11 مارس 2025
11 مارس 2025


مضى أكثر من عام منذ أن اجتذبت جماعة الحوثيين (أنصار الله) أنظار ودهشة العالم، بتحديها - رغم كل الصعاب - الولايات المتحدة وبريطانيا وتحالف من القوات البحرية الغربية، وفرضها حصارا منهكا على ميناء إيلات الإسرائيلي.

لم تنجح الحلول العسكرية في تقويض قدرات الجماعة التي لا تزال تُهدد بشن هجمات جديدة رغم إعلان وقف إطلاق النار في غزة، حيث تعهد الحوثيون بمواصلة استهداف السفن الإسرائيلية لحين اكتمال جميع مراحل الصفقة.

ورغم أن هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات المسيرة على إسرائيل لم تحدث سوى أضرار مادية طفيفة وخسائر بشرية محدودة (بحُكم المسافة الجغرافية التي تفصل بين اليمن وإسرائيل والمقدرة بـ 2000 كيلومتر تقريبا، والتي فرضت تخفيف حمولة المتفجرات على هذه الأسلحة لقطع تلك المسافة)، فقد كان لها تأثير اقتصادي ونفسي كبير حيث ضرب الحوثيون أهدافا في عُمق الأراضي الإسرائيلية – أصابت تل أبيب ويافا والقدس وعسقلان بصواريخ ومسيرات انتحارية.

الرسالة كانت واضحة: اخترقت جماعة مسلحة في واحدة من أفقر دول العالم ما يُمكن القول إنه أكثر أنظمة الدفاع الجوي تقدما في العالم، وهزت الصورة التي صوّرتها إسرائيل عن نفسها على مدى عقود كقوة لا تُقهر. نجح الحوثيون في نقل المعركة إلى إسرائيل وخوضها لفترة أطول بكثير من أي طرف آخر في “محور المقاومة” – بما في ذلك إيران.

الردّ الإسرائيلي

اختلفت طبيعة الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا لردع الحوثيين من حيث نوعية الأهداف، والتي انحصرت في منصات إطلاق صواريخ ومستودعات أسلحة، بينما يمكن القول أن إسرائيل انتهجت سياسة في ردّها على الحوثيين أقرب إلى سياستها الممارسة في غزة منذ خمسة عشر شهرا.

استهدف الردّ الإسرائيلي البنية التحتية المدنية كَعقاب جماعي للشعب اليمني، لكن تلك الهجمات كانت محسوبة بحيث لا يتم استنفاد بنك الأهداف: ففي أول ضربة لها على ميناء الحديدة، دمّرت إسرائيل بعض الرافعات الجسرية، تلا ذلك هجوم على مستودعات للوقود بالقرب من الميناء، لكنها تركت بعض الأهداف تحسباً لضربها مستقبلاً. يبدو من هذا أن إسرائيل كانت تأمل في تسلق سلم التصعيد ببطء لإتاحة فرصة للحوثيين للتراجع، لكن هذا التوجه لم يُفلح.

أشارت إحدى وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى حالة من الاستياء داخل الحكومة وبين الشعب الاسرائيلي من عدم إحراز تقدم في وقف هجمات الحوثيين على السفن في البحر الأحمر وعلى إسرائيل نفسها، وطرحت في مقالة منشورة أربعة خيارات، يصعب تنفيذ كل منها لما يترتب عليها من تداعيات كارثية محتملة:

كان الخيار الأول فرض حصار كامل على اليمن، ومنع جميع التعاملات التجارية من وإلى اليمن؛ وكان الخيار الثاني تحرك إسرائيلي مباشر لقطع رأس جماعة الحوثيين عبر اغتيال قيادتها؛ والخيار الثالث دعم أطراف يمنية – غالباً الجماعات المسلحة المدعومة من الإمارات – لمحاربة الحوثيين؛ أما الخيار الرابع والأخير فَكان تشجيع الحكومة المعترف بها دوليا على مواجهة الجماعة.

الحصار يعني تكرار نموذج غزة – أي تجويع الشعب اليمني. بيد أن القيادات الحوثية لن تتضور جوعاً، ولن تضعفهم المجاعة في اليمن، بل على العكس قد تسهل مساعيهم لتجنيد مزيد من شباب القبائل، وقد يدفع هذا النهج المزيد من اليمنيين إلى الوقوف في صف الجماعة آخر المطاف.

سيترتب على الخيار الثاني – قطع رأس جماعة الحوثيين – تداعيات وخيمة بنفس القدر. ففي غزة، قررت إسرائيل أنه من المقبول قتل وإصابة مئات المدنيين للقضاء على قيادي واحد من حركة حماس، ولن تتوانى عن تنفيذ هجمات مماثلة في اليمن مع الأخذ في الاعتبار النزعة الانتقامية والمتعطشة للدماء للقيادة الإسرائيلية.

لكن هيكل جماعة الحوثيين أكبر بمرات من حركة حماس أو حزب الله، لذا حتى لو تمكنت إسرائيل من اغتيال العديد من القيادات الحوثية – ومعهم غالباً آلاف المدنيين ممن سيقضون في تلك العمليات – لن تنجح في تدمير الجماعة.

يأتي بعد ذلك خيار دعم الفصائل اليمنية، وهو خيار أكثر تعقيدا وغير محمود العواقب. كان التوجّه الأول لإسرائيل وحلفائها الغربيين هو التواصل مع القوات المتمركزة في الساحل الغربي بقيادة طارق صالح، حيث تمت دعوته إلى لندن لمناقشة هجمات الحوثيين على البحر الأحمر وإمكانية شن عملية عسكرية حكومية.

من جانبه، طلب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي عيدروس الزبيدي توفير الدعم لردع الحوثيين، لكن الفكرة قوبلت برد فعل شعبي قوي من اليمنيين ممن توارثوا الإيمان بعدالة القضية الفلسطينية، وبالتالي وجدوا في محاربة الحوثيين نيابة عن إسرائيل لمنعهم من مساندة سكان غزة فكرة غير مستساغة، مع العلم أن هذا كان شعوراً مشتركاً حتى لدى أشد خصوم الجماعة.

بناء عليه، فإن أي دعم لجماعات مسلحة مناطقية لتحقيق مكاسب – وربما الاستيلاء على مدينة الحديدة الساحلية- من شأنه أن يُضعف الحكومة المعترف بها دوليا، العاجزة والمنقسمة أساساً، ويزيد من اختلال التوازن بينها وبين جماعة الحوثيين التي هي أكثر تماسكاً ووحدة. في النهاية، سيخدم هذا التوجه الحوثيين: فحتى الاستيلاء على الحديدة لن يُغيّر الكثير من الناحية العسكرية، حيث ستكون القوات المرابطة هناك أهدافاً سهلة للمقاتلين الحوثيين المتمركزين في مواقع على الجبال الغربية القريبة من المدينة.

بيد أن صوت العقل تدخل في دوائر صنع القرار بالولايات المتحدة وبريطانيا، حيث أدركوا مخاطر هذه الخيارات والمقاربات، وبدأوا عوضاً عن ذلك في محادثات مع الحكومة المعترف بها دوليا.

لكن هذا يأتي مقترناً بتحديات من نوع آخر: فالانقسامات تنخر القوات الحكومية، ونذكر هنا بما حصل قبل أربع سنوات حين اقترب الحوثيون من مدينة مأرب، وكيف أعلن الزبيدي أن انتصار الحوثيين سيكون المفتاح لتحقيق هدف الانفصال للمجلس الانتقالي – أي استعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

من جهة أخرى، ترى عناصر في قوات المقاومة الوطنية التابعة لطارق صالح أن هزيمة قوات الإصلاح التي تشكل جزءاً كبيرا من تكوين الجيش الوطني (والتابعة لجماعة الإخوان المسلمين في اليمن) شرط مسبق لهزيمة الحوثيين.

وبالتالي، مجرد توقع أن تتوحّد مثل هذه القوى المنقسمة (رغم انضوائها تحت راية الحكومة)، وهي غير قادرة حتى على الاتفاق على آلية قيادة مشتركة، وأن تنجح في شن حملة هجومية ومتواصلة، وفي إلحاق الهزيمة بقوة عسكرية أضعاف حجمها ومعروفة بانضباطها وحذقها، هو أمر عبثي، بل إن عواقب هذا الخيار قد تكون أكثر وبالاً من عواقب الخيارات الثلاث الأولى.

فالعودة إلى حرب مفتوحة وشاملة ضد قوات الحوثيين التي طوّرت قدراتها العسكرية واكتسبت تقنيات حديثة ومتقدمة، ستسفر عن سقوط اعداد هائلة من الضحايا. من جانب آخر، سيؤدي الدعم الغربي أو الإسرائيلي إلى تعطيل تدفق الإمدادات الغذائية والإنسانية وإلى خطر حدوث مجاعة.

والأهم هو ان أي هجوم من هذا النوع سيفشل على الأرجح، وسوف تُقر الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون والعرب في نهاية المطاف بالواقع القائم على الأرض – كما فعلوا في أفغانستان – وسيتوصلون إلى صفقة مجزية للحوثيين تلبي مصالحهم الخاصة، وليس مصالح الشعب اليمني.

هنا على اليمنيين المدافعين عن هذا التوجّه أن يدركوا أن هزيمة الحوثيين ليست ضرورية لتُحقق إسرائيل والولايات المتحدة أهدافهما. يكفيهما إبقاء الحوثيين منشغلين لعام أو عامين لحين قيامهما بتسوية الوضع في فلسطين، وبنهاية القتال، سيصبح اليمن أكثر تشرذما وضعفاً، وسيظل تحت رحمة الحوثيين والجماعات المسلحة الأخرى.

خيار أفضل

استقطبت القدرات العسكرية للحوثيين الأنظار بلا شك، لكن للقصة جانب آخر يتمثل في الوضع الاقتصادي المُزري في مناطق سيطرتهم. قوانين الحوثيين المشددة ونظامهم الضريبي القائم على الابتزاز وسياسة حلب أموال الشركات لدعم المجهود الحربي وإثراء قيادات الجماعة أدت إلى استنزاف الاقتصاد وهروب جزء كبير من رؤوس الأموال وهجرة الكفاءات.

على مدى السنوات القليلة الماضية، ارتكزت الخطط الاقتصادية غير المعلنة للحوثيين على الاستيلاء على موارد النفط والغاز في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، ولعلّ عدم قدرتهم على التمدّد إلى تلك المناطق تعطي درسا قيما قد تستفيد منه الحكومة: وهو أن الدفاع أسهل من الهجوم بالنسبة لها.

صحيح أن خطوط الدفاع تتطلب دعما لوجستيا متطورا، ولكن ذلك سيضمن الصمود – ولو لفترة من الوقت – حتى وسط انقسامات القيادة العليا. تم ردع وصدّ هجمات الحوثيين على حقول النفط في مأرب وشبوة غالبا من قبل فصيل أو فصيلين مختلفين من القوات الموالية للحكومة.

إن فشل خطط التوسّع لم يكن كافياً لدفع الحوثيين إلى قبول الانخراط في مفاوضات من أجل السلام، حيث أنهم لازالوا يرون فرصا ، منها افتقار الحكومة لخطة واضحة ومُحكمة، نقطة ضعف تعزز آمال الجماعة في فرصة أخرى للاستيلاء على حقول النفط. وازداد يقينهم عندما بدأ السعوديون في محادثات مباشرة معهم وعبروا لهم عن فساد الحكومة وعدم كفاءتها، و عن رغبتهم في إبرام صفقة.

كان الحوثيون يترقبون توقيع اتفاق مع السعوديين قُبيل أحداث السابع من أكتوبر، يسمح للرياض بالخروج من مستنقع الصراع اليمني وترك حلفائها لمصيرهم، لكن وعلى نحو ما، جاءت عملية السابع من أكتوبر لتمنح الحكومة اليمنية فرصة أخرى.

قد تنجح استراتيجية العصا والجزرة (المرتكزة على الدفاع)، في دفع الحوثيين إلى طاولة المفاوضات. تنطوي هذه الاستراتيجية على تحويل القوات الحكومية إلى قوة رادعة يُعتمد عليها في صدّ الحوثيين وجعل الجماعة تدرك أن أي محاولة لإعادة الاستيلاء على حقول النفط هي خط أحمر.

إن الخطوة الأولى تتمثل في توحيد هيكل القيادة العسكرية للمعسكر المناهض للحوثيين، لكنها تبدو مهمة مستحيلة حالياً، بما أن السبب الكامن وراء الانقسام الحاصل هو التنافس بين السعودية والإمارات.

من هنا، يجب على الولايات المتحدة إقناع كلا الدولتين بالتعاون والانخراط بحسن نية في مثل هذه الجهود. على الرغم من أن العرقلة الإماراتية تؤذي اليمن، إلا أنها مدفوعة بمخاوف أمنية مشروعة لا يستطيع تهدئتها إلاّ الولايات المتحدة. تتمثل الخطوة الثانية في توفير القدرات الدفاعية اللازمة للقوات الحكومية، بحيث يكفي أن تصمد هذه القوات بثبات وتكسر الهجوم الحوثي المحتم.

فيما مضى، لم يُبد الحوثيون حسن نية في المفاوضات أو قبولاً لمبدأ تقاسم السلطة مع أشقائهم اليمنيين، لكن إحداث تغيير جذري في الديناميكيات على الأرض – من خلال قوة دفاع حكومية موحدة وزيادة الضغوط على الجماعة – يمكن أن يقلب المعادلة ويجعلهم يدركون أن هذه هي الطريقة الوحيدة للبقاء.

مع تخبطهم في براثن الوضع الاقتصادي المتدهور والمأزق العسكري، قد يصبح الحوثيون منفتحين على التمويلات المقدمة من السعودية ومجلس التعاون الخليجي، لجهود إعادة الإعمار وتعزيز مقومات البقاء الاقتصادي لليمن (وهي الجَزرة في هذه السياسة).

يدرك الحوثيون أن الجزء الأكبر من السكان في مناطق سيطرتهم يعتمدون على التحويلات المالية والمساعدات الإنسانية القادمة من خصوم الجماعة العرب والغربيين. بالتالي، وبمجرد وضع حدّ لخططهم الطموحة بالتمدّد إلى مناطق أخرى، قد يرون الحكمة في التخلي عن بعض السيطرة على جزء فاشل من دولة فاشلة وقبول اتفاقية لتقاسم السلطة تتيح لهم فرصة البقاء.

لن تتوقف مساعي الحوثيين الوجيهة لدعم سكان غزة حتى تتوقف الإبادة الجماعية، خاصة أن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة يظل هشا وغير مكتمل الأركان، لكن لا يمكن تهدئة المخاوف الغربية من احتفاظ الحوثيين بالقدرة على تعطيل حركة الملاحة في البحر الأحمر، إلا من قبل الأطراف اليمنية الأخرى.

إن حالة الضعف التي تعيشها الحكومة، وافتقارها إلى قيادة عسكرية موحدة، والتنافس بين داعميها الرئيسيين – السعودية والإمارات – يمنح الحوثيين أملاً في التوسع عسكرياً في المستقبل، والسيطرة على موارد النفط والغاز في اليمن.

من هنا تبرز أهمية التغلب على هذه التحديات والعقبات، بحيث لا يكون أمام الحوثيين خيار سوى الدخول في مفاوضات جادة مع الأطراف اليمنية الأخرى، من أجل تحقيق سلام يستقطب التمويلات لإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية. تهيئة الظروف لاتفاق لتقاسم السلطة مع اليمنيين الآخرين هو أجدى طريقة لوضع حدّ للمغامرات العسكرية الحوثية، ووضع مصالح الشعب اليمني أولاّ.

(مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية)
 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI