يشير التوجه السائد في الإعلام الغربي إلى التشكيك في كل البيانات والمعلومات من روسيا، بخاصة ما يتعلق بالاقتصاد مع المغالاة في اتهام السلطات الروسية بأنها "تضبط دفاتر"، أي أنها تتلاعب بالأرقام ليبدو الوضع أفضل مما هو في الحقيقة، لكن الأرقام والبيانات من مصادر مختلفة، وأغلبها مصادر غربية من بنك "غولدمان ساكس" الاستثماري الأميركي إلى "بنك فنلندا"، تؤكد أن الاقتصاد الروسي ينمو بأقوى وأسرع من أغلب الاقتصادات الكبرى حول العالم.
تظهر الاستطلاعات والمسوح التي تجريها شركات الأبحاث والاستشارات الأجنبية أن الوضع في روسيا أفضل بكثير من ناحية الاقتصاد وثقة الشعب الروسي في مستقبله منه في دول كثيرة متقدمة، على رغم الحرب في أوكرانيا المستمرة منذ عام 2022، وحزم العقوبات المشددة غير المسبوقة التي تفرضها الولايات المتحدة والغرب على موسكو، وهذا ما جعل مجلة "إيكونوميست" المحافظة العريقة تفرد مساحة لتحليل مطول في عددها الأخير عن اقتصاد روسيا ونموه الملحوظ على رغم الحرب والعقوبات.
يستند التحليل، ليس فقط إلى الأرقام والبيانات الرسمية من موسكو، بل أيضاً إلى مجموعة من المعلومات والبيانات والتقديرات من مؤسسات غربية مختلفة.
ويخلص في النهاية إلى أن هذا النهج مستمر، في الأقل لفترة قبل أن يحدث تغير في مؤشرات الاقتصاد الكلي وتراجع ثقة الشعب الروسي في آفاق النمو الاقتصادي.
نمو وتوسع
المستهدف المتوقع لنمو الناتج المحلي الإجمالي لروسيا هذا العام بشكل فعلي هو نسبة ثلاثة في المئة، أي أنه معدل نمو يفوق نسبة النمو في 95% من الدول الغنية حول العالم. وطبقاً لبيانات البنك المركزي الروسي فإن النشاط الاقتصادي في شهري مايو/ أيار ويونيو/ حزيران "ارتفع بقوة".
ويؤكد بنك "غولدمان ساكس" توسع النشاط في الاقتصاد الروسي، مع انخفاض معدلات البطالة إلى أدنى مستوى لها واستمرار قوة العملة الروسية، الروبل.
صحيح أن معدل التضخم مرتفع، إذ وصل في يونيو الماضي إلى نسبة 8.6%، أي أكثر من ضعف النسبة المستهدفة من قبل البنك المركزي عند 4%، إلا أن القوة الشرائية للأسر الروسية ترتفع بقوة، بالتالي يشعر الروس بتحسن الأوضاع، على عكس أغلب شعوب الدول الكبرى الأخرى.
بحسب هيئة الإحصاء الروسية، فإن ثقة المستهلكين في الاقتصاد حالياً أعلى من المتوسط السنوي منذ تولي الرئيس فلاديمير بوتين السلطة مطلع هذا القرن، وإذا كان البعض يتشكك في الأرقام الرسمية الروسية فإن "إيكونوميست" تنشر بيانات شركة الأبحاث المستقلة "ليفادا سنتر" التي تعزز هذه الحقيقة.
وأصبح الروس لا يترددون في الشراء، بخاصة الأغراض مرتفعة الثمن مثل السيارات وغيرها. ومن الأمثلة التي يذكرها التحليل تقديرات المجلة وليس من أرقام رسمية روسية ارتفاع واردات الروس من الخمور العام الماضي بنسبة 80%.
وتشير أرقام أكبر المصارف الروسية "سرب بنك" إلى ارتفاع إجمالي إنفاق المستهلكين في يونيو الماضي، بنسبة 20%، وبمقارنة الأرقام والبيانات الحالية حول توسع النشاط الاقتصادي وشعور الروس الجيد بتحسن الوضع مع العقد الماضي نجد أن هناك تغييراً كبيراً نحو الأفضل.
ففي العقد الثاني من القرن الحالي كان نمو الناتج الاقتصادي والأجور بطيئاً جداً، عكس الوضع حالياً، وفي عام 2018 لم تكن الأجور الحقيقية للروس أعلى منها في عام 2012 مثلاً. مما أسهم في تدهور الأوضاع وقتها حزم العقوبات الغربية على موسكو في أعقاب ضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014.
في تلك الفترة أيضاً اتبعت الحكومة الروسية سياسة تقشفية تضمنت زيادة الضرائب وخفض الإنفاق في محاولة لتحقيق "الانضباط المالي"، وزاد من تعقيد الوضع حدوث أزمة وباء كورونا عام 2020 ثم العقوبات المشددة مع بداية حرب أوكرانيا.
أسباب التحسن
لكن التساؤل يبقى، ما السبب وراء هذا التحول في العامين الأخيرين، ونمو الاقتصاد بقوة وتحسن أوضاع الأسر الروسية؟.
قد تكون الإجابة السريعة هي استمرار الزيادة في عائدات الصادرات الروسية، بخاصة بعدما نجحت حكومة الرئيس بوتين في إيجاد منافذ لصادرات الطاقة التي كانت تستوردها أوروبا وتوقفت بسبب العقوبات والحظر، إلا أن الأرقام والبيانات لا تشير إلى أن عائدات الصادرات الروسية تحسنت بالقدر الذي يبرر هذا النمو الاقتصادي والتيسير المالي للحكومة في الكرملين، فأسعار النفط، وهو مصدر عائدات روسيا الأهم من صادرات الطاقة، أقل حالياً مما كانت عليه قبل عامين.
وفي الربع الأول من العام الحالي 2024 كان إجمالي قيمة الصادرات الروسية أقل بنسبة أربعة في المئة عن الفترة نفسها من العام الماضي 2023، وأقل بأكثر من 30% عنها في العام السابق 2022.
من أهم أسباب تحسن الوضع الاقتصادي في روسيا تغيير الحكومة للسياسة المالية والسياسة النقدية بشكل واضح، بالتالي هي عوامل الاقتصاد الكلي التي شجعتها حكومة الرئيس بوتين التي تقف وراء توسع النشاط وتحسن أحوال المعيشة للروس.
بالنسبة للسياسة المالية، تخلت الحكومة عن سياسة التقشف وزادت من الإنفاق العام، ويتوقع أن تصل نسبة العجز في الموازنة الروسية هذا العام إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وعلى رغم أنها نسبة ليست كبيرة مقارنة بالدول الصناعية الكبرى الأخرى (سقف العجز المقبول في دول منطقة اليورو نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي)، إلا أنها نسبة عالية بالمعايير الروسية.
وتخطط الحكومة لسد فجوة العجز من الاحتياطات المالية التي راكمتها على مدى أكثر من 10 سنوات، لذا ارتفع إنفاق الحكومة بنسبة 15% في العام الماضي والذي قبله، ويتوقع أن يرتفع بنسبة أقل قليلاً هذا العام أيضاً. صحيح أن أغلب الزيادة في الإنفاق تتجه للصناعات العسكرية، لكنها أيضاً توفر دخلاً كبيراً للأسر الروسية، إذ يقدر "بنك فنلندا" زيادة الإنفاق العسكري الروسي بنسبة 60% هذا العام.
في يوليو/ تموز الماضي، ضاعف الرئيس بوتين العلاوة الممنوحة لمن يسجلون للمشاركة في الحرب من 195 ألف روبل (2200 دولار) إلى 400 ألف روبل، كذلك خصصت الحكومة تعويضات كبيرة للأسر التي فقدت ضحايا في الحرب.
السياسة النقدية
لكن الإنفاق الحكومي يتجاوز المجالات المرتبطة بالحرب إلى غيرها من مجالات الرفاه الاجتماعي، ففي يونيو الماضي، رفعت الحكومة معاشات تقاعد فئات كثيرة بنسب تصل إلى 10%، وزاد إنفاق الحكومة على مشروعات البنية التحتية مثل الطرق وغيرها، وتوفر فرص عمل مجزية لكثيرين، كذلك هي تؤدي إلى تطوير مناطق شاسعة من البلاد.
هذا بالنسبة للسياسة المالية، التي تخلت فيها الحكومة عن التقشف ولجأت إلى زيادة الإنفاق العام ما خفض معدلات البطالة، وزاد من قيمة الدخول إلى جانب نمو الناتج المحلي الإجمالي بفضل توسع النشاط، أما السبب الثاني لنمو الاقتصاد الروسي بمعدلات أفضل من غيره فهو السياسة النقدية.
لمواجهة ارتفاع معدلات التضخم، زاد البنك المركزي الروسي نسبة الفائدة الأساس من 7.5 إلى 18%، وربما يلجأ إلى رفع سعر الفائدة أكثر، على عكس بدء البنوك المركزية حول العالم في خفض أسعار الفائدة، وأدى ذلك إلى الحفاظ على قوة الروبل بجذب استثمارات أجنبية من "دول صديقة" مثل الصين والهند، وهو ما أدى إلى انخفاض الواردات، بالتالي تراجع معدلات التضخم.
ومع أن زيادة سعر الفائدة يعني ارتفاع كلفة الاقتراض، بالتالي يحد من استثمارات الشركات وإنفاق المستهلكين، إلا أن حكومة الرئيس بوتين لجأت إلى عدد من الإجراءات غير التقليدية للحد من الأثر السلبي لرفع الفائدة، منها مثلاً، أن المقرضين يطرحون نسب فائدة منخفضة على القروض العقارية، لا تزيد في أغلبها على 8%، أي أقل من سعر الفائدة الأساس للبنك المركزي، علاوة على أن القروض لاستثمارات الشركات في حدود نسبة فائدة عند 3%، وعلى رغم أن ذلك قد يشكل عبئاً على البنوك والنظام المصرفي، فإن تدخل الحكومة لدعم القطاع يجعل البنوك لا تتردد في الإقراض بتلك النسب المنخفضة من الفائدة.
هكذا، نجد إقراض البنوك للشركات والأعمال زاد بأكثر من نسبة 20% سنوياً، وأن القروض للأسر والمستهلكين زادت أيضاً، حتى من دون ضمانات.
طبعاً لا يمكن لمثل تلك السياسات أن تستمر إلى ما لا نهاية، إذ إن معدلات التضخم قد ترتفع مجدداً، كذلك فإن احتياطات البلاد التي تراكمت في السابق ستتدهور، لكن تقديرات أغلب المحللين أن الحكومة الروسية لديها القدرة على الاستمرار في تلك السياسات في الأقل في الخمس سنوات المقبلة.