21 نوفمبر 2024
8 ديسمبر 2023
يمن فريدم-فوزي الغويدي

 

تُركّز غالبيّة الدراسات والتحليلات للصراع الدائر في اليمن على اللاعبين المحليين أو الخارجيين الفاعلين في الحرب. وعادة ما يجري التعامل مع الصراع اليمني بالنظر إلى اللاعب الخارجي وتأثيره في المكوّنات المحلية ويُغفَل عن مثلّث القبيلة والطائفة والسلطة الذي يكوّن اللاعب المحلي وتمتد جذوره إلى بداية نشأة الدولة الحديثة في ستينيات القرن الماضي.

 

ولعل هذا المثلّث هو ما قصده الرئيس السابق علي عبدالله صالح حينما وصف حكم اليمن بأنّه الرقص على رؤوس الثعابين.

 

فالقبيلة هي العمود الفقري لأي دولة نشأت في اليمن عبر تاريخها الوسيط والمعاصر، وأدّت الطائفة دوراً في تدافع المجموعات والدول؛ بينما ترسّخ مفهوم استملاك السلطة من قبل فئة معيّنة في العقل الجماعي اليمني. لذلك، إذا ما أردنا فهم الصراع الحاصل في اليمن، فعلينا العودة إلى الجذور التاريخية لنشوء السلطة والدولة الحديثة وتفكيك المثلّث وتحليل محاوره لتقديم الحلول المنبثقة من بُنية المجتمع والتي تتلاءم مع طابعها المحلي لبناء سلام دائم وتجنيب البلاد المزيد من جولات الحرب والعنف والانقلابات الدائمة.

 

 كما تؤكّد الأدبيات بأغلبها على ضرورة دراسة السياق المحلّي بمختلف بُنياته كونها تشكّل عوامل أساسية في عملية بناء الدولة الحديثة.

 

 تركّز هذه الورقة على نشأة السلطة واستئثارها من قِبل طائفة أو قبيلة أو مجموعة معيّنة، بالإضافة إلى دورات الصراع التي نتجت عن ذلك والتي شهدها تاريخ اليمن.

 

وتهدف إلى إلقاء الضوء على ظاهرة طبائع الاستملاك في اليمن. ونعني بـ "طبائع الاستملاك" هنا الدافع وراء التنافس بين المجموعات لاستملاك السلطة، وهو ما يجعل نخبة سياسية معيّنة تُهيمن على المجموعات الأخرى واستملاك ما هو غير قابل للاستملاك.

 

وهو ليس مجرّد استئثار بالسلطة والثروة، إنّما يشمل أيضاً كلّ ما يتعلّق بالمجال العام، كالخطاب والقيم وغيرها، ممّا يؤدّي إلى إبعاد الآخر عن المشاركة والتمثيل السياسي، وتكمن الحجّة الرئيسية في أنّ ظاهرة طبائع استملاك السلطة هي التي قادت اليمن إلى جولات من الصراع على السلطة ما بين القبلي والمذهبي أو الطائفي والإثني، ولن تنكسر هذه الحلقة إلّا من خلال إجماع وطني وتشارك حقيقي للسلطة وتوزيع عادل للموارد عبر آلية متّفق عليها، ووصول الخدمات الأساسية للجميع، بالإضافة إلى وضع سياسة تحدّ من استملاك الدولة من قبل مجموعة أو نخبة معينة.

 

 السياق التاريخي

 

يخلط البعض بين تكوّن السلطة والدولة، إذ ارتبطت الأولى بالحاكم السياسي عبر كلّ العصور، بينما تطوّر مفهوم "الدولة" منذ عصر النهضة الأوروبية وأصبح احتكار السلطة أحد ميزات الدولة الأساسية، لذلك، النظم السياسية التي ظهرت عبر تاريخ اليمن القديم والوسيط والحديث قد لا تعبّر عن الدولة بمفهومها الحديث، بل عن السلطة السياسية على الرغم من محاولات بنائها، وخاصّة بعد تبنّي النظام الجمهوري عام 1962 وتوحيد شطرَي اليمن عام 1990.

 

السلطة والقبيلة

 

نشأت الدولة في مجتمع يمنيّ يتّسم بالطابع القبلي حيث كانت القبيلة مرتبطة بقوى الإنتاج، ما ساهم بأن تصبح القبيلة النواة الأساسية في تشكل الدولة اليمنية القديمة والحديثة، لم تكن الدولة السبئية أو الحميرية سوى اتحاد قبليّ، حيث تفرض القبيلة القوية سلطتها على قبائل متعدّدة وتجعلها تحت نفوذها كما أنّها تنشئ تحالفات مع قبائل أخرى لتشكّل بذلك كياناً سياسياً يُسمّى الدولة.

 

 وحينما تنهار الدولة بسبب الصراعات وتنشأ دولة أخرى، تظلّ القبيلة قائمة، وقد يعود ذلك إلى أنّ القبيلة تتفرّد بسلطة مستقلّة حيث لكل قبيلة أرضها ذات الحدود الجغرافية المعروفة بسبب طبيعة تضاريس اليمن التي مكّنت القبائل من الاحتفاظ بالسلطة الذاتية المباشرة وغير المباشرة على مرّ التاريخ سواءً بوجود دولة قوية أو ضعيفة.

 

وهذا يُعتَبر سمة من سمات الحكم القبلي الذي لازم القبيلة اليمنية من تاريخ اليمن القديم إلى عصرنا الحالي؛ فعلى سبيل المثال بعد ثورة 26 سبتمبر رسّخ شيوخ القبائل سلطة قضائية عُرفت بـ"أداة الضبط القضائي" حيث يقبض الشيخ على الأشخاص المطلوبين للدولة، كما كان له دور في جمع الزكاة وكان يقتطع له مخصّصاً منها.

 

 أضف إلى ذلك أنّ الطبقة الحاكمة احتكرت السلطة واستملكت الفائض الاقتصادي وكان شيوخ القبائل جزءاً منها. ولم تطرأ تغييرات كبيرة على البُنية القبلية في اليمن إلى يومنا هذا، بسبب احتفاظها بأنظمتها الاجتماعية والقانونية التي نشأت عليها وكذلك بعلاقات الإنتاج السائدة فيها، لذلك، فإنّ القبيلة هي المكوّن السياسي والاجتماعي الأول، وهي العمود الفقري في المجتمع اليمني الذي يتكوّن من قبائل رئيسية تتفرّع إلى مجموعة من البطون تنقسم بدورها إلى مجموعة من الأفخاذ التي تتفرّع منها الأسر والعشائر.

 

وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بأنّ السلطة في اليمن نشأت من رحم القبيلة وامتازت بالحكم الذاتي والمستقلّ مما رسّخ نزعة الاستقلال والاستملاك للسلطة في النظم والثقافة السياسية التي ظهرت في مختلف العصور التاريخية في اليمن.

 

 في استطلاع للرأي أُجري عام 2009 في عدد من المحافظات حول الجهة الأكثر سلطة في المنطقة (وكان هذا الاستطلاع في ظل حكم صالح الذي كان يشهد استقراراً نسبيّاً وحضوراً للدولة)، مالت الآراء إلى أنّ شيوخ القبائل هم أكثر سلطة في الهضبة الشمالية بينما هم أقلّ سلطة في المناطق الغربية والجنوبية كما يوضّحه الجدول أدناه:

الجدول1: استطلاع الرأي: من هو الأكثر سلطة في المنطقة؟

المصدر: المرصد اليمني لحقوق الإنسان

 

السلطة واستملاكها

 

لا يعني ما سبق أنّ ظهور الدولة في اليمن اعتمد على العصبية القبلية الواحدة بشكل كلّي، وإنّما جرى توظيف السلطة القبلية من قِبل أفراد قد لا ينتمون إلى القبيلة. وخير مثال على ذلك الإمامة الزيدية التي ترتكز على حصر الإمامة في البطنين لكنها اعتمدت على العصبية القبلية القحطانية غير الهاشمية في السيطرة على السلطة والاستئثار بها.

 

 ويقودنا هذا إلى السؤال: لماذا قد تحارب القبائل في سبيل وصول من لا ينتمي إليها إلى سدة الحكم؟ قد يجيب البعض أنّ الانتماء المذهبي لهذه القبائل هو ما يقودها إلى تسليم قيادتها لغير أبنائها، وأنّ العصبية المذهبية قد تطغى هنا على العصبية القبلية.

 

ويطلق البعض اليوم هذا التفسير على أسباب مناصرة قبائل الهضبة الشمالية لجماعة الحوثي الهاشمية. لكن هذا التفسير غير دقيق، حيث يوضح لنا التاريخ أنّ القبائل قد وقفت مع الأئمة الزيود قبل أن تصبح الزيدية مذهباً لها.

 

كما أنّها حاربتهم بعد أن اعتنقت الزيدية، وتدلّ على ذلك مناصرة القبائل الزيدية لمحمد الإدريسي وهو شافعي المذهب ضدّ الإمام الزيدي يحيى حميد الدين مطلع القرن العشرين بحيث وصفوا الأول بإمام الذهب والثاني بإمام المذهب.

 

ونستنتج أنّ المصالح والظروف الاقتصادية والسياسية قد تطغى على العصبية القبلية والمذهبية حسب النظرة البراغماتية لرموز النظام القبلي، وكذلك قد تناصر القبيلة من لا ينتمي لأي قبيلة مماثلة لها لأجل أن يكون طرف محايد.

 

وبسبب نشوء السلطة كنزعة استقلالية لدى القبائل اليمنية، اتّسم تاريخ اليمن السياسي بفترات متكرّرة من الوحدة والتفكّك، وهو ما ينتج عنه صراعات متتالية بطبيعة الحال، فالقبيلة تندمج في كيان سياسي أكبر منها إذا نال رموزها مراكز سياسية أو اقتصادية مهمة في الدولة.

 

وحين تضعف الدولة تبرز القبيلة كوريث لامتلاك سلطاتها السياسية والاقتصادية وتكون القبيلة في الوقت نفسه أبزر عوامل ضعف الدولة.

 

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ سلطة الدول المركزية التي وحّدت كل المناطق الجغرافية في اليمن، مثل سبأ والدول الصليحية والرسولية والقاسمية وصولًا إلى الجمهورية اليمنية، لم تكن تتمتّع بسلطة كاملة النفوذ، بل كان هناك على الدوام ما ينتقص من سلطتها بظهور كيانات في الأطراف أو في الداخل، في فترات أخرى، تتبع الدولة المركزية اسمياً لكنها تتمتّع بالحكم الذاتي.

 

أضف إلى ذلك وجود سلطة القبيلة التي تحكم في مناطقها تحت تفويض غير رسمي من الدولة المركزية وهو ما شكّل ظاهرة أخرى وسمت تاريخ اليمن السياسي وهي ثنائية السلطة؛ فإلى جانب سلطة الدولة تبرز سلطة القبيلة.

 

 وتختلف خصائص القبيلة من منطقة إلى أخرى؛ فنجد مثلاً تبايناً في الولاء القبلي لدى أفراد القبائل، فيرتفع لدى القبائل في المناطق الداخلية (شمال الشمال) وينخفض لدى القبائل في المناطق الساحلية والسهلية (جنوب اليمن وغربه).

 

وقد يعود ذلك إلى الطبيعة الاقتصادية ودينامية العلاقات في كل منطقة، كما أنّ منطقة جنوب اليمن الشمالي شهدت ولادة معظم الأحزاب اليمنية لضعف ارتباط الأفراد بالقبيلة، وذلك عكس قبائل الهضبة الشمالية حيث لم يتأثّر ولاء الأفراد للقبيلة بظهور الأحزاب، بل ازداد سعي زعامات القبيلة نحو السلطة والاستئثار بها.

 

ولعل هذا يفسّر امتلاك قبائل منطقة شمال الشمال للسلطة أكثر من غيرهم في تاريخ اليمن السياسي وهو ما يوضحه الجدول أدناه.

الجدول2: الدول التي حكمت اليمن مع الانتماءات القبلية والجهوية والدينية

المصدر: أحمد الأحصب، هوية السلطة في اليمن.

 

يبيّن الجدول أنّ دولاً تقاسمت السلطة في الفترة عينها كما يُبين تداول السلطة على المستوى الجهوي والقبلي والمذهبي، ولكن منطقة شمال الشمال تستأثر بالنصيب الأكبر بنسبة 38% من أجمالي فترات الحكم لجميع الدول، وهو ما قد يدعم فرضية نزعة قبائل الهضبة الشمالية للسلطة لقلّة الموارد الاقتصادية في مناطقهم والنظر إلى السلطة باعتبارها الوسيلة الوحيدة للثروة.

 

كما تؤيّد هذه النسبة فرضيةً وضعها أحد الباحثين بأنّ قبائل الهضبة الشمالية لديها وعي التملّك على عكس القبائل في السهول والسواحل.

 

وقد يكون ذلك ما دفعها إلى تملّك السلطة أكثر من القبائل الأخرى. أمّا المذاهب الدينية كالزيدية والإسماعلية، فقد استُخدمت كتبرير لإقامة حكم هذه المجموعة أو تلك، ولم يكن ينتهي حكم عصبية من هذه العصبيات إلّا بحلول مجموعة ذات عصبية أخرى محلّها.

 

 ويمكن الملاحظة أيضاً غياب دولة اتحادية تضم قبائل أو جماعات متعدّدة؛ فكل قبيلة أو مجموعة استطاعت استملاك السلطة والثروة قامت بإقصاء القبائل الأخرى، الأمر الذي تسبّب بدورات من الصراع تنقّلت العاصمة في خلالها بحسب مركز ثقل المجموعة أو القبيلة.

 

وساهمت عوامل كالازدهار الاقتصادي والتسامح المذهبي وإشراك زعماء القبائل في الكيان السياسي في إطالة حكم أربع دول - الزيادية، واليعفرية، والرسولية، والقاسمية، بينما قصر عمر دول أخرى بسبب الإقصاء السياسي والمذهبي والصراع الداخلي واستملاك موارد البلاد وكثرة المظالم الاجتماعية.

 

 وعليه، فإنّ السلطة في اليمن نشأت من رحم القبيلة التي شكّلت بوابة الحكم، سواءً للعصبيات القبلية أو المذهبية حتى ولو كانت على غير مذهبها كما أسلفنا، وقد ظلّت طبائع استملاك السلطة تقوّض استدامة الحكم وقد يتوافق هذا مع وصف برايان ويتكر لليمن بأنّه "بلد ذو تاريخ طويل للأرض وقصير للدولة".

 

 بناء الدولة الحديثة في اليمن وفشل مشاركة السلطة

 

شكّلت ثورة 26 سبتمبر في العام 1962 بداية دولة اليمن الشمالي الحديثة، بينما بدأت دولة اليمن الجنوبي الحديثة في 30 نوفمبر 1967.

 

في الشمال، سيطرت نخبة تقليدية تعتمد على العلاقات العصبوية على بناء الدولة، بينما في الجنوب سيطرت نخبة سياسية تبنت الفكر الاشتراكي. ورغم فرصة بناء دولتين حديثتين، إلّا أنّ النظامين استغلا السلطة بشكل مفرط.

 

نظام لا دولة (المرحلة الشطرية)

 

استطاعت النخب السياسية في المجموعات المجزّأة احتكار الفضاء العام للدولة والتركيز على احتكار عناصر العنف والاقتصاد والأيديولوجيا مما شكّل نظاماً لا دولة. فالنظام هو "تحالف قوى تربطها مصالح أيديولوجية وسياسية واقتصادية تسعى إلى احتكار السلطة داخل الفضاء الاجتماعي".

 

ولكي يستمر النظام في الحفاظ على هيمنته واستملاكه للسلطة، يُنشئ مؤسسات الدولة لحمايته وخدمته مما يدفع المجموعات المتضرّرة من هيمنة النظام إلى معارضته في البداية ومن ثم مقاومته، وقد أنتجت عملية بناء الدولة في اليمن نظاماً استملك السلطة، كما أنتجت معارضة هدفت إلى نزع احتكار النظام واستملاكه للسلطة والاقتصاد والعنف.

 

وبدأت المقاومة على شاكلة تعبئة للفئات المتضرّرة من النظام ونشطت المجموعات المتضرّرة التي تنتمي إلى عصبوية مختلفة أو مناطق جهوية أخرى لتُعيد إنتاج استملاك السلطة في حال انتصارها على النظام القائم.

 

ويؤكّد بحث دارن أسيموجلو وجيمس روبنسون في 2012 على أنّ استملاك السلطة يعرّض الدولة إلى العنف والاضطرابات السياسية ومن غير المرجّح أن يحقق أي استقرار أو تنمية.

 

 في دولة الجنوب تقاسمت النخبة التي تبنّت الفكر الماركسي السلطة والقوى العسكرية فيما بينها، وانصهرت القبيلة داخل الحزب الحاكم في بادئ الأمر. لكن مع مرور الوقت، نشبت الصراعات داخل النخبة الحاكمة وبرز طرفان على أسس قبلية ومناطقية عُرِفا بالزمُرة والطُغمة، وامتلك الفريقان عناصر السلطة والعنف وموارد مالية، مما جعل كل فريق يفكّر بالاستئثار بالسلطة واقصاء الآخر. وأدّى ذلك إلى حرب دموية عام 1986 عُرفت بأحداث 13 يناير راح ضحيتها الآلاف.

 

انتصر فريق الطغمة في نهاية المطاف وأقصى فريق الزمرة وانفرد بالسلطة، لكن بعد أن تضررت الدولة وتجربة بنائها في جنوب اليمن. ما زال هذا الصراع مستمرّاً إلى يومنا وهو يسهم في إعادة تشكيل دينامياته الخاصة وخارطة التحالفات والمصالح.

 

 في شمال اليمن، نشأت توتّرات بين النخبة التقليدية، المكوّنة من المشايخ والعسكريين، والقوى المؤيّدة للمدنية. أدّت هذه التوترات إلى الانقلاب على الرئيس الأول للجمهورية اليمنية، عبد الله السلال، بسبب احتكاره للسلطة. بعد الانقلاب، تزايد نفوذ القبيلة والشيوخ في الحكم.

 

تشكّل مجلس رئاسي برئاسة القاضي عبد الرحمن الأرياني، وهو شخص مدني لا يمثل العسكر أو الشيوخ، ومع ذلك، وقع انقلاب آخر بقيادة المقدّم إبراهيم الحمدي في حركة "13 يونيو التصحيحية" عام 1974.

 

وقد اعتمد الحمدي - المنحدر من عائلة قضاة ولا يمتلك قاعدة دعم قبلية - بالكامل للبقاء في السلطة على الجيش الذي يتشكل من رجال القبائل الشمالية.

 

واغتيل الحمدي في 11 أكتوبر1977، فخلفه أحمد الغشمي، لكن لم تدم فترة حكمه طويلاً، فقد كان غير محبوب واشتبه كثيرون بضلوعه في مقتل سلفه الحمدي. وفي يونيو 1978، اغتيل الغشمي.

 

 صعد صالح إلى سدّة الرئاسة في 17 يوليو 1978 عقب انتخابه من مجلس الشعب التأسيسي، اعتمد على قبيلته سنحان الحاشدية في تشكيل الحكومة والأمن والمعارضة، أدار السلطة بشكل زبائني، حيث وضع أقرباءه في المواقع الرئيسية. تحوّل الشيوخ من ممثلين للقبائل أمام الدولة إلى ممثلين للدولة أمام القبائل، واستُبعِدت المناطق والقوى السياسية الأخرى من السلطة والثروة.

 

من الوحدة إلى الربيع العربي

 

وشهد العام 1990 توحيد شطرَي البلاد، وإعلان دولة الوحدة التزامها بالنهج الديمقراطي ومبدأ التداول السلمي للسلطة - والذي لم ينفَّذ - والمساواة بين المواطنين في حق الانتخاب، حيث شُكّل مجلس رئاسي مثّل شريكي الوحدة، علي عبدالله صالح وعلي سالم البيض.

 

تميّز هذا المجلس بتقاسم حقيقي للسلطة إلى حدّ ما، إلّا أنه خلا من التوافق وامتلأ بالمماحكات السياسية، ممّا أدّى إلى استخدام القوة العسكرية لحل ما عُجز عنه سياسياً، واندلعت حرب صيف 1994 وكانت أبرز نتائجها استئثار صالح بالسلطة وفشل تجربة تشارك السلطة.

 

 ويذهب ستيفن داي إلى أنّه بعد حرب عام 1994 أُعيد إنتاج النخبة الحاكمة، حيث استمرّت الهيمنة السياسية لنخبة الهضبة الشمالية بينما ظلّت تُدير الاقتصاد نخب من المناطق الوسطى والغربية وهو توازن غير رسمي للقوى.

 

 مع مرور الوقت، نافس مشايخ الهضبة الشمالية، ولا سيما قبيلة حاشد وبكيل النخبة التجارية من المناطق الوسطى والمناطق الغربية، على التجارة وكانوا هم المستفيدين الرئيسيين من النظام السياسي والاقتصادي الجديد.

 

 وأدّى اكتشاف النفط في اليمن عام 1984 إلى استغلال عائداته من قبل نخبة الهضبة الشمالية، وقد أثّر هذا الاستملاك سلباً، فتحوّلت النخب القبلية إلى داعمة للنظام على حساب التنمية والتوزيع العادل للموارد الاقتصادية.

 

وبقي الجنوب وشمال الشمال والمناطق الوسطى والغربية مهمّشة؛ فظهرت حركات احتجاجية مثل الحوثيين والحراك الجنوبي والتهامي والحضرمي، وتمكّن بعضها من تحقيق مكاسب ميدانية وإعادة إنتاج استملاك الدولة.

 

 وقد رسّخ صالح، في خلال فترة حكمه الطويلة، نظاماً زبائنيّاً رغم التمثيل الظاهري، واستغلّ الانتخابات لتثبيت نفوذه، واستخدم موارد الدولة لتعزيز حزبه الحاكم، ومن الحروب، لتصفية خصومه وتحقيق مكاسب اقتصادية.

 

 بالإضافة إلى ذلك، عمل صالح على تكوين قوى عسكرية تحت قيادة أسرته للحفاظ على سلطته، كما عمل على تمديد فترات المجالس المحلية والنيابية، ما أدّى إلى تعطيل التداول السلمي للسلطة.

 

وبطبيعة الحال أنتج هذا النظام معارضته - التي تشابهه في سمة طبائع الاستملاك - من المجموعات المتضرّرة التي تمثّلت على المستوى السياسي باللقاء المشترك وعلى مستوى المقاومة بجماعة الحوثي والحراك الجنوبي وفئات أخرى هُمّشت ولم يكن لها صدى مثل الحراك التهامي والحضرمي والمهمشين وغيرهم.

 

ومع تراجع إيرادات الدولة في الألفية الجديدة، تأثّرت العلاقة بين النخبة القبلية والنظام الحاكم، وأدّت هذه العوامل إلى فشل بناء الدولة وتقصير خدماتها، وتفجّرت الأوضاع مع ثورات الربيع العربي في العام 2011، واندلعت احتجاجات تطالب بسقوط النظام وتغيير الوضع القائم.

 

وفي النهاية، سلّم صالح السلطة إلى عبدربه منصور هادي في فبراير 2012 بعد حوالي 33 عاماً على استملاكه للسلطة.

 

 سلطة انتقالية أو استملاكية

 

أتى هادي إلى السلطة بعد الاتفاق بين الفرقاء السياسيين على المبادرة الخليجية.

 

ونصّ الاتفاق الذي وُقّع في نوفمبر 2011 على تقاسم السلطة والدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة وحدة وطنية لفترة انتقالية مقدارها عامين.

 

بدأ هادي بتفكيك التركة الثقيلة، فحاول أن يستملك السلطة عبر تعيين ابنه سكرتيراً في رئاسة الجمهورية وإبعاد أقرباء صالح وأبنائه بتعيينات في مناصب دبلوماسية خارج اليمن.

 

كذلك وقف متفرّجاً أمام توسّع الحوثيين من صعدة إلى صنعاء ظنّاً منه بأنّ ذلك سيعزّز سلطته وسيتخلّص من القوى التقليدية المتمثّلة بحزب الإصلاح وحلفائه من القبائل.

 

لكن الحوثيين انقلبوا عليه، ففرّ إلى عدن ومنها إلى الرياض طالباً من السعودية استعادة الشرعية. وعلى أثر ذلك، كانت الحملة العسكرية "عاصفة الحزم" بدعم من التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية.

 

 ولعلّ سعي هادي لاستملاك السلطة في فترة انتقالية تعاني فيها البلاد أوضاعاً اقتصادية سيئة وتحاول التعافي من أحداث الربيع العربي قد قاد إلى إضعاف الدولة أكثر وتشظّيها بين الأطراف المتنازعة.

 

ولم يجنِ هادي سوى البقاء على الكرسي من دون سلطة حقيقية، كما ذكرت الباحثة سيلين جريزي :"هادي يعي تماماً أنّه لا يحكم اليمن وأنّه مسيّر لا مخيّر".

 

ففي 7 أبريل 2022، أعلن هادي نقل السلطة إلى المجلس القيادة الرئاسي بعد أن قضى عشر سنوات من حكم اليمن بمسمى "الرئيس الانتقالي"؛ وقد أدّت محاولاته لاستملاك السلطة إلى دخول البلاد في دوامة من الصراعات وحالة اللاستقرار.

 

 إعادة انتاج طبائع استملاك السلطة

 

لقد أنتج النظام الذي بناه صالح معارضته التي تعدّدت ما بين أحزاب سياسية أو مجموعات مسلّحة أو حراك منظّم، وبرزت جماعة الحوثي (أنصار الله) والحراك الجنوبي مطلع الألفية الجديدة. تحوّل الأول إلى المواجهة المسلّحة وخاض ست حروب مع الدولة، بينما ركن الحراك الجنوبي إلى الحراك السلمي والسياسي.

 

 وتحوّلت جماعة الحوثي إلى مجموعة مسلّحة وشنت ست حروب ضد الحكومة اليمنية. وفي سبتمبر 2014، سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء.

 

في المقابل، اعتمد المجلس الانتقالي الجنوبي على الحراك السلمي والسياسي، وسيطر على مدينة عدن في 2019 بدعم من الإمارات.

 

ومع الحكومة الشرعية في نزاعات مسلّحة انتهت بقصف الطيران الإماراتي ووساطة سعودية. تجسّد هاتان المجموعتان تجارب مختلفة في إعادة إنتاج استملاك السلطة في اليمن بعد العام 2011.

 

 حركة أنصار الله (الحوثيون): من المواجهة إلى استملاك السلطة

 

تُعتبر حركة أنصار الله المعروفة باسم جماعة الحوثي44 حركة دينية النشأة45 ثمّ تحولت إلى العمل المسلّح والسياسي وبدأت المواجهات مع نظام صالح منذ العام 2004 حتى 2010 فيما عُرف بالحروب الستة. استولت على السلطة في 21 سبتمبر2014.

 

 مارست الحركة سياسة براغماتية في مسار صعودها السياسي والعسكري؛ فنشأتها كانت بهدف الحفاظ على الأقلية الزيدية وخاضت الحروب الستة لأجل ذلك.

 

ومن ثمّ وفي إبان أحداث ثورة الشباب 2011 كانت الحركة تطالب بحقوق أبناء صعدة. وفي الحوار الوطني عام 2013، قدّمت نفسها كممثل لقبائل شمال الشمال، إذ استطاعت استقطاب القبائل (أفراد القبائل وليس شيوخها) في الهضبة الشمالية حيث إنّ شيوخ الهضبة الشمالية هم من استفادوا اقتصادياً وسياسياً من النظام الجمهوري وليس قبائلهم، كما ذكرنا سابقاً، ما أدّى إلى شرخ بين الشيخ وقبيلته قاد إلى حالة من السخط لينجذب الكثير من أبناء القبائل إلى حركة الحوثيين.

 

لذلك، استطاع الحوثيون السيطرة على صنعاء ثمّ تبع ذلك تدخل التحالف العربي في مارس 2015، فأصبحت الجماعة تقدم نفسها كممثل للشعب اليمني كلّه.

 

 وكما اعتمد الحوثيون سياسة براغماتية للوصول إلى السلطة، كذلك تبنّوها في استملاكها. فبعد استيلاء الحوثيين على السلطة، تحالفوا مع صالح وشُكّل المجلس السياسي الأعلى في 28 يوليو 2016 ضمّ عشرة أعضاء بالمناصفة يترأسه صالح الصماد.

 

وفي العام نفسه، شُكّلت حكومة مشتركة سُميت بحكومة الإنقاذ.

 

وبعد عام، بدأ الحوثيون بمضايقة صالح وقيادات حزبه وانتهى الأمر بقتل صالح في 4 ديسمبر 2017 وانفراد الحوثيين بالسلطة.

 

 وبعد انفراد الحوثيين بالسلطة، مارسوا طبائع الاستملاك بصورة متطرّفة لم يشهدها اليمن في تاريخه المعاصر. إذ احتفظوا بالسلطة داخل أسرة الحوثي والأسر المقرّبة ووزّعوا بينهم أهم المناصب الأمنية والعسكرية.

 

كما أنشأ الحوثيون "نظام المشرفين" يرأسه محمد علي الحوثي واعتُبِر كياناً موازياً لمؤسسات الدولة المختلفة وهو السلطة التنفيذية الفعلية.

 

وينتمي أغلب المشرفين إلى محافظتي صعدة وحجة. ومن خلال هذا الكيان، استطاع الحوثيون اختراق سلطة القبيلة حيث استُبدل الشيخ بالمشرف عملياً والذي يمتلك سلطات مطلقة على المنطقة التي يديرها.

 

أضف إلى ذلك إنشاء الحوثيين مؤسسات جديدة تختصّ بالمجالات التي فيها مصادر دخل كبيرة ولا ترتبط بالوزارات الحكومية مثل الهيئة العامة للزكاة والهيئة العامة للأوقاف والمجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي.

 

 أما استملاكهم في الجانب الثقافي بهدف إعادة انتاج المجتمع بهوية الجماعة وذاكرتها، فبرز بفرض مدوّنة السلوك الوظيفي على موظفي الدولة تلزمهم بتبني أيديولوجية الجماعة.

 

وأجرَوا تغييرات كبيرة على المناهج الدراسية بما يوافق أيدولوجيتهم، وغيّروا أسماء شوارع ومعالم ومدارس، ولم يهتموا بالأعياد الوطنية واستبدلوها بفعاليات واحتفالات تخصّهم، كالذكرى السنوية لسيطرتهم على صنعاء ومناسبات دينية طائفية، مثل "عيد الغدير".

 

المجلس الانتقالي الجنوبي: استعادة دولة الجنوب عبر استملاك السلطة

 

تأسّس المجلس الانتقالي الجنوبي في 11 مايو 2017 بمدينة عدن وترأسه عيدروس الزبيدي وينوبه هاني بن بريك. وأُعيد تشكيل المجلس مؤخّراً بإضافة نائبين إلى جانب بن بريك.

 

وانبثق المجلس من الفصائل الجنوبية المسلّحة التي كانت نشطة في الحراك الجنوبي ومع ذلك فهو لا يتضمّن كل الفصائل الجنوبية. وحاول مؤخّراً خوض مفاوضات لضم بقية الفصائل لكي يصبح الممثل الوحيد للقضية الجنوبية.

 

 يهدف المجلس إلى استعادة دولة الجنوب ما قبل دولة الوحدة عام 1990؛ وقد سيطر على العاصمة المؤقتة عدن في أغسطس 2019 بعد اشتباكات مع قوات الحكومة المعترف بها دولياً، وسيطر بعد ذلك على الضالع ولحج وشبوة ويشترك مع الحكومة في السيطرة على أجزاء من أبين.

 

 ويشير صعود المجلس إلى السلطة إلى أنّ الإرث التاريخي المبني على الصراع بين الزمرة والطغمة يعود من جديد عبر المجلس الانتقالي كون أغلب قياداته الفاعلة والمقاتلين ينتمون إلى محافظتي الضالع ولحج، بينما القيادات الأخرى المنتمية إلى أبين وشبوة وحضرموت لها حضور أقل.

 

في الجانب الثقافي، مُنِع رفع علم الوحدة والنشيد الوطني في المدراس واستُبدلا برموز دولة الجنوب الشطرية، ووقّع تعزيز الأنشطة والمحاضرات التي تعكس استقلال الجنوب وتصوّر الشمال كمحتل له.

 

أمّا في الجانب الاقتصادي، فاستطاعت قيادات المجلس الانتقالي تكوين نخبها التجارية واحتكرت استيراد النفط ومشتقاته من الخارج عبر ميناء عدن.

 

وقد أشار أحد قادتهم إلى أنّ قدوتهم اليوم هو الجيش المصري، موضّحاً أنّهم متغلغلون في كافة القطاعات الاقتصادية، ويفرضون ما يعادل 15 دولاراً على كل 200 ألف طن من الوقود التي تأتي شهرياً من ميناء عدن، ويحتكرون حوالي 20% من هذه الواردات.

 

 لذا تخشى الفصائل الجنوبية الأخرى التي تمثّل حضرموت والمهرة وشبوة وأبين وغيرها، من الانضمام إلى المجلس الانتقالي كون مؤشرات استملاكه للسلطة والفضاء العام للدولة بارزة.

 

ورغم تأييد الكثير من شخصيات الجنوب البارزة للانفصال، إلّا أنّها تخشى سيطرة المجلس الانتقالي الذي قدّم سلوكاً إقصائياً همّش معظم الكيانات والمناطق في خلال الفترة الماضية، ويجعل ذلك شعارات تشارك السلطة والعدل والمساواة مجرد مزايدات للاستفادة منها في تحقيق توسع المجلس الانتقالي في باقي المحافظات الجنوبية.

 

 سلام لإنهاء الحرب أم لاستملاك السلطة

 

شهد اليمن هدنة منذ أبريل 2022 حتى 2 أكتوبر 2022، دخلت بعدها البلاد في حالة جمود في جبهات القتال ونشاط في جبهات المفاوضات السياسية.

 

تجري هذه المفاوضات من دون النظر إلى دروس التاريخ: استغلت أطراف الصراع المفاوضات لشراء الوقت للمزيد من استملاك السلطة المحكم والظفر بما يمكن من ترسيخ تملّك السلطة، والتطلع إلى التوسع والسيطرة على المحافظات النفطية.

 

ويظهر سعي جماعة الحوثي إلى السيطرة على مأرب من خلال حشدها للمزيد من المقاتلين وكذلك تعزيز ترسانتها العسكرية، بينما يسعى المجلس الانتقالي إلى السيطرة على شبوة وحضرموت. ولعل الفائدة الوحيدة من المفاوضات السياسية هو تبادل الأسرى والمعتقلين، ولكن من الواضح أننا أمام جولة أخرى من الحرب.

 

 على سبيل المثال شارك الحوثيون في مؤتمر الحوار الوطني ثمّ انقلبت على مخرجاته باتفاقية الشراكة والسلم (سبتمبر 2014) وتنصّلوا من بنودها فيما بعد ليفرضوا هيمنتهم على مؤسسات الدولة، واستمر الوضع إبان الحرب في جولات المفاوضات الدولية التي رعتها الأمم المتحدة، ولم تنتج سوى التغول في استملاك السلطة والاستئثار بها والبعد أكثر عن أي شراكة محتملة في المستقبل القريب.

 

كما تعثر تنفيذ اتفاقية الرياض المبرمة بين الحكومة المعترف بها دولياً والمجلس الانتقالي في نوفمبر 2019، بعد سيطرة المجلس الانتقالي على السلطة في عدن وما جاورها.

 

الحلول الممكنة

 

تعارضت معالم الدولة الحديثة منذ بروزها مع طابع السلطة اللامركزية في اليمن، لم يستطع العثمانيون إخضاع شمال اليمن مطلع القرن العشرين لنظام الحكم المركزي؛ وفي الجنوب لم يحاول المستعمر البريطاني إنشاء الحكم المركزي واستعاض عنه بعلاقات ذات نفوذ مع سلاطين المناطق الجنوبية.

 

ولاحقاً حاولت الدول الشطرية في الشمال والجنوب الحكم المركزي الذي تحول إلى استملاك للسلطة، ما خلّف صراعاً على السلطة بين النخب السياسية من جهة والمناطقية والقبيلة من جهة أخرى.

 

بالتالي، لا بدّ من أن ينطلق أي حلّ سياسي من قاعدة لا مركزية السلطة والتي أثبتت تجارب الماضي أنّها حقيقة اجتماعية وثقافية قبل أن تكون سياسية بإمكانها أن تحدّ من تغوّل استملاك السلطة.

 

وانطلاقاً من هذه القاعدة وبالنظر إلى دينامية الصراع الحالي، فإنّ الحلول الأكثر ملاءمة لشكل الدولة هي إمّا النظام الفيدرالي أو نظام الحكم اللامركزي، وسنناقش أيهما الأنسب في اليمن.

 

يمن فيدرالي

 

مع نهاية القرن العشرين ازداد عدد الدول التي اتجهت إلى استخدام النظام الفيدرالي بما يتوافق مع بيئتها وثقافتها المجتمعية، وأبرز مثال على ذلك إثيوبيا التي اتّخذت عام 1991 نظاماً فيدرالياً قائماً على الإثنية العرقية باعتباره الحل المناسب لماضي البلاد المضطرب.

 

وعلى ذات المنوال أتت مخرجات الحوار الوطني عام 2013 بتبنّي النظام الفيدرالي الذي يتكوّن من ثلاث مستويات: المستوى الاتحادي، المستوى الإقليمي، المستوى المحلي.

 

 ورأى المتحاورون يومها أنّ النظام الفيدرالي قد يشكّل الحل المناسب للبلاد. وعلى الرغم من الاتفاق على الشكل برز الاختلاف على المضمون في عدد الأقاليم، حيث كان العدد المقترح ستة أقاليم (أربعة في الشمال واثنين في الجنوب) لكن الفريق الجنوبي عارض ذلك مطالباً بإقليمين شمالي وجنوبي.

 

كما عارض الحوثيون مخطط التقسيم واعتبروه تقسيماً سياسياً بينما وضّح هادي بأنّه تقسيم إداري. وكانت هذه المسألة أحد الأسباب الثانوية التي دفعت الحوثي للسيطرة على السلطة عام 2014 وعُلّقت من بعدها مخرجات الحوار الوطني.

 

 وهنا يُطرح السؤال ما إذا كان النظام الفيدرالي الحل الفعّال لمعالجة تحدّيات استملاك السلطة؟ يرى البعض أنّ النظام الفيدرالي يعزّز مشاركة السلطة وتوزيع الثروة على مستوى الأقاليم، لكن تساور البعض الآخر مخاوف من التفتّت واستئثار الأقاليم الغنية بالنفط والثروة عن الأقاليم الأخرى الفقيرة، ما سيؤدّي إلى صراع دائم حول الثروة.

 

بالإضافة إلى ذلك، برزت مخاوف من تحوّل استملاك السلطة من مستوى البلاد إلى مستوى الإقليم، خصوصاً وأنّ الإقليم الواحد سيضم عدد من المحافظات المكونة من عدد من القبائل. وذلك يجعل احتمالية هيمنة قبيلة ما على الإقليم واردة، وبالتالي هذه المخاوف مبرّرة.

 

 وقد أثبتت الحرب بعضاً من هذه المخاوف، حيث أفرزت واقعاً سياسياً وعسكرياً مجزّأ قد يتشابه مع وضع الأقاليم وقد ذكرنا هيمنة الحوثي شمالاً (عدا مأرب وتعز) واستملاكه للسلطة ومحاولة هيمنة المجلس الانتقالي جنوباً.

 

والناظر في تاريخ اليمن وما ذُكر في القسم الأول من الورقة يدرك أنّ النظام الفيدرالي قد يعزّز السلطة الذاتية الموجودة فعلاً، ويحوّلها إلى سلطة رسمية لها حكومتها وتشريعاتها وقواتها، الأمر الذي قد يساهم في التفكك واستمرار الصراع وسيوفّر ذرائع التدخل الخارجي الدائم في الشأن اليمني من باب الوساطة بين الأقاليم المتنازعة عليه، نستنتج بأنّ النظام الفيدرالي قد لا يكون الحل المناسب لإشكالية استملاك السلطة، فهو قد لا يحدّ من استملاك السلطة لكنه يحوّلها من مستوى المركز إلى مستوى الأطراف ويصنع سلاماً هشاً غير قابل للحياة.

 

الحكم اللامركزي

 

قد لا يكون الحكم اللامركزي حلّاً جيّداً لليمن، لكنه قد يكون الحل الأنسب للحدّ من طبائع الاستملاك. ترى إحدى الفرضيّات أنّه كلما زادت صلاحيات المجالس المحلية زادت احتمالية فاعلية الخدمات المقدّمة للمواطنين. وتوضح إحدى الدراسات أنّ الحكم المحلي الناجح يتّسم بالإبداع والابتكار والمرونة.

 

كما يُنظر من جهة أخرى، إلى اللامركزية كأداة لإدارة الصراعات وفضّها، وهي ظلّت لعقود الخيار الأول لدى المنظمات الدولية في إصلاح الأنظمة الحاكمة، وذلك يعود إلى أنّها تبني آليات لتوزيع السلطة بين المجموعات المتنافسة وتحقّق مشاركة المواطن في صناعة السياسة على المستوى المحلّي.

 

 يختلف الحكم اللامركزي عن النظام الفيدرالي بكونه لا يمنح السلطات والصلاحيات لمستويات الحكم المختلفة ولا يعطي الأقاليم صلاحيات شاملة، بل صلاحيات محدودة.

 

وكما ذكرنا في البداية، فإنّ ثنائية نظام الحكم كانت إحدى سمات السلطة في اليمن عبر تاريخه. لذلك، قد يكون اللجوء إلى الحكم اللامركزي هو الحل الأنسب الذي يتوافق مع بنية اليمن الاجتماعية ويتناسب مع طبيعة تاريخ نشوء السلطة.

 

علاوة على ذلك، فإنّ الحكم اللامركزي معروفة معالمه لدى النخب اليمنية والشعب بخلاف النظام الفيدرالي الذي يُعتبر مجهول المعالم. فحين توحّد شطري البلاد عام 1990، جرى الاتفاق على مبدأ الحكم اللامركزي لكنه لم يبدأ التدرّج نحوه إلّا بعد عشر سنوات على الرغم من تأكيد دستور عام 1994 على الاتجاه نحو اللامركزية.

 

وشهدت بداية الألفية الثالثة أول انتخابات للمجالس المحلية في اليمن، لكن نظام صالح جعلها مجالس شكلية لا تمارس السلطة الممنوحة لها.

 

وبالرغم من ذلك، سمح الفراغ السياسي والأمني الناتج عن الحرب الحالية للسلطات المحلية بأن تكون أكثر فاعلية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً، فقد استطاعت السلطة المحلية في محافظتي حضرموت ومأرب تخصيص 20 في المئة من إيرادات النفط والغاز لمشاريع التنمية.

 

 وشهدت السلطات المحلية تنمية ملموسة خصوصاً في محافظة مأرب التي كانت قبل الحرب 2015 تتحصّل على أقل من 1 في المئة من الإنفاق الحكومي بحسب الإحصاءات الوطنية في اليمن. كما أعلن عن مجلس حضرموت الوطني في الأشهر الماضية ليعزّز الإدارة الذاتية للمحافظة.

 

 وبالتالي، فإنّ الحكم اللامركزي يُفترض أن يكون القاعدة التي ينطلق منها أطراف الصراع للوصول إلى تسوية سياسية، حيث يمكن لمجلس القيادة الرئاسي ضم جماعة الحوثي وتكوين حكومة مركزية تكنوقراطية تضم كل الأطياف السياسية توسيع المجالس المحلية وتفعيلها أسوة بتجربة مأرب وحضرموت للإدارة الذاتية لمرحلة انتقالية محدّدة ومن ثم تحديد خارطة انتقالية نحو الحكم اللامركزي.

 

قد يواجه هذا الحل بعض التحدّيات، منها اشكالية توزيع الموارد الاقتصادية التي يمكن حلّها عبر تشكيل لجنة اقتصادية وطنية تشمل خبراء اقتصاديين من كل الأطياف مع رقابة دولية لتوزيع عادل للموارد الاقتصادية بما يعزّز التنمية المحلية والشفافية ويحدّ من الاستملاك.

 

 أما التحدّي الثاني، فيتمثّل بمطالبة المجلس الانتقالي بالانفصال واستقلال الجنوب وسيتشارك مع جماعة الحوثي في رفض الحكم اللامركزي. واقع الحال في الجنوب حالياً هو الحكم اللامركزي الضمني. فعدن والضالع ولحج تحت إدارة المجلس الانتقالي الجنوبي بينما أبين وشبوة وحضرموت والمهرة تتمتّع بإدارة محلية متفاوتة بحسب المحافظة، وقد يحدّ تفعيل المجالس المحلية من استئثار المجلس الانتقالي بالسلطة والثروة كما سيحدّ من استملاك جماعة الحوثي عليها في شمال البلاد.

 

ولا يفوتنا أن ننوّه بخطر تطبيق اللامركزية من أعلى إلى أسفل. قد يؤدّي إلى استعادة طبائع استملاك السلطة من قبل نخبة معينة. بالتالي، يستلزم تصميم نظام الحكم اللامركزي من أسفل إلى أعلى عملية شاملة يشارك فيها جميع النخب السياسية والمجتمع المدني ويلاقي الدعم الإقليمي لنجاحها؛ ويستحسن الاستفادة من "الإستراتيجية الوطنية للحكم المحلي" التي بيّنت آلية الحكم اللامركزي والتوزيع العادل للموارد.

 

التوصيات

 

تقدّم هذه الورقة توصيات إلى الجهات الفاعلة التي بإمكانها إحداث تغيير في نمط استملاك السلطة في اليمن.

 

أولاً، ينبغي على الجهات المحلية الفاعلة:

 

-أن تعترف بأنّ مبادئ مشاركة السلطة والتسامح والحكم اللامركزي الضمني أساسيّة لتحقيق الاستقرار والتنمية. فالدول اليمنية التي تشكّلت عبر التاريخ واستمرّت لأكثر من قرن تشاركت في مبادئ التسامح ومشاركة السلطة والحكم اللامركزي الضمني، وهذا ما يفتقر إليه أطراف الصراع الحالي.

 

-أن تقدّم بعض التنازلات من أجل التوصّل إلى تسوية سياسية شاملة. والوضع الحالي لا يدعم هكذا تسوية، إذ استملك كل طرف السلطة ويبدو غير مستعد للتعاون، التسوية من دون تنازلات ستؤدّي إلى مجرد اعتراف بالمكاسب العسكرية وسلام هش لا يمكن أن يدوم.

 

-أن تفعّل الحكومة المعترف بها دولياً وجماعة الحوثي المجالس المحلية - على غرار تجربة مأرب وحضرموت - على مستوى المحافظات والمديريات وتمنحها المزيد من الصلاحيات في تحصيل الموارد وتخصيص جزء من العائدات وتقديم الخدمات وعقد الشراكات المباشرة مع الجهات الدولية المانحة والاشراف على الوحدات الأمنية والمشاريع التنموية.

 

-أن تشكّل لجنة اقتصادية وطنية بمشاركة خبراء من كافة الأطراف لضمان العدالة في توزيع الموارد الاقتصادية.

 

-أن تعيد النظر في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني، وأن تعتمد على مبدأ اللامركزية في الحكم أو البحث عن التكامل مع النظام الفيدرالي، حيث إنّ اللامركزية تتوافق مع بنية اليمن الاجتماعية وسياقه التاريخي.

 

أمّا الدول الإقليمية الفاعلة، فلا بدّ من:

 

-أن تضغط على اللاعبين المحليين لتقديم التنازلات للتوصل إلى تسوية سياسية، والاعلان عن دعم الوحدة اليمنية واحترام سيادة اليمن على موانئه وجزره والكف عن أي تصرفات أو دعم قد يؤجّج الصراع ويطيل أمد الحرب، وعدم استغلال الوضع الاقتصادي الصعب لفرض النفوذ والهيمنة.

 

-أن تبذل جهداً لإعادة توحيد العملة وتفعيل دور البنك المركزي اليمني كمؤسسة وطنية فاعلة لكي يستعيد دوره المحوري في دعم ميزانيات المجالس المحلية مالياً وإيجاد آلية لضخ السيولة فيه لتمكينه من الاضطلاع بدوره والمساهمة في إعادة إعمار البنى التحتية.

 

-أن تعزّز المجالس المحلية وعدم دعم إنشاء كيانات أو مجالس موازية تقوّض من عمل المجالس المحلية وتزيد المشهد اليمني تعقيداً.

 

أمّا المجتمع الدولي، فينبغي عليه:

 

-أن يستقي الدروس من فشل المرحلة الانتقالية السابقة ويكثّف جهوده لدعم نجاح أي تسوية قادمة عبر التركيز على المسار السياسي والوضع الاقتصادي والعمل على خارطة للحكم اللامركزي الأولي ابتداءً من المرحلة الانتقالية.

 

-أن يدعم حلّاً سياسياً يعتمد على الحكم اللامركزي. ويشمل ذلك توسيع مجلس القيادة الرئاسي لضم الأطراف الأخرى وتوزيع الموارد من خلال لجنة اقتصادية مشتركة بإشراف دولي. ينبغي أيضاً منح السلطات المحلية فرصة للحكم الذاتي وإدارة الموارد بشكل مستقل، مع الحفاظ على الهوية الوطنية.

 

-أن تستبدل أجهزة الحكومة أو المنظمات المحلية أو القطاع الخاص التي تشارك المنظّمات الدولية في مشاريعها (الإغاثية والتنموية والثقافية، وغيرها) بالمجالس المحلية لتعزيز شرعيتها وتقديم الخدمات عبر النموذج اللامركزي.

 

-أن يركّز على التأهيل المؤسسي للمجالس المحلية (من أسفل إلى أعلى) في مجالات القضاء والأمن والديمقراطية والإدارة والاستفادة من الخبراء الدوليين في تبنّي آلية المساءلة والشفافية.

 

-أن يحثّ جميع الفئات والمجموعات والكيانات السياسية والشعبية والقبلية على المشاركة في الحكم المحلي عبر المجالس المحلية لتجنّب الاقصاء وادعاءات المظلومية والعودة إلى النمط التاريخي.

 

رابط المادة من المصدر:

 

https://mecouncil.org/publication/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%86-%D9%86%D8%B4%D8%A3%D8%AA%D9%87%D8%A7-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%83%D9%87/?lang=ar

 

(مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية)

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI