5 يوليو 2024
9 فبراير 2023
يمن فريدم-الشرق نيوز
آثار تسرب الغاز من خط أنابيب "نورد ستريم" في بحر البلطيق. 27 سبتمبر 2022 - REUTERS

 

 

توصل تحقيق استقصائي أجراه صحافي أميركي إلى أن الولايات المتحدة تقف وراء تنفيذ تفجيرات، في سبتمبر الماضي، استهدفت خطوط أنابيب "نورد ستريم"، التي تنقل الغاز الروسي إلى أوروبا، وذلك في عملية سرية نفذتها قوات البحرية الأميركية، فيما نفى البيت الأبيض ما وصفه بـ"الادعاءات الكاذبة" في التحقيق.

 

وفي التحقيق الاستقصائي، قال الصحافي الأميركي سيمور هيرش إنه يمكن العثور على "مركز الغوص والإنقاذ" التابع للبحرية الأميركية في موقع غامض مثل اسمه، أسفل ما كان في السابق حارة ريفية في مدينة بنما سيتي، وهي مدينة ساحلية مزدهرة الآن في جنوب غرب فلوريدا، على بعد 70 ميلاً جنوب حدود ولاية ألاباما.

 

"أعمال سيئة"

 

بحسب هيرش، يقوم المركز بتدريب الغواصين ذوي المهارات العالية في المياه العميقة منذ عقود بمجرد تكليفهم بالخدمة في الوحدات العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم، على أن يكونوا قادرين على ممارسة مهام غوص فنية باستخدام متفجرات (C4) إما لأعمال جيدة مثل تطهير الموانئ والشواطئ من الحطام والذخائر غير المنفجرة، أو لتنفيذ عمليات سيئة مثل تفجير منصات النفط الأجنبية وإتلاف صمامات السحب الملوثة لمحطات الطاقة تحت سطح البحر وتدمير الأهوسة على قنوات الشحن الحيوية.

 

وكان وسط مدينة بنما سيتي، الذي يضم ثاني أكبر مسبح مغلق في أميركا، المكان المثالي لتجنيد أفضل خريجي مدرسة الغوص وأكثرهم هدوءاً، والذين نجحوا في الصيف الماضي في القيام بما سمح لهم بما فعلوه على عمق 260 قدماً تحت سطح بحر البلطيق.

 

في يونيو الماضي، قام غواصو البحرية الأميركية، الذين يعملون تحت غطاء مناورة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) حظيت بتغطية إعلامية واسعة في منتصف الصيف والمعروفة باسم (BALTOPS 22)، بزرع المتفجرات التي تم تفجيرها عن بعد والتي دمرت بعد 3 أشهر ثلاثة من خطوط أنابيب نورد ستريم الأربعة، وفقا لما نقله هيرش عن مصدر لديه معرفة مباشرة بالتخطيط التشغيلي للعملية.

 

وكان اثنان من خطوط الأنابيب، التي كانت تعرف مجتمعة باسم "نورد ستريم 1"، تزود ألمانيا والكثير من دول أوروبا الغربية بالغاز الطبيعي الروسي الرخيص لأكثر من عقد. وتم بناء زوج ثان من خطوط الأنابيب، يسمى "نورد ستريم 2"، لكن لم يتم تشغيله بعد. ومع احتشاد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية ونذر الحرب الأكثر دموية في أوروبا منذ عام 1945 التي كانت تلوح في الأفق في ذلك الوقت، رأى الرئيس الأميركي جو بايدن أن خطوط الأنابيب تتيح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام الغاز الطبيعي كسلاح في مواجهة أوروبا.

 

قرار بايدن

 

وقال هيرش إن "قرار بايدن بتخريب خطوط الأنابيب جاء بعد أكثر من 9 أشهر من النقاش السري للغاية داخل مجتمع الأمن القومي في واشنطن حول أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف. وخلال معظم ذلك الوقت، لم تكن القضية هي ما إذا كان يجب القيام بالمهمة، وإنما كيفية إنجازها دون أي دليل على هوية المسؤول عن تنفيذها.

 

وأوضح التحقيق أنه "كان هناك سبب بيروقراطي حيوي للاعتماد على خريجي مدرسة الغوص في المركز الواقع بمدينة بنما سيتي. وكان الغواصون من البحرية فقط، وليسوا أعضاء في قيادة القوات الخاصة الأميركية، بحيث يجب إبلاغ الكونجرس بعملياتها السرية وإطلاع قيادة مجلسي الشيوخ والنواب مسبقا، أو ما يسمى بـ "جماعة الثمانية" (مصطلح عامي لمجموعة من 8 قادة داخل الكونجرس الأميركي يتم إطلاعها على مسائل الاستخبارات السرية من قبل السلطة التنفيذية).

 

وكانت إدارة بايدن تبذل كل ما في وسعها لتجنب التسريبات حيث تم التخطيط للعملية في أواخر عام 2021 وحتى الأشهر الأولى من عام 2022، وفقاً لهيرش.

 

وكان الرئيس بايدن وفريقه للسياسة الخارجية، بما في ذلك مستشار الأمن القومي جيك سوليفان ووزير الخارجية توني بلينكن ووكيلة وزارة الخارجية للسياسة فيكتوريا نولاند، صريحين وثابتين في عدائهم لخطي الأنابيب، اللذين يسيران جنباً إلى جنب لمسافة 750 ميلاً تحت بحر البلطيق من ميناءين مختلفين في شمال شرق روسيا بالقرب من الحدود الإستونية، ويمران بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية قبل أن ينتهيا في شمال ألمانيا.

 

وكان المسار المباشر، الذي تجاوز أي حاجة لعبور أوكرانيا، نعمة للاقتصاد الألماني، الذي تمتع بوفرة من الغاز الطبيعي الروسي الرخيص، وهو ما يكفي لتشغيل مصانعها وتدفئة منازلها مع تمكين الموزعين الألمان من التربح من بيع الغاز الزائد في جميع أنحاء أوروبا الغربية.

 

وأوضح هيرش أن من شأن هذا الإجراء الذي يمكن تتبع المسؤولية عنه وصولاً إلى الإدارة الأميركية أن يمثل انتهاكاً لوعود الولايات المتحدة بتقليل الصراع المباشر مع روسيا، ومن ثم كانت السرية ضرورية.

 

وكانت واشنطن وشركاؤها المناهضون لروسيا في "الناتو" ينظرون إلى (نورد ستريم 1) منذ أيامه الأولى على أنه تهديد للهيمنة الغربية.

 

"مخاوف أميركية حقيقية"

 

الشركة القابضة التي تقف وراء المشروع، وهي شركة "نورد ستريم إيه جي"، تأسست في سويسرا في عام 2005 بالشراكة مع "جازبروم"، وهذه الأخيرة شركة روسية مطروحة للتداول العام تحقق أرباحاً هائلة للمساهمين ويهيمن عليها الأثرياء المقربون من بوتين.

 

وسيطرت "جازبروم" على 51% من الشركة، مع 4 شركات طاقة أوروبية (واحدة في فرنسا وواحدة في هولندا واثنتان في ألمانيا) تتقاسم الـ 49% المتبقية من الأسهم، ولها الحق في السيطرة على المبيعات النهائية للغاز الطبيعي غير المكلف للموزعين المحليين في ألمانيا وأوروبا الغربية. وتم تقاسم أرباح "جازبروم" مع الحكومة الروسية، وقدرت عائدات الغاز والنفط الحكومية في بعض السنوات بما يصل إلى 45% من الميزانية السنوية لروسيا.

 

وكانت مخاوف أميركا السياسية حقيقية، فبوتين سوف يكون لديه الآن مصدر دخل رئيسي إضافي تشتد الحاجة إليه، وستصبح ألمانيا وبقية أوروبا الغربية مدمنة على الغاز الطبيعي منخفض التكلفة الذي توفره روسيا في حين يقلل الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة.

 

وكان "نورد ستريم 1" خطيراً بما فيه الكفاية من وجهة نظر "الناتو" وواشنطن، لكن "نورد ستريم 2"، الذي كان سيكتمل بناؤه في سبتمبر من عام 2021، إذا وافق عليه المنظمون الألمان، سيضاعف كمية الغاز الرخيص التي ستكون متاحة لألمانيا وأوروبا الغربية. كما سيوفر خط الأنابيب الثاني ما يكفي من الغاز لأكثر من 50% من الاستهلاك السنوي لألمانيا.

 

واندلعت المعارضة لـ "نورد ستريم 2" عشية تنصيب بايدن في يناير 2021، عندما أثار الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة تيد كروز من تكساس، مراراً التهديد السياسي للغاز الطبيعي الروسي الرخيص خلال جلسة تأكيد بلينكن كوزير للخارجية.

 

وبحلول ذلك الوقت، كان مجلس الشيوخ قد أقر بنجاح قانون لوقف خط الأنابيب، حسبما أخبر كروز بلينكن. وكان هناك ضغط سياسي واقتصادي هائل من الحكومة الألمانية، التي كانت ترأسها آنذاك أنجيلا ميركل، لتشغيل خط الأنابيب الثاني.

 

وكان بلينكن قد رد بـ "نعم" على سؤال "هل سيقف بايدن في وجه الألمان؟"، لكنه أضاف أنه لم يناقش تفاصيل وجهات نظر الرئيس. وقال: "أعرف قناعته القوية بأن هذه فكرة سيئة"، في إشارة إلى "نورد ستريم 2".

 

وأضاف: "أعلم أنه سيتطلب منا استخدام كل أداة إقناع لدينا لإقناع أصدقائنا وشركائنا، بما في ذلك ألمانيا، بعدم المضي قدماً في ذلك".

 

وبعد بضعة أشهر، مع اقتراب بناء خط الأنابيب الثاني من الانتهاء، تراجع بايدن. وفي شهر مايو من ذلك العام، وفي تحول مذهل، تنازلت الإدارة عن العقوبات المفروضة على شركة "نورد ستريم إيه جي"، حيث أقر مسؤول في وزارة الخارجية بأن محاولة وقف خط الأنابيب من خلال العقوبات والدبلوماسية كانت "دائما بعيدة المنال".

 

ووراء الكواليس، وفقاً لهيرش، تردد أن مسؤولي الإدارة الأميركية حثوا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان يواجه في ذلك الوقت تهديداً بالغزو الروسي، على عدم انتقاد هذه الخطوة.

 

وكانت هناك عواقب فورية. وأعلن الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة كروز، عن اعتراض فوري على جميع مرشحي السياسة الخارجية لبايدن وأخروا تمرير مشروع قانون الدفاع السنوي لعدة أشهر.

 

ووصفت مجلة "بوليتيكو" في وقت لاحق تحول بايدن بشأن خط الأنابيب الروسي الثاني بأنه "القرار الوحيد ، الذي يمكن القول إنه أكثر من الانسحاب العسكري الفوضوي من أفغانستان، الذي عرض أجندة بايدن للخطر".

 

وكانت الإدارة تتخبط، وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي بنسبة 8% في غضون أيام، وسط مخاوف متزايدة في ألمانيا وأوروبا من أن تعليق خط الأنابيب والاحتمال المتزايد لحرب بين روسيا وأوكرانيا سيؤدي إلى شتاء بارد غير مرغوب فيه للغاية.

 

ولم يتضح لواشنطن حينذاك موقف أولاف شولتز، المستشار الألماني المعين حديثاً. وقبل أشهر، بعد سقوط أفغانستان في أيدي طالبان، أيد شولتز علناً دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى سياسة خارجية أوروبية أكثر استقلالية في خطاب ألقاه في براج، مما يشير بوضوح إلى اعتماد أقل على واشنطن.

 

وخلال كل هذا الوقت، كانت القوات الروسية تتراكم بشكل مطرد على حدود أوكرانيا، وبحلول نهاية ديسمبر كان أكثر من 100 ألف جندي في وضع يسمح لهم بالهجوم من بيلاروس وشبه جزيرة القرم. وكان القلق يتزايد في واشنطن.

 

وتركز اهتمام إدارة بايدن مرة أخرى على "نورد ستريم". وطالما ظلت أوروبا تعتمد على خطوط الأنابيب للحصول على الغاز الطبيعي الرخيص، كانت واشنطن تخشى أن تكون دول مثل ألمانيا مترددة في تزويد أوكرانيا بالأموال والأسلحة التي تحتاجها لهزيمة روسيا.

 

وفي هذه اللحظة غير المستقرة، أذن بايدن لجيك سوليفان بتجميع مجموعة مشتركة بين الوكالات للتوصل إلى خطة.

 

وكان من المقرر أن تكون جميع الخيارات مطروحة على الطاولة. لكن واحداً فقط سيظهر.

 

التخطيط للعملية

 

في ديسمبر 2021، أي قبل شهرين من دخول الدبابات الروسية الأولى إلى أوكرانيا، عقد سوليفان اجتماعاً لفرقة عمل مُشكلة حديثاً، وطلب توصيات حول كيفية الرد على غزو بوتين الوشيك.

 

وكان هذا الاجتماع الأول في سلسلة من الاجتماعات السرية للغاية، في غرفة آمنة في الطابق العلوي من مبنى المكتب التنفيذي القديم، المجاور للبيت الأبيض، والذي كان أيضاً مقر المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية التابع للرئيس بايدن.

 

وما أصبح واضحاً للمشاركين، وفقاً لمصدر لديه معرفة مباشرة بالعملية، أن سوليفان كان ينوي أن تضع المجموعة خطة لتدمير خطي أنابيب نورد ستريم، وأنه كان يحقق رغبات الرئيس.

 

وخلال الاجتماعات التالية، ناقش المشاركون خيارات الهجوم، واقترحت البحرية استخدام غواصة تكون قد انضمت للخدمة حديثاً لمهاجمة خط الأنابيب مباشرة. وناقش سلاح الجو إسقاط قنابل ذات صمامات لا تجعلها تنفجر بشكل وقتي، ويمكن تفجيرها عن بعد. وقالت وكالة الاستخبارات المركزية إنه مهما كانت الطريقة ينبغي أن تكون سرية.

 

وكان كل المشاركين في النقاش يدركون المخاطر، لأنه إذا افتضح تورط الولايات المتحدة سيعد "عملاً من أعمال الحرب".

 

وفي ذلك الوقت، كان يقود وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز، وهو سفير سابق لطيف الخلق في روسيا شغل منصب نائب وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما.

 

وسرعان ما أذن بيرنز بمجموعة عمل تابعة للوكالة كان من بين أعضائها المخصصين، عن طريق الصدفة، شخص على دراية بقدرات الغواصين في أعماق البحار التابعين للبحرية في بنما سيتي. وخلال الأسابيع القليلة التالية، بدأ أعضاء مجموعة عمل وكالة الاستخبارات المركزية في صياغة خطة لعملية سرية تستخدم الغواصين في أعماق البحار لإحداث انفجار على طول خط الأنابيب.

 

"كابوس غبي"

 

بحسب التحقيق الاستقصائي، حدثت عملية مشابهة من قبل، حيث علم مجتمع الاستخبارات الأميركي من مصادر لم يتم الكشف عنها بعد، في عام 1971، أن وحدتين مهمتين من البحرية الروسية كانتا تتواصلان عبر خط كابل تحت البحر مدفون في بحر أوخوتسك، على ساحل الشرق الأقصى لروسيا. وربط الخط قيادة البحرية الإقليمية بمقر البر الرئيسي في فلاديفوستوك.

 

وتم تجميع فريق مختار بعناية من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي في مكان ما بمنطقة واشنطن، تحت غطاء عميق من السرية، ووضع خطة.

 

وباستخدام غواصين من البحرية وغواصات معدلة ومركبة إنقاذ غواصات عميقة، نجح الفريق بعد الكثير من التجربة والخطأ، في تحديد موقع الكابل الروسي. وزرع الغواصون جهاز استماع متطور على الكابل الذي اعترض بنجاح حركة مرور الاتصالات الروسية وسجلها على نظام تسجيل.

 

وعلمت وكالة الأمن القومي أن كبار ضباط البحرية الروسية مقتنعون بأمان رابط الاتصال الخاص بهم، فتجاذبوا أطراف الحديث مع أقرانهم دون تشفير. وكان لا بد من استبدال جهاز التسجيل وشريطه الذي يربطه شهريا واستمر المشروع لمدة عقد من الزمان حتى تعرض للخطر من قبل فني مدني من وكالة الأمن القومي يبلغ من العمر 44 عاماً يدعى رونالد بيلتون وكان يجيد اللغة الروسية.

 

وتعرض بيلتون للخيانة من قبل منشق روسي عام 1985 وحُكم عليه بالسجن. ودفع الروس 5 آلاف دولار فقط مقابل ما كشفه عن العملية، إلى جانب 35 ألف دولار لبيانات تشغيلية روسية أخرى قدمها ولم يتم الإعلان عنها مطلقاً.

 

وكان هذا النجاح تحت الماء، الذي أطلق عليه اسم "آيفي بيلز" ناجماً عن فكر إبداعي ومحفوف بالمخاطر، وأنتج معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن حول نوايا البحرية الروسية وتخطيطها.

 

ومع ذلك، كانت المجموعة المشتركة بين الوكالات في البداية متشككة في حماس وكالة الاستخبارات المركزية لهجوم سري في أعماق البحار. وكان هناك الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها. وكانت البحرية الروسية تقوم بدوريات مكثفة في مياه بحر البلطيق، ولم تكن هناك منصات نفط يمكن استخدامها كغطاء لعملية الغوص.

 

وقال المصدر إنه خلال "كل هذا التدبير، كان بعض العاملين في الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية يقولون: لا تفعلوا هذا. إنه أمر غبي وسيكون كابوساً سياسياً إذا تحقق".

 

ومع ذلك ، في أوائل عام 2022 ، أبلغت مجموعة عمل وكالة الاستخبارات المركزية مجموعة سوليفان المشتركة بين الوكالات: "لدينا طريقة لتفجير خطي الأنابيب".

 

وما حدث بعد ذلك كان مذهلاً، ففي 7 فبراير، قبل أقل من 3 أسابيع من الغزو الروسي لأوكرانيا الذي كان يبدو حتمياً، التقى بايدن في مكتبه بالبيت الأبيض مع المستشار الألماني أولاف شوتلز، الذي أصبح حينها وبقوة في الفريق الأميركي بعد بعض التذبذب. وفي المؤتمر الصحافي الذي أعقب ذلك، قال بايدن بتحد: "إذا غزت روسيا.. لن يكون هناك نورد ستريم 2 بعد الآن. سنضع حداً له".

 

وأعرب العديد من المشاركين في التخطيط لمهمة تفجير خط الأنابيب عن استيائهم مما اعتبروه إشارات غير مباشرة إلى الهجوم.

 

وقال المصدر: "كان الأمر أشبه بوضع قنبلة ذرية على الأرض في طوكيو وإخبار اليابانيين بأننا سنقوم بتفجيرها. كانت الخطة هي تنفيذ الخيارات بعد الغزو وعدم الإعلان عنها. بايدن ببساطة لم يفهم ذلك أو تجاهله".

 

"طيش بايدن"

 

اعتبر هيرش أن "طيش بايدن ربما أحبط بعض المخططين، لكن ذلك خلق أيضاً فرصة. ووفقاً للمصدر، قرر بعض كبار المسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية أن تفجير خط الأنابيب لم يعد من الممكن اعتباره خياراً سرياً، لأن الرئيس أعلن للتو أننا نعرف كيفية القيام بذلك".

 

وتم خفض مستوى خطة تفجير "نورد ستريم 1 و 2" فجأة من عملية سرية تتطلب إبلاغ الكونجرس، إلى أخرى اعتبرت عملية استخباراتية سرية للغاية بدعم عسكري أميركي.

 

ولم يكن لأعضاء مجموعة العمل التابعة للوكالة أي اتصال مباشر بالبيت الأبيض، وكانوا متحمسين لمعرفة ما إذا كان الرئيس يعني ما قاله أم لا، أي إذا كانت المهمة جاهزة الآن. ويقول المصدر: "عاد بيل بيرنز وقال، افعلوها".

 

تنفيذ العملية

 

كانت النرويج المكان المثالي لتأسيس المهمة، ففي السنوات القليلة الماضية من الأزمة بين الشرق والغرب، وسع الجيش الأميركي وجوده بشكل كبير داخل النرويج، التي تمتد حدودها الغربية لمسافة 1400 ميل على طول شمال المحيط الأطلسي وتندمج فوق الدائرة القطبية الشمالية مع روسيا.

 

ووفرت وزارة الدفاع الأميركية "البنتاجون" وظائف وعقوداً ذات رواتب عالية، وسط بعض الجدل المحلي، من خلال استثمار مئات الملايين من الدولارات لتحديث وتوسيع منشآت البحرية والقوات الجوية الأميركية في النرويج.

 

وشملت الأعمال الجديدة راداراً متقدماً في أقصى الشمال كان قادراً على اختراق عمق روسيا.

 

وأصبحت قاعدة للغواصات الأميركية تم تجديدها حديثاً، والتي كانت قيد الإنشاء لسنوات، جاهزة للعمل وأصبح بإمكان المزيد من الغواصات الأميركية العمل عن كثب مع نظيراتها النرويجية لمراقبة موقع نووي روسي رئيسي على بعد 250 ميلاً إلى الشرق، في شبه جزيرة كولا. كما وسعت أميركا بشكل كبير قاعدة جوية نرويجية في الشمال وسلمت للقوات الجوية النرويجية أسطولا من طائرات الدوريات "P8 Poseidon" التي صنعتها شركة "بوينج" لتعزيز تجسسها بعيد المدى على كل ما يتعلق بروسيا.

 

وفي المقابل، بحسب التحقيق الاستقصائي، "أغضبت الحكومة النرويجية الليبراليين وبعض المعتدلين في برلمانها في نوفمبر الماضي من خلال تمرير اتفاقية التعاون الدفاعي التكميلي. وبموجب الاتفاق الجديد، سيكون للنظام القانوني الأميركي ولاية قضائية في بعض المناطق المتفق عليها في الشمال على الجنود الأمريكيين المتهمين بارتكاب جرائم خارج القاعدة، وكذلك على المواطنين النرويجيين المتهمين أو المشتبه في تدخلهم بالعمل في القاعدة".

 

وكانت النرويج واحدة من الموقعين الأصليين على معاهدة حلف "الناتو" في عام 1949، في الأيام الأولى من الحرب الباردة. واليوم، القائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي هو ينس ستولتنبرج، وهو مناهض للشيوعية، وشغل منصب رئيس وزراء النرويج لمدة 8 سنوات قبل أن ينتقل إلى منصبه الرفيع في "الناتو"، بدعم أميركي، في عام 2014. وقد كان متشدداً في كل ما يتعلق ببوتين وروسيا وتعاون مع مجتمع الاستخبارات الأميركي منذ حرب فيتنام. وتم الوثوق به تماماً منذ ذلك الحين. وقال المصدر: "إنه القفاز الذي يناسب اليد الأميركية".

 

بالعودة إلى واشنطن، عرف المخططون أن عليهم الذهاب إلى النرويج. وقال المصدر الذي تحث إليه هيرش "لقد كرهوا الروس، وكانت البحرية النرويجية مليئة بالبحارة والغواصين الرائعين الذين لديهم أجيال من الخبرة في التنقيب عن النفط والغاز في أعماق البحار المربحة للغاية".

 

كما يمكن الوثوق بهم للحفاظ على سرية المهمة (إذ ربما كان للنرويجيين مصالح أخرى أيضاً، فإذا تم تدمير "نورد ستريم"، سيسمح ذلك للنرويج ببيع المزيد من الغاز الطبيعي الخاص بها إلى أوروبا).

 

وفي وقت ما من شهر مارس، سافر عدد قليل من أعضاء الفريق إلى النرويج للقاء الخدمة السرية النرويجية والبحرية. وكان أحد الأسئلة الرئيسية هو أين بالضبط أفضل مكان لزرع المتفجرات في بحر البلطيق؟

 

وسارعت البحرية النرويجية إلى العثور على المكان الصحيح ، في المياه الضحلة لبحر البلطيق على بعد أميال قليلة من جزيرة بورنهولم الدنماركية. وامتدت خطوط الأنابيب على بعد أكثر من ميل على طول قاع البحر الذي كان على عمق 260 قدماً، وكان ذلك في نطاق قدرات الغواصين، الذين سيغوصون بمزيج من الأكسجين والنيتروجين والهيليوم المتدفق من خزاناتهم ، ويشحنون متفجرات (C4) وزرعها على خطوط الأنابيب الأربعة بأغطية واقية خرسانية.

 

وسيكون هذا عملاً شاقاً ويستغرق وقتاً طويلاً وخطيراً، لكن المياه قبالة بورنهولم كانت لها ميزة أخرى، فلم تكن هناك تيارات مد وجزر كبيرة، وهو الأمر الذي كان سيجعل مهمة الغوص أكثر صعوبة. وبعد قليل من البحث ، كان الأميركيون هناك.

 

حرب الألغام "أقل بريقاً"

 

في هذه المرحلة، ظهرت مجموعة الغوص العميق الغامضة التابعة للبحرية بمدينة بنما سيتي مرة أخرى. وقال المصدر: "أفضل الغواصين ذوي مؤهلات الغوص العميق هم مجتمع صغير، ويتم تجنيد الأفضل فقط للعملية ويطلب منهم الاستعداد لاستدعائهم إلى وكالة الاستخبارات المركزية في واشنطن".

 

وكان لدى النرويجيين والأميركيين قلق من أن أي نشاط غير عادي تحت الماء في المياه قبالة بورنهولم قد يلفت انتباه القوات البحرية السويدية أو الدنماركية ، التي يمكنها الإبلاغ عنه.

 

وكانت الدنمارك أيضاً واحدة من الموقعين الأصليين على معاهدة "الناتو" وكانت معروفة في مجتمع الاستخبارات بعلاقاتها الخاصة مع بريطانيا. وقد تقدمت السويد بطلب للانضمام إلى عضوية حلف شمال الأطلسي، وأظهرت مهارتها الكبيرة في إدارة أنظمة الاستشعار الصوتية والمغناطيسية تحت الماء التي نجحت في تعقب الغواصات الروسية التي كانت تظهر أحياناً في المياه النائية للأرخبيل السويدي.

 

وانضم النرويجيون إلى الأميركيين في الإصرار على ضرورة إطلاع بعض كبار المسؤولين في الدنمارك والسويد بشكل عام على نشاط الغوص المحتمل في المنطقة. وبهذه الطريقة، يمكن لشخص أعلى أن يتدخل ويبقي التقرير خارج سلسلة القيادة، وبالتالي عزل عملية خط الأنابيب.

 

وطُلب من السفارة النرويجية التعليق على هذه القصة، ولم تستجب.

 

وأشار التحقيق الاستقصائي إلى أن النرويجيين كانوا مفتاحاً لحل العقبات الأخرى، إذ كان من المعروف أن البحرية الروسية تمتلك تكنولوجيا مراقبة قادرة على اكتشاف وإطلاق الألغام تحت الماء. وكانت الأجهزة المتفجرة الأميركية بحاجة إلى التمويه بطريقة تجعلها تبدو للنظام الروسي كجزء من الخلفية الطبيعية، وهو أمر يتطلب التكيف مع الملوحة المحددة للمياه. وكان لدى النرويجيين حل.

 

وكان لدى النرويجيين أيضاً حل للمسألة الحاسمة حول متى يجب أن تتم العملية، ففي شهر يونيو من كل عام ، على مدى السنوات الـ 21 الماضية، قام الأسطول السادس الأميركي، برعاية مناورة كبيرة لحلف "الناتو" في بحر البلطيق شاركت فيها عشرات سفن الحلفاء في جميع أنحاء المنطقة، وتعرف المناورات التي جرت في يونيو باسم "عمليات البلطيق 22" أو "BALTOPS 22". واقترح النرويجيون أن يكون هذا هو الغطاء المثالي لزراعة الألغام.

 

وقدم الأميركيون عنصراً حيوياً واحداً، حيث أقنعوا مخططي الأسطول السادس بإضافة تدريبات بحث وتطوير إلى البرنامج. وشارك في التمرين، كما أعلنته البحرية، الأسطول السادس بالتعاون مع "مراكز الأبحاث والحرب" التابعة للبحرية. وكان الحدث في البحر قبالة ساحل جزيرة بورنهولم بمشاركة فرق الناتو من الغواصين الذين يزرعون الألغام، مع استخدام الفرق المتنافسة لأحدث التقنيات تحت الماء للعثور على الألغام وتدميرها.

 

وكان من المقرر أن يصبح ذلك تمريناً مفيداً وغطاء بارعاً. وسيقوم غواصو بنما سيتي بعملهم وستكون متفجرات "C4" في مكانها بحلول نهاية المناورات مع إرفاق جهاز ميقاتي لمدة 48 ساعة.

 

لكن كان لدى واشنطن أفكار أخرى وكان البيت الأبيض قلقاً من أن مدة يومين لتفجير تلك المتفجرات ستكون قريبة جداً من نهاية التمرين، وسيكون من الواضح تورط أميركا. ولذلك، كان للبيت الأبيض طلب جديد: "هل يمكن التفجير في وقت لاحق؟".

 

تفجير خطوط الأنابيب

 

كان بعض أعضاء فريق التخطيط غاضبين ومحبطين من تردد بايدن الظاهر، على ما يزعم التحقيق الاستقصائي، مشيراً إلى أن غواصي بنما سيتي تدربوا مراراً وتكراراً على زراعة متفجرات "C4" على خطوط الأنابيب، كما لو كانوا يفعلون خلال المناورات، ولكن الآن كان على الفريق في النرويج التوصل إلى طريقة لمنح بايدن ما يريد، ألا وهو القدرة على إصدار أمر تنفيذ ناجح في الوقت الذي يختاره.

 

وبدأ الأمريكيون العاملون في النرويج العمل بإخلاص على المشكلة الجديدة، وهي كيفية تفجير متفجرات "C4" عن بعد بناء على طلب بايدن. ولم تكن هناك طريقة للفريق في النرويج لمعرفة متى قد يضغط الرئيس على الزر، هل سيكون في غضون أسابيع قليلة أم عدة أشهر أم بعد نصف عام أم أكثر؟

 

وكان من المفترض، وفقاً لهيرش تفجير "C4" المتصلة بخطوط الأنابيب بواسطة عوامة سونار تسقطها طائرة في غضون مهلة قصيرة، لكن الإجراء تضمن أكثر تقنيات معالجة الإشارات تقدماً. وبمجرد وضعها في مكانها، كان من الممكن تشغيل أجهزة التوقيت المتصلة بأي من خطوط الأنابيب الأربعة عن طريق الخطأ بسبب مزيج معقد من ضوضاء خلفية المحيط في جميع أنحاء بحر البلطيق الذي يعج بحركة التجارة من السفن القريبة والبعيدة والحفر تحت الماء والأحداث الزلزالية والأمواج وحتى الكائنات البحرية.

 

ولتجنب ذلك، فإن عوامة السونار، بمجرد وضعها في مكانها، ستصدر سلسلة من الأصوات النغمية الفريدة منخفضة التردد، تشبه إلى حد كبير تلك المنبعثة من الفلوت أو البيانو، والتي سيتم التعرف عليها بواسطة جهاز التوقيت، وبعد ساعات تأخير محددة مسبقاً، تطلق المتفجرات. وكان الهدف من ذلك هو تجنب إرسال أي إشارة خطأ أخرى تتسبب في التفجير.

 

وفي 26 سبتمبر 2022، قامت طائرة مراقبة "P8" تابعة للبحرية النرويجية برحلة روتينية على ما يبدو وأسقطت عوامة "سونار". وانتشرت الإشارة تحت الماء، في البداية إلى "نورد ستريم 2" ثم إلى "نورد ستريم 1".

 

وأضاف هيرش أنه "بعد ساعات قليلة تم تفجير متفجرات "C4" عالية الطاقة وتم إيقاف تشغيل 3 من خطوط الأنابيب الأربعة. في غضون بضع دقائق، انبعثت كميات هائلة من غاز الميثان التي بقيت في خطوط الأنابيب المغلقة على سطح الماء وعلم العالم أن شيئاً لا رجعة فيه قد حدث.

 

التداعيات

 

في أعقاب تفجير خط الأنابيب مباشرة، تعاملت وسائل الإعلام الأميركية مع الأمر على أنه لغز لم يتم حله.

 

ورداً على سؤال في مؤتمر صحافي خلال سبتمبر الماضي حول عواقب تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا الغربية، وصف بلينكن اللحظة بأنها قد تكون جيدة.

 

وقال: "إنها فرصة هائلة لإزالة الاعتماد على الطاقة الروسية مرة واحدة وإلى الأبد، وبالتالي سحب فرصة استخدام الطاقة كسلاح من جانب (الرئيس) فلاديمير بوتين كوسيلة لتعزيز مخططاته الإمبراطورية. هذا أمر مهم للغاية ويوفر فرصة استراتيجية هائلة للسنوات القادمة، ولكن في الوقت نفسه نحن مصممون على بذل كل ما في وسعنا للتأكد من أن عواقب كل هذا لا يتحملها المواطنون في بلداننا أو في جميع أنحاء العالم".

 

وفي الآونة الأخيرة، أعربت فيكتوريا نولاند عن ارتياحها لزوال أحدث خطوط الأنابيب. وفي شهادتها في جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في أواخر يناير، قالت للسيناتور تيد كروز: "أنا مثلك وأعتقد أن الإدارة ممتنة جداً لمعرفة أن نورد ستريم 2 هو الآن، كما تحب أن تقول، قطعة كبيرة من المعدن في قاع البحر".

 

وكان لدى المصدر وجهة نظر أكثر وضوحاً لقرار بايدن بتخريب أكثر من 1500 ميل من خط أنابيب غازبروم مع اقتراب فصل الشتاء. وقال عن الرئيس: "حسنا.. يجب أن أعترف أنه رجل شجاع. قال إنه سيفعل ذلك، وقد فعل".

 

ورداً على سؤال حول سبب اعتقاده أن الروس فشلوا في الرد، قال بسخرية: "ربما يريدون القدرة على فعل نفس الأشياء التي فعلتها الولايات المتحدة".

 

البيت الأبيض ينفي

 

من جانبه، نفى البيت الأبيض بشكل قاطع ما أورده تقرير سيمور هيرش، الذي وصفته أدريان واتسون المتحدثة باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بأنه "من نسج الخيال".

 

وأعاد متحدث باسم وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تأكيد نفي البيت الأبيض، واصفاً التقرير بأنه "كاذب تماماً وبشكل مطلق".

 

وردا على سؤال حول ادعاء هيرش بأن أوسلو دعمت العملية، قالت وزارة الخارجية النرويجية إن "هذه المزاعم كاذبة".

 

الفيس بوك
تويتر

جميع الحقوق محفوظة YemenFreedom ---- تصميم وبرمجة ALRAJIHI