الأخيرة على أوجه قصور الشرطة وفيرة، فهناك الاستخدام المفرط للقوة أثناء الاحتجاجات المناهضة للحكومة، بالإضافة إلى ممارسة "عنف عنصري" كما حدث عندما تعرض منتج موسيقى أسود لضرب وحشي في واقعة جرى توثيقها بمقطع مصور، وفق ما ذكره التحليل.
كما توجه اتهامات للشرطة بعدم كفاءتها في حفظ النظام العام، وخير دليل على ذلك، ما جرى من أعمال شغب خلال المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا التي أقيمت العام الماضي في باريس.
وثمة أمر آخر يعاني منه جهاز الشرطة ويتجلى في انهيار الثقة مع السكان المحليين وهو الأمر الذي يمكن إصلاحه بإيجاد نوع من "الشرطة الاجتماعية"، وفقا لمقال الصحيفة.
وإذا كانت الشرطة الفرنسية، بحسب خبراء، ضعيفة الموارد فإنها أيضا سيئة التدريب، ويعد ذلك من مثالب ذلك الجهاز التي يضاف إليها ارتفاع مستوى الدعم لليمين المتطرف بين الضباط بما يثير القلق بشكل كبير.
"إهمال حكومي"
وبناء على ماسبق، تعتبر أعمال الشغب بمثابة تذكير بالمشاكل الاجتماعية والاقتصادية العميقة الجذور في الأحياء الفقيرة في فرنسا والإرث الطويل من إهمال الحكومة.
ورغم أن العديد من الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية قد تحققت منذ وصول ماكرون إلى سدة الحكم في عام 2017، لاسيما الانخفاض في معدلات البطالة بين الشباب بشكل عام، بيد أن الفقر المتأصل والجريمة والتمييز العنصري وضعف الأداء التعليمي تتطلب مزيدا من الاهتمام وتخصيص كم أكبر من الموارد الحكومية حتى لو كانت المالية العامة ذات موارد ضيقة.
ويرى الكاتب، بين هيل، أن خطة "Quartiers 2030" التي وعد بها ماكرون تلك الأحياء والمناطق الفقيرة لا تزال بطيئة في التبلور، مؤكدا في الوقت ذاته أن تلك المشاكل لا تبرر ما تشهده البلاد من عنف.
واعتبر هيل أنه كلما طال استمرار أعمال الشغب، كان من الصعب على الحكومة مقاومة اتخاذ نهج أشد.
وختم بالقول: "إذا انتشرت الاضطرابات، فإنها لن تساعد إلا اليمين المتطرف، الذي لديه الزخم السياسي ومصلحة كبيرة في استحضار شبح الاضطرابات المدنية".